شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تدهور صحة خالتي ((خديجة))
انقضت فترة من الزمن لا سبيل اليوم إلى تحديدها، أخذت خلالها الأحوال تتغيّر، ليس في حياتنا فقط، وإنما ـ على الأرجح ـ في حياة الناس من حولنا... ولم يكن من السهل أن أفهم أو أن أعي حقيقة ما يجري، ولكن ما أسميه (حاسّة التخمين) جعلتني أدرك أن هناك أخطارا كبيرة تزحف على حلب وسكانها ونحن ـ بطبيعة الحال ـ من هؤلاء السكان.
فمع أن جدّي كان مايزال قادرا على العمل في حفر الأختام في دكانه بالقرب من (تلك) السرايا، وبما يتجمّع له من المال القليل، كان يستكمل ما تحتاجه خالتي من الغذاء، ومالابد منه من المواد الأخرى، كحبّات من الطماطم، والخيار، وأحيانا وفي النادر ـ كمية هزيلة من أوراق الكرنب، تتجنّب أمي طهوها، لان لمائها رائحة عفنة، تضايق خالتي، فنأكلها نيئة بالملح والخل، تعجبنا، فما أسرع ما تلتهم قبل غيرها... ويعلّق جدّي أحيانا بأنها مغذية لا تقل عن اللحم... مع ذلك فقد طرأ ذات يوم، أن مقدار الجراية من أرغفة خبز الشعير هبط إلى أقل من النصف... أو هكذا ما سمعت أمي تخبر به (لتافت باجي)... و(أنهم) ـ ولا أدري من هم ـ قد قطعوا (القنّيطة)، وعلب اللحم المفروم التي تعطي كل أسبوعين. وإلى جانب هذا الطارىء كانت المشكلة التي يتحدث عنها جدّي، وأمي، وتشترك في التعليق هذه العجوز، وبلهجة تنم عن التخوّف والقلق، هي أن الذين لم يموتوا في الحرب من عساكر السلطان يتجّمعون في حلب... كلهّم في حلب، ومنها، لا أدري إلى أين؟؟؟ وهذا هو السبب في نقص كمّيات الجراية... بل لم تمض فترة أخرى من الزمن، حتى رأينا جدّي يعود من رحلته الصباحية التي يقوم بها يوميا لاستلام هذه الجراية... والكيس المعهود خاليا تماما... ويقول لأمي، بصوت يكاد يختنق في تكسّره وتعثر مخارجه:
:ـ. ممكن، ما في (تعيين)... خلاص... ما في بكرة... ما في أبدا... خلاص..
وهو يقصد (تعيين) هذه ـ المقرر له ولأسرته من الجراية ـ. ورأيت كيف يقع الخبر على أمّي... أطالت التحديق في وجهه، كأنها لا تصدق... ثم أغضت ومرت بكفيها على عينيها، تمسح الدموع... ثم تقول:
:ـ. الله كريم يا بويا..
ويردد جدّي (الله كريم)... ثم يضيف في همس لئلا تسمعه خديجة، ما فهمت من أمّي بعد ذلك: (أن انقطاع الجراية أو توقفها... لابد أن يصرف الناس عن حفر الأختام) لأنهم يحفرون هذه الأختام، لاستلام المقرر لهم من التموين.. أو من.. الجراية..
وعندما استوعبت (لتافت باجي) هذه الأخبار، بدا عليها من الاحساس بالرعب ما جعلها تكاد تسقط على الأرض لولا أن تداركتها أمّي، وذلك العكاز... والغريب ـ مع ذلك ـ أن تقول لأمي كلاما مطمئنا، أو شيئا مما يعني (ولا يهّمك)... وقبيل صلاة المغرب في ذلك اليوم رأيت أمّي تختار فستانا للخروج، ترتديه، ثم تختار فستانا آخر من القطيفة عميق الخضرة في لونه، تصر على خديجة أن ترتديه أيضا.... ولا تنساني أنا أيضا فتجعلني ارتدي ثوبا بدا ضيقا وقصيرا على جسمي، ولكن لم يكن لديها سواه... وفهمت، أننا ننتظر جدّي لننتقل إلى منزل (لتافت باجي)، إذ نحن مدعوون عندها..
وبعد صلاة المغرب، التي أدّاها جدي في غرفته، اعتمر عمامته، وجبّته، وعبرْ ممرّ قصير، وقفنا أمام باب صغير ولكنّه انيق، مزخرف بنقوش... وسمعنا صوتها المرتعش، وهي تقول: بالتركية:
:ـ. بيورونز... بيورونز...
وهي التي تعني: (تفضّلوا.. تفضّلوا.)
وقبل أن نخطو خطوة أو أخرى، في ممر صغير.. كانت (لتافت باجي) تدب على عكازها العتيد، وهي تردد عبارات الترحيب: (هوش جيلدينز... صفا جيلدينز... بيورونز.. بيورونز) مما تعلّمت، أنه يعني (اهلا.. وسهلا.. تفضلوا..) أو شيئا من هذا القبيل.
وفي غرفة واسعة، فخمة الأثاث، وعلى الأخص تلك الستارة العريضة على النافذة أو الشبّاك المطل على الشارع. ستارة، ما أزال أذكر أنها مغطاة بالدانتيلا وردية اللون... أخذ جدي مقعده الفخم، وأخذنا بدورنا مقاعدنا... أما هي (لتافت باجي).. فقد أصرّت على أن تقف مرحّبة لحظات طالت... ثم جلست على كرسي صغير، في آخر الصالون يواجه جدّي... الذي، كانت أمامه منضدة، مغطّاة هي أيضا بقماش ثمين... ويتوسّط المنضدة طبق كبير من البلّور الأبيض المزخرف، فيه كميّة لا بأس بها من مقشر اللوز، والجوز... وحبات فاخرة من البندق... والفستق... واداة لامعة على طرف الطبق ـ عرفت بعد عمر طويل ـ أنها كَسّارة للبندق.
هذه إذن حياة هذه العجوز السوداء، وهي بالنسبة لي أنا بالذات في تلك الأيام السوداء التي بدأت في البابور الذي ارتحلنا عليه إلى الشام، وماتزال على ما هي عليه... هي بالنسبة لي لا تقل أبهارا، وترفا، عن بيت الكيخيا، في ذلك الصالون الفخم الذي تضيئه تلك المصابيح الكبيرة المزخرفة، عندما نجلس فيه وإلى جانبي (مطيعة) تهمس بتعليقاتها على خوفي من السلحفاة.
بعد أن دارت أحاديث بالتركية بين الجميع، نهضت لتافت باجي، والتمست بأدب جم أن تصحبها أمّي... لا أدري ماذا كانت تريد... فقد همت خالتي أن تنهض أيضا.. ولكن ما أسرع ما انتفضت العجوز... مستكثرة أن تراها تترك مقعدها... إذ قالت كلاما لا شك أنه كان يعني شيئا من قبيل: (العروس... الجميلة... تتحرك... وتخدم؟؟؟ مستحيل)... وخرجت من الغرفة مع أمي لتعودا، بصينية، تحملها أمّي... فيها برّاد الشاي والأكواب، من الصيني الأحمر الموشى بالذهب أو باللون الذهبي... وأطباق فيها ألوان من الكعك... أذكر منها ـ (الغريّبة).
كانت (لتافت باجي) أكثرنا التفاتا واهتماما بخالتي.. لا تنفك تردد كلمات تدليل بالتركية، مما تعلّمت فيما بعد أنها تعني (حبيبتي... صغيرتي الدلوعة... جميلتي.. روحي) الخ... وقد لفتت نظر جدي وأمّي حين قالت ما معناه: (أظن أن عروستي محتاجه إلى الراحة) ونههضت من مقعدها، وتقدمت نحو عروستها، تريد أن تساعدها على النهوض..
كانت خديجة تحاول أن تقاوم ما يزحم صدرها من السعلة... ولكن دون جدوى... فأخذت تسعل، ووجهها مستديرا إلى الخلف، وكفهّا بالمنديل فيه على فمها، تحبس ما يمكن أن تنفثه السعلة من رذاذ.
ونهض جدي ومعه أمّي ووقفا إلى جانب العجوز... وفي نظراتهم الأرتباك والقلق بل، ربما، الخوف والهلع... وسرعان ما اتضح للجميع أنها تحاول أن تنهض ولكنّها لا تستطيع... استبعد جدّي العجوز وأمّي عن موقفهما، واحتضن خالتي بيسراه... وبالعصَاه ساقيها وحملها... واتجه مسرعا نحو الباب إلى منزلنا... ظلّت (لتافت باجي) تهيب به بلهجة محتدمة، ان يريحها على (الكنبة) في الغرفة... ولكنه لم يلتفت إليها ولحقنا به أنا وأمّي... ولم تتأخر لتافت باجي، إلا ريثما ارتفقت عكازها.. وذلك المصباح الصغير الذي رأيناه في يدها في أول يوم دخلنا فيه منزلنا تستضييء به وهي تهبط من الدور العلوي. وأسرعت وأمي تشعل الفوانيس، و (اللمبة) في غرفة خالتي،
وضعها جدّي على سريرها... وانحني عليها، يسألها... كيف هي الآن؟؟؟ وسمعناها تجيب بصوت أقرب إلى الهمس مع أنفاسها المتهدّجة: (الحمد لله)... ورددت بعدها (لتافت باجي)... (الحمد لله.. الحمد لله) ومعها، ولكن بصوت يزحمه محاولة التماسك عن البكاء، كلمات التدليل، تتزاحم وتتلاحق، وكأنّها تسترضيها، أو تتأسف على أنها كانت هي السبب فيما طرأ على حالة خالتي من تطور، أحسسنا أنه خطير... وجاءت أمي وهي تحمل كوبا من الماء يسطع معه أريج الورد) الذي تدّخره في زجاجة صغيرة قالت أكثر من مرة أنه (ماء ورد المدينة) ولا ترش منه في كوب الماء الذي تسرع إلى تقديمه في الحالات الطارئة، إلا بحساب وتحسّب، وهي تردد (اللهم صل على الحبيب... اللهم صل على الحبيب..) ويتابعها من يسمع (اللهم صل وسلم وبارك عليه)...
وانحنى جدي على خالتي، يريد أن يجلسها لتشرب... هّونت عليه المحاولة، إذ رأيناها تجلس، وتتناول كوب الشاي بيد مرتعشة، تداركتها أمّي، وفي يدها ملعقة ملأتها بعلاج لتسكين السعال من زجاجة تناولتها من الرف. شربت جرعات من الماء، ثم شربت العلاج... ومرة أخرى أخذت تردد (الحمد لله)... وعادت تستلقي وبرأسها المتوجّ بشعرها الأشقر على الوسادة، وقد كنت أنا في لحظات هذه المشاهد، جالسا في أحد أركان الغرفة، أرى وأسمع ويتزايد عندي الاحساس بأن الأمور ليست على ما يرام... شيء أو أشياء كثيرة تتغيّر وتتعقد، فلا أفهم إلا أن الجميع يخافون من مجهول بالنسبة لي، وإن كان معلوما عندهم فلا أدري أنا ما هو على أية حال.
سمعتها تقول بصوت أكثر وضوحا
:ـ. فين عزيز يا ستيتة؟؟؟
وقبل أن أسمع أمّي تجيبها، قفزت، وأسرعت إليها... تنحي جدّي عن السرير وسحبني من يدي يقرّبني إليها... قالت وهي تحدّق في وجهي بعينيها، تحت أهدابها التي أذكر اليوم أنها تلقي ظلا على وجنتيها... قالت:
:ـ. أنت قلت، في البستان اللي جبت منّو الخبيزة... فيه ورد... وزهر أصفر... موكده؟؟
:ـ. أيو يا خالتي... فيه زهر أصفر كتير كتير بالمرة..
:ـ. وايش كمان؟؟؟
:ـ. والخبيزة..
:ـ. لأ.. وايش كمان...
:ـ. أيوه يا خالتي فيه كمان شي قالوا البزورة اسمه (سالبين)... لكن ما يتاكل.
:ـ. ضحكت، بصوت مسموع... ضحكة خفيفة ثم قالت:
:ـ. طيب... لكن... تبغا تروح مرة تانية؟؟؟
:ـ. بس أمي تحبسني... مع الفيران.
ضحكت... وقالت
:ـ. يا ستيتة خليه يروح.. خليه يجيب من الورد والزهر الأصفر.. والخبيّزة كمان. والتفت إلى أمّي وقد جلست على الأرض، إلى جانب (لتافت باجي)... وجدّي واقف وهو مايزال يعتمر عمامته وجبّته عند نهاية السرير.. رأيت عيني أمّي محمرتين دامعتين مع أني لم ألاحظ أن هناك ما يستلزم البكاء... فهذه خالتي تتحدث وتضحك... التزمت الصمت منتظرا أن تقول أمّي أي كلمة.. ولكنها أغضت.. ثم رفعت كفيها إلى وجهها تمسح بهما الدموع.
كدت أسألها عمّا بها... ولعلّي كنت أنتظر أن تقول أنها سوف تأذن لي بالذهاب إلى ذلك الذي سميناه (البستان)... كما اقترحت خالتي... ولكن خرست حين رأيت جدّي يكاد يبكي هو أيضا.
ماهي المسألة.. ما الذي حدث؟؟؟ أسئلة. كانت تتلاحق في ذهني وأنا لا أرى ما يبرر أن تبكي أمي.. وجدي.. وهذه العجوز السوداء، التي التزمت الصمت ورأسها منحن على صدرها.
أحسست بيد خالتي تلتف عليّ، وتشدني إلى صدرها... طاوعتها وكدت أستقر بجسمي كله على هذا الصدر الحنون... ولكن... جدّي مد يده في هذه اللحظة وهو يقول:
:ـ. بعدين... بعدين... دحّين إنت لازم نوم..
أراد أن أترك مكاني في حضنها، وأن أذهب للنوم... وقبل أن أنهض كما أمرني جدّي كانت خالتي تسعل سعالها، وتضع كفها بالمنديل فيه على فمها... نهضت وابتعدت عنها... وعدت إلى مكاني في أحد زوايا الغرفة.. حيث اعتدت أن أنام على مرتبة أو هو لحاف صغير...
غالبني النعاس... وأنا أرى خالتي في سريرها... والجميع حولها... وفي ذهني آمل أن توافق أمّي على أن أذهب إلى البستان، لأجيء منه بالخبيّزة. وبالورد والزهر الأصفر الذي طلبته مني منذ قليل..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :785  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأربعون

[( شعر ): 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج