اصابة جارنا ((أبو داود)) بحمى التيفوس |
والذعر من انتشار هذا المرض الوبائي |
بعد ان افضت ((لتافت باحى)) بمعلوماتها الضافية عن ((ابو دواد))...حياته... وابنه دواد الذي كان نجارا ماهرا.. ينفق من دخل عمله على الاسرة، بعد ان تقاعد ابوه عن العمل في ((السرايا))... ثم ابنه عبد الرحمن الذي كان مدرّسا في المدرسة المجاورة ثم اصيب بحمى ((التيفوس)) ومات، ولحقه داود، وها هو الأب نفسه يلحقهما... بعد حديثها الطويل مدّت يدها المرتشعة إلى صدرها حيث اخرجت منديلا نظيفا، ثم ازاحت نظارتها عن عينيها وأخذت ترقأ الدموع وقد غطت جوانب انفها الافطس المفلطح... واستدارت تتجه نحو الباب وهى تتوكأ على عصاها وتردد بصوتها المرتعش الباكى ((انا لله وانا اليه راجعون)).. |
وبينما كنت أواصل التهام نصيبى من الخبز وقطعة الجبن، وحبّة الخيار الصغيرة، ادهشني جدّى حين هبّ ناهضا، وهو يمسح فمه بمنديله، ولحق بالعجوز، وهو يستوقفها، ثم يلتفت إلى أمى وخالتي، يحدثهما بنبرة محذرة... لم افهم منها شيئاً... ولكن بعد ان خرج وراء العجوز قالت أمي: |
:ـ. طيب... كان لازم هوّه كمان، ما يدخل البيت... بيقول أنّو هادى الحمى تعدى. وقالت خالتي معقبة: |
:ـ ولتافت باجي كمان... دحّين راحت، ورايحة ترجع تجينا من بيت الميت... |
يعني تجيب لنا الحمى معاها... |
واضافت أمي: |
:ـ أنا سمعت من حماة... انو هادي الحمى هو اللى بتموّت الناس...في الشام، وفي حماه.. وفي حلب... وحتى في اسطمبول... وكمان بيقولوا مالها دوا... حتى عساكر السلطان، بيموتوا بسببها.. |
والتفتت إلى خالتي وهي تقول: |
:ـ انت سامع؟؟؟ يعني لازم ما تخرج من باب الزقاق ابدا.. |
ولم يكن في وسعي طبعا ان افهم العلاقة بين الخروج من باب الزقاق، وبين هذه الحمى التي يموت الناس بسببها... وارتفعت في هذه اللحظة اصوات الباكيات في بيت ((ابوداود)) وادركت، أو لعلى تصورت ان هذا الموت، شئ رهيب مخيف إلى أقصى حد... وطافت بذهنى ـ وأنا ما ازال التهم الخبز والخيار ـ ذكرى جدتي ـ والدة أمي ـ التي قالوا انها يوم ماتت، نقلوها إلى ((الجنة))... والجنة كما ظللت اسمع، هي المكان الذي فيه الكثير من الأشجار والينابيع، والطيور، والأزهار... وحتى الورد، والتغارى التي تغرّد وتنادي في تغريدها ((خديجة)) وتردد ((غدا... خديجة غدا...غدا...))... وتذكرت ذلك القفص الصغير، الذي كانت تحمله معها تلك الفتاة السوداء التي تحمل أخي عبدالغفور على خاصرتها يوم خروجنا من بيتنا في زقاق القفل بالمدينة إلى ((البابور))... كان في القفص هذا النغرى الذي غاب وأرجّع أن الفتاة السوداء قد عادت به إلى البيت بعد سفرنا... وتساءلت ربما للمرة الأولى: اذا كان الذين يموتون ينقلون إلى تلك الجنة... فأين هي؟؟؟ ولماذا لا نسافر اليها مادمنا نسافر منذ ذلك اليوم الذي ركبنا فيه ذلك البابور من المدينة إلى الشام وما بعدها من هذه البلدان. ولكن، في هذه اللحظة من تلاطم الاسئلة في ذهني، عاد نواح الباكيات يرتفع، ورأيت في عيون أمي وخالتي دموعا تكاد تنذرف، فإذا بي اتساءل بيني وبين نفسي،.. ترى ما الذي يجعل كل هؤلاء يبكون، او يبكين، مادام المعروف ان الذي مات ذاهب إلى تلك الجنة التي قالوا، ان جدّتي. وحتى عبدالغفور قد ذهبا اليها.؟؟؟ ومع ارتفاع نواح الباكيات، وما أخذ يزحف على ملامح أمّي وخالتي من التغيّر معبرا عن الفجيعة والخوف أو هو الحزن والأسى، داهمت ذهني مناظر تلك العربات التي تحمل ادميين قال جدي حين رأيناها لأول مرة في الشام، انهم ((أموات))، وأخذ يقرأ الفاتحة، ويردد ((انا لله وانا اليه راجعون...)) وما أكثر العربات التي رأيناها بعد ذلك تنقل هؤلاء الأموات، ومنها هذه التي رأيناها صباح اليوم، ونحن في طريقنا على امتداد شارع قلعة حلب، لاستلام الجراية من الخبز، ولشراء ما اشتراه جدي من المأكولات... جميعهم ينقلون إلى ((الجنّة)) دون شك. |
... فأين هي؟؟؟ ما الذي يمنع جدي أن يأخذني، أو يأخذنا جميعا اليها؟؟؟ |
نهضت أمي، وتابعتها خالتي وفي حضنها عبد المعين، واتجهتا نحو باب الغرفة ثم إلى الفناء الصغير... حيث كان نواح الباكيات يملأ الفضاء حولنا. وارتفع صوت خالتي فجأة يستوقف أمي التي رأيتها تتجه نحو باب الزقاق.. |
:ـ. لا يا ستيته.. لا تروحي... انتي عارفة انّو هادى الحمى تعدى... |
:ـ. طيب وابويا..؟؟ ايش قاعد يسوّي مع لتافت باجى؟؟؟ ابغا اقول لهم لا يمسكوا الميت. |
:ـ. باين يا ستيته انهم خارجين بالميت دحّين... شوفي صوت البنات قريب من الباب يمكن يكونوا في الزقاق. تعالى انتى.. وابويا دحّين يجو..وقبل ان تصل أمي إلى باب الزقاق، اقتنعت فيما يبدو بعدم الخروج فوقفت.. واستدارت نحو موقفى انا وخالتي على باب الغرفة... وقالت تخاطبني: |
:ـ هات الملاية.. شوفها فوق الصندوق. |
أدركت أنها تنوي الخروج... تنوي ان تذهب إلى بيت هذا الذي مات... وملأني رعب شديد كاد يجمّد أوصالي... دخلت الغرفة، ورأيت الملاية فوق الصندوق كما قالت... فلم أتقدم لأخذها... وقفت بعيدا عنها.. بل سرعان ما جلست... وفي ذهني جميع هذه الأمور والأفكار التي ماتزال تتراكم عن الموت والأموات... وعن هذه الجنة التي يذهبون بهم إليها... لم أستطع أن أفهم سبب بكاء الباكيات، بل سبب هذا الخوف الذي انتابني أنا أيضا... ولأول مرة ربّما رأيت أو أحسست الدموع تتلاحق من عيني، وتملأ حتى أنفي، بحيث وجدتني استفرغه على كم ثوبي... سمعت صوتها تستعجلني... مرة وثانية وثالثة... ولكن لم أكن أستطيع حتى ان أرفع صوتي بأي كلمة.. |
أحسست بكفي خالتي تحتضن وجهي، وهي تهتف بي: |
:ـ عزيز.... عزيز... ايش بك يا عزيز؟؟؟ |
وقبل ان أجيب بشيء... أحسست أن أمّي داخلة وهي تعنّفني... كانت المائدة التي كنا نتناول حولها فطورنا ماتزال على الأرض... قالت بنبرتها الصارمة: |
:ـ. أقول لك جيب الملاية... تقوم تقعد تتسمّم؟؟؟ |
هذا الذي خطر لها وهي تراني جالسا، وخالتي ماتزال تحتضن وجهي بين كفيها الصغيرتين الرقيقتين |
:ـ. لا ياستيته... عزيز... قاعد يبكي... شوفى جبينه عرقان... يمكن ما هو قادر يقوم عسى ما تكون هادي الحمى...؟؟؟ |
وأسرعت أمّي إليّ،... جلست أمامي... أخذتني على صدرها وفي حضنها... ورأيت في عينها الفجيعة واللهفة والقلق وهي تردد: |
:ـ قولي خير يا خديجة.. برّة وبعيد... هاتي لي كاسة موية...شوفي في الصندوق قارورة ماء الزهر... هاتيها قوام... |
وبينما نحن على هذا الحال... دخل جدّي وهو يقول: |
:ـ فاطمة... شرشف.. شرشف قوام.. |
:ـ شرشف؟؟؟ شرشف ايه يابويا؟؟ شوف عزيز ما ادري ايش بو.. |
:ـ عزيز؟؟؟ |
وأسرع إليّ، وضع كفه على جبيني... وأخذ يتلو همسا... ثم رفع رأسه إلى أمي وهو يقول: |
:ـ ما في شي... عزيز... قوم... قوم دحّين سوا سوا... نروح (السرايا.) |
ثم التفت إلى أمي ، يستعجلها ان تعطيه (شرشف)... كان واضحا ان أمي لم تفهم شيئا... ولكنّها نهضت... وأخرجت من الصندوق الأسود قطعة مطويّة من القماش... زرقاء اللون... رآها جدي... فأسرع يقول |
:ـ. لا... لا لا... شرشف أبيض... |
:ـ. ايش تبغو به؟؟؟. الشرشف الأبيض، بنفرشه على المرتبة اللي بننام عليها. |
:ـ. هادا... ابو داود.. ما فيه فلوس.. ما فيي كفن... |
:ـ. طيب يا بويا... أهله يمكن عندهم شرشف أبيض.. قولوا لهم يعطوكم اللي تبغوه. |
:ـ. فيه ثلاثة شراشف بيض... لكن كلّه وسخ... كفن لازم يكون طاهر.. نظيف.. |
:ـ. طيب يا بويا... هادا الشرشف الأزرق طاهر نضيف... الشراشف البيضا نحن بننام عليها وقبل ان يتناول جدي قطعة القماش الزرقاء، سمعنا عكاز (لتافت باجي) وهي تتقدم في الفناء يسبقها صوتها المرتعكش الباكي... وهي تقول: |
:ـ. شيخ افندي.. شيخ افندي... |
وبلغتها التركية قالت ما فهم منه جدّي، إن مشكلة (الكفن) قد انتهت... ولكن بقيت مشكلة نقله من البيت إلى المقبرة... |
كانت أصوات النائحات ماتزال تتلاحق... حين أسرع جدي يتجه إلى الباب وهو يردد |
:ـ. لا حول ولا قوة إلا بالله.. |
وقالت أمّي تحدّث خالتي: |
:ـ. طيب، كيف يسوّوا... يعني يفضل الميت في البيت؟؟؟ ما عندهم تابوت.. وما في أحد يشيل الجنازة. |
:ـ. يعني أهل حلب هادي بيدفنوا اللي بيموتوا في بيوتهم؟؟ |
:ـ. لأ يا خديجة... أنا لما كنا في حماه سمعت أنهم في حلب، وفي الشام كمان بيخلّوا الحكومة هيّه اللي تشيل اللي بيموتوا... وتدفنهم في حفر كبيرة.. كل عشرة وعشرين مع بعض... |
:ـ. طيب ليه يا ستيته؟؟ |
:ـ. عشان اللي بيموتوا كتيرين... كتيرين بالمرة... بيلتقوهم أموات في الأزقة وفي المساجد... وحتى في الشوارع والأسواق... تقوم الحكومة تلمّهم، وتشيلهم في العربيات... وتدفنهم مع بعض في هادي الحفر... |
ولم يعد جدّي الينا، ومعه (لتافت باجي) إلاّ بعد فترة طويلة من الزمن... وحين دخل الغرفة، خلع عمامته عن رأسه، كما خلع جبّته السوداء، ومسح بمنديله الكبير العرق الذي كان يتفصّدّ من جبينه... واستلقى على إحدى المراتب التي كانت هي كل ما يكسو الغرفة من الأثاث. كان واضحا أنّه قام بجهد أرهقه أشد الارهاق... لم يجرؤ أحد على ان يوجّه إليه أي سؤال عن مصير جثمان (أبو داود)... كان عبد المعين في هذه اللحظات يرفع صوته بالمألوف من مناغاة الأطفال... أخذته خالتي عن الأرض إلى صدرها ثم نهضت تبتعد به عن الغرفة حرصا على عدم ازعاج جدّي... لاحظها، وهو مضطجع وذراعه على جبهته.. فقال |
:ـ. لا...لا تبتعدي به... وانتي يا فاطمة... سوّي شاي.. |
ونهضت أمّي مسرعة، وبعد أن خرجت إلى الفناء سمعناها تنادي (لتافت باجي)، ثم ابتعد صوتها... ممّا جعلني أدرك ان تلك العجوز، هي التي تزوّدنا بالشاي كما فعلت في الصباح. واستطاعت خالتي، ان تسكت صغيرها، وهي تناوله ثديها، وبدا ان جدّي قد أخذته سنة من النوم لحظات، وجدت ذهني خلالها يسترجع الكثير مما سمعت عن الموتى، وعن حكاية حاجة الميت إلى ما يسمّى الكفن، وأن مصير هؤلاء الذين يموتون، هو ان يدفنوا في الحفر الكبير... فهم إذن ، لا ينقلون إلى الجنة كما ظللت أسمع عنهم.. وتساءلت:ـ ترى لماذا يموتون ؟؟؟ بل لماذا يزعم الناس، أن الذين يموتون ينقلون إلى الجنّة؟؟؟ وتكشفت لي حقيقة أحسست أنها تعصر قلبي عصرا... وهي ان جدّتي، وبعدها عبد الغفور، قد دفنا في هذه الحفر، كما يدفنون جميع الذين يموتون... وماذا بعد ذلك؟؟؟ وكأني اكتشفت مع هذا السؤال، ما يفسّر حكاية الجنّة التي يذهبون إليها... وجدت نفسي أقول: |
:ـ. الطريق إلى الجنة... هو الدفن في تلك الحفر... من تلك الحفرة إلى الجنة... خطر لي أن أسأل جدي عن كل هذه الألغاز... فهو وحده الذي يعرف كل شيء.. ولكنه سريع الغضب... ليس من السهل ان يسمع منّي أنا كلاما من أي نوع... كان سلوكي معه أو سلوكه هو معي ينحصر في ان يأمرني بما يريد ان أقوم به من خدمات صغيرة.. منها أن يأخذ يدي في يده.. وينطلق بي إلى حيث يذهب للتسوق، أو لأي غرض من الأغراض. |
لم يمض وقت طويل لتدخل أمي بصينية عليها براد الشاي، وثلاثة أكواب... وهي تقول |
:ـ. لتافت باجي، تقول إن مرسول من بيت الكيخيا جاء يريد ان يكلّمكم يابويا.. التفت جدي، وعرك عينيه... ثم جلس،... وتساءل: |
:ـ. من بيت الكيخيا؟؟؟ أين هو؟؟؟ |
* * * |
|