السفر إلى حلب |
والإقامة مؤقتاً في بيت الكيخيا |
كانت الكلمات القليلة التي حدد بها جدي موعد الرحيل إلى حلب قد حفرت في ذهني بكثير من الارتياح، فلم يكن يشغلني طوال ذلك اليوم، وإلى أن أظلم الليل إلا (البابور... في الليل) ولذلك فقد ظللت أقاوم النعاس بعد الغروب فترة لا أدري كم طالت إذ وجدت أمي توقظني وحين فتحت عيني، رأيتها في ملاءتها، ورأيت خالتي وعبد المعين بين ذراعيها، وهي تحاول أن تحكم لف الملاءة حول جسمها. و (البيشة)، على جبينها... وصوت جدي يسمع في الفناء، وهو يتحدث إلى من عرفت بعد هنيهة، إنه من أقارب الحاج بشير، ومعه سائق العربة التي تقلنا إلى محطة البابور وكانوا يسمونها (الأستاسيون). |
لا أحتاج أن أقول أني قد فرحت بالعربة، إلى الحد الذي أطار النعاس عن عيني، لم تكن (الفيتون) الذي عرفناه في الشام، وفي بيت الصابوني... كانت أقرب إلى تلك التي رأيت فيها جثث الموتى في الشام... واذن جدي (للعربجي). أن يدخل ليحمل الطرود، وهي المراتب، والصندوق الأسود والحقيبة الصغيرة من الصفيح... ولم تستغرق العملية إلا دقائق، أمرني بعدها أن أدعو أمي وخالتي. |
كان ركوب هذه العربة مشكلة بالنسبة لامي وخالتي... فقد ظل جدي يساعدهما، ثم رفعني ووضعني إلى جانب أمي.. وركب هو أيضا، بعد أن صافح قريب الحاج بشير... الذي رأيته ينحني على يد الشيخ يحاول تقبيلها. |
وما أزال أذكر الطريق إلى المحطة، ونحن في هذه العربة... كان طويلا، أو لعل هذا كان احساسي، وأنا أتطلع إلى المحطة والبابور الذي استقرت له في ذهني ذكرى تلك الرحلة من المدينة في ذات صباح، كان الطريق مظلماً في البداية، ولكن ما لبث أن أضاءه ضوء القمر الذي يتراءى وراء أغصان الأشجار العالية فاتيح لي أن أرى جماعات من الناس وقد حملوا على كواهلهم أو رؤوسهم طرودا أو حقائب، وجميعهم يسيرون في نفس الاتجاه... كما كانت هناك عربات أخرى مثل العربة التي نرتفقها... بل كنا نرى عربات (الفيتون)، منها ما يجره حصان واحد، ومنها ما يجره حصانان... ثم تراءت أنوار المحطة أخيرا، وعندما وقفت بنا العربة أمام بوابة المحطة، أسرع جدي، بالهبوط، وبعد أن حملني وأوقفني على الرصيف الحجري أمام البوابة، ذهب يساعد أمي وخالتي وبين ذراعيها رضيعها، في الهبوط... كان الرصيف مزدحماً، بكثيرين، والساحة أمامه تحت أضواء المصابيح مزدحمة أيضا، بالناس، رجالا، ونساء، وأطفالا، في أيدي أمهاتهم، يصرخون باكين، كما كان على امتداد الرصيف الذي أخذنا نشق طريقنا عليه إلى المدخل، مجموعات من أولئك الذين يحملون البنادق، وعلى ظهر كل منهم حقيبة أو شىء يشبهها... كانت يدي في يد جدي... واشتد الزحام فلم أعد أرى شيئاً سوى أجساد المتزاحمين حولنا على الدخول عبر البوابة الكبيرة... إلى ساحة مسقوفة، واسعة، خرجنا منها إلى رصيف رأيت وأنا أقف عليه تلك القضبان التي ينزلق عليها القطار... ولكنها خالية... لم يكن (البابور) هناك... ومشيت مع جدي، وأمامنا أمي وخالتي ورضيعها، إلى حيث أشارت أمي، إلى الصندوق الأسود والحقيبة الصغيرة وطرود المراتب... جلسنا على الأرض وظهورنا إلى أمتعتنا... وتركني جدي ليجلس هو إلى جانب خالتي بحيث يفصل بينها وبين من كانت تجلس إلى جانبه، وبحيث أفصل أنا بين أمي وبين امرأة في ملاءتها السوداء، وقد رفعت عن وجهها (البيشة)... ولم يطل الوقت ليدور بين أمي وهذه المرأة، حوار، فهمت منه أنها من المدنية، وأنها راحلة إلى حلب... وقد ماتت أختها وأمها، أما أبوها فقد مات قبل ذلك في الشام، وهي الآن مع زوجها... قالوا لها أن كانت تريد العودة إلى المدينة، فلا بد أن تذهب إلى حلب... زوجها كان يريد الذهاب إلى (الشام) ولكن قالوا له أن (الكفار) قد غلبوا السلطان وأخذوها... والطريق إليها من حماة (مقطوع) بالحرب بين عساكر السلطان والكفار. |
لا أدري، كم طال انتظارنا على ذلك الرصيف، فقد وجدت أمي توقظني، وما كدت افتح عيني حتى رأيت وسمعت تلك الضجة الرهيبة، التي يحدثها البابور وقد وقفت عرباته أمامنا، وأخذ الناس يتقاذفون متزاحمين لركوبه... كانت عملية نقل أمتعتنا إلى العربة، عملية شاقة بالغة الارهاق والمعاناة بالنسبة لجدي،... كان يصر على أن ينقل هو كل قطعة بنفسه، ويكاد يبطش بأمي وخالتي إذا ما حاولت احداهما مساعدته... أذكر أن عمامته انزلقت عن رأسه وسقطت على الأرض، ولو لم تدركها أمي، لكانت مما تدوسه أقدام المتزاحمين في اتجاه العربة... |
وحين أخذنا مجلسنا في العربة، جعل يتحسَسْ وجودنا إلى جانبه، إذ كان الظلام حالكا والزحام شديدا، والضجيج وصراخ الأطفال، وصيحات الركاب، وهم يتنادون، تصم الآذان. |
وبعد أن تحرك القطار، بكل ما يترافق مع بداية هذه الحركة من صفيره وهديره، شرع جدي يقرأ، أو يتلوا أدعيته بصوت أقرب إلى الهمس... ولم يطل صحوي في هذا الظلام إذ يبدو أني استغرقت في النوم، وحين سمعت صوت أمي وجدي يوقظاني، وفتحت عيني، رأيت الباب العريض مفتوحاً، وعَبره كان الضوء ساطعاً، والركاب، ومنهم نحن، يتسابقون على الخروج من العربة، وما كدنا نهبط من العربة، حتى كان جدي يعالج اخراج الأمتعة، والقاءَها على أرض الرصيف الحجري الطويل... وحين هبط، ودار ببصره هنا وهنا، رأيناه يستدعي رجلا لعله (حمّال)، يعهد إليه بنقل الأمتعة إلى خارج المحطة، حيث وقفنا مرة أخرى على رصيف يعج بالناس، ولكن أهم ما استوقف نظر جدي ذلك العدد الكبير من الذين نقلوا على المحطات إلى عربات كانت تستقبلهم... فهمت فيما بعد أنهم الجنود الذين جرحوا في المعارك، وتعذَّر أن يعالجوا في الميادين فهم ينقلون إلى مسستشفيات حلب، وقال جدي أنهم لا بد أن ينقلوا إلى أطنة، لأن حلب أيضا سوف تصبح ميداناً للمعارك بين الكفار وعساكر السلطان. |
لم نكن ندري أين سوف نسكن في حلب... والأصح أن أمي وخالتي كانتا لا تعلمان شيئاً عن المصير في هذا البلد الذي انتقلنا إليه... دار حوار عن الموضوع بين أمي وخالتي، بكلمات عاجلة هامسة... يبدو أن جدي قد سمعه فقال وهو يخرج الورقة التي جاءه بها الجندي في حماة. |
:ـ. بيت الكيخيا إلى أن نجد بيتاً ننتقل إليه. |
قال ذلك وأمرنا أن نقف حيث نحن إلى أن يعود... وغاب في الزحام. |
وحين عاد بعد فترة لم تطل، كان معه رجل طويل حسن الهندام، له شاربان طرفهما معقوفان وعلى رأسه، قبعة من الصوف بنية اللون... وفي يده كرباج أسود... أشار له جدي إلى طرود الأمتعة، فذهب يعدو وعاد برجلين حملاها، ومشينا نحن خلفها.. |
كان الفيتون في هذه المرة، شيئاً يختلف عن أي فيتون رأيناه أو ارتفقناه... يجره حصانان وكان الرجل ذو الشاربين المعقوفين، هو (العربجي)... عقدت الدهشة ألسنتنا جميعاً.. كانت الأبهة والفخفخة في داخل العربة المسقوفة والمحاطة بسور وحاجز يفصل بين مقعد (العربجي) ومقاعد الركاب...، وتلك النوافذ من الزجاج المزخرف، وكسوة المقاعد ومواطيء الأقدام بنوع من القماش أو اللباد الأحمر (الملكي). |
لم أفهم، ما الذي كان يقوله جدي، وتجيبه أمي وخالتي بالعربية. |
: ـ. طيب يابويا... أيوه يا بويا.. |
كنا جميعا مبهورين بهذه الأبهة في الفيتون، حتى جدي، كان واضحاً أنه مبهور، وأنه يجد ما لم يكن يتوقعه قط... والسؤال الذي ظل حائراً، هو الطريقة التي وجد بها جدي هذا الفيتون الفخم... ثم إلى أين يذهب بنا..؟؟؟ كان اسم (الكيخيا) يتردد في حديثه باللغة التركية، واستطعت أن احرز أننا سنسكن مكانا اسمه (بيت الكيخيا)، كما سبق أن سكنا بيت الصابوني في حماة... |
وفي طريقنا كنا نرى الشوارع مكتظة بخلق كثير،... وكان الرجل (العربجي) ذو الشاربين يلتفت من مقعده إلى جدي، ويكلمه بالتركية... كان يعرفه بالشوارع، والمباني التي نمر بها ومنها ما سماه (السرايا)... وأخيرا (قلعة حلب)... ثم انطلق بنا في منعطفات كثيرة وشوارع أكثر ضيقاً من تلك التي مررنا بها ليقف عند بوابة ضخمة، وما كاد حتى أسرع يهبط ويفتح البوابة ويغيب لحظات، ليعود ماشياً خلف رجل بادي الوجاهة، قالت أمي لخديجة: |
:ـ. أظن هذا هو الكيخيا. |
:ـ. كانت حفاوة الرجل بجدي وترحيبه به (باللغة التركية)، تؤكد نوعاً من العلاقة أو سابق المعرفة... وحين اجتزنا البوابة، بهرتنا تلك الحديقة الكبيرة بأشجارها العالية وفي وسطها ما يسمونه (بحرة) أو (بحيرة)، وهي البركة، وفي وسطها نافورة يتدفق منها الماء عالياً فوّارا.. |
ما كدنا نتقدم خطوات، حتى ظهرت مجموعة من السيدات، والفتيات الشابات، ومنهن فتاة في مثل سني، في يدها كرة صغيرة، كانت تراوحها بين يدها والأرض... ومع عبارات الترحيب بأمي وخالتي، دخلنا قاعة كبيرة، مترفة الأثاث، نوافذها تطل على الحديقة، وأحواض الزهر والورد. وعلى البحرة بنافورتها القوية.. أما جدي فالأرجح أنه كان مع هذا الرجل الذي ظللنا لا نعرف له اسما إلا (الكيخيا) في قاعة أخرى. |
* * * |
لا أذكر اليوم كم من الأيام ظللنا في ضيافة (الكيخيا)، ولكن ما زلت لا أنسى تلك الفتاة في مثل سني، والسلحفاة التي رأيت كيف تقف على قوقعتها... كانت المرة الأولى التي عرفت فيها أن في الدنيا حيواناً اسمه (سلحفاة).. وأنه رغم صغر حجمه يستطيع أن يمشي بمن يقف على قوقعته مسافات في الحديقة، والفتاة تراوح بين الكرة في يدها، والأرض وتملأ الحديقة مرحاً وضحكاً... كان الضحك دائماً عليّ أنا... لأني ظللت أخاف السلحفاة وأرفض أن أركب على قوقعتها كما تفعل هي... كان يضحكها خوفي فإذا طال رفضي، تهبط عن قوقعة السلحفاة، وتجري نحوي، وتمسك بيدي، فنمشي معا إلى شجرة (التوت) الأبيض، وتقترح أن نتعاون على هشها، فنفعل، ونسرع نلتقط حبات التوت، ونلتهمها... لست أدري لم ظللت لا أرى أو لا أجد هذا التوت، حتى اليوم.. |
أذكر أن جدي، كان يخرج في الصباح، وفي يده حقيبة جلدية صغيرة... فيها (العدّة) كما ظلت أمي تسمي هذه الأدوات التي يحفر بها (الأختام)... كنت أراه حين يعود قبل صلاة العصر، فيقول، أنه مايزال يبحث عن بيت ودكان... وسمعته مرة يتحدث إلى الكيخيا عن البيت والدكان فيؤكد له هذا، أن البيوت القريبة من القلعة هي التي تؤجر (بالشهر)... أما الدكان فالأفضل أن يجد أي دكان بالقرب من (السرايا)... لأن جميع الناس في حلب، لابد أن يراجعوا الحكومة في السرايا، ثم ينتهي الحديث بكلمات مجاملة، تطمئن الشيخ على أنه مايزال محل الترحيب والاكرام. |
وأذكر ذلك اليوم، الذي كنت فيه مع (مطيعة) في الحديقة ورأيت الكيخيا يدخل مسرعاً فيسألها عن جدي... وتسرع أمي إليه، فيقول الرجل: |
: ـ. الدولة ترحل (المهاجرين) إلى أطنة... إذا أرادوا... |
: ـ. ولكن نحن نريد الذهاب إلى المدينة المنورة. |
: ـ. المدينة؟؟؟ أظن الطريق حتى إلى حماة والشام أصبح مغلقاً... |
: ـ. يعني يا عمي، الكفار يمكن يدخلوا (حلب)... يعني عساكر السلطان يخرجوا منها؟؟؟ |
: ـ. الله أعلم يا بنتي... المهم الذي أريد أن أقوله للشيخ أحمد... أني أنا والجميع يمكن نسافر إلى اسكندرونة... ما نقدر نفضل في حلب أكتر من عشرة خمستاشر يوم... ايه رأيك تسافروا معنا؟؟؟ أظن الوالي يوافق. |
: ـ. الوالي؟؟؟ |
: ـ. أيوه... انتو لازم تاخدوا رأي الوالي. |
ما ازل، حتى اليوم، أجهل كل شيء عن حقيقة العلاقة بين جدي، وبين الباشا في المدينة ثم بينه وبين الوالي أو غيره في حماة، ثم في حلب... حكايا أمي عن هذه الأيام وقد سمعتها منها مرات ومرات، لم أجد فيها تفسيراً، أكثر من أن جدي كان شيخاً للطريقة (النقشبندية)، وشيخاً للحجاج من (القازاق) و (التركمان)... ولا أستطيع أن أفهم أثر هذه (المشيخة) على الباشا في المدينة، أو في غيرها... |
بحيث كان ـ رحمه الله ـ يتمتع برعاية خاصة... منها على سبيل المثال أن جرايته من خبز الشعير في حماة ومن علب اللحم المفروم و (القنيطة) كانت وافية وربما أكثر مما يحظى به الآخرون... فكانت أمي توزع بعضها على الجارات من أهل المدينة أو من أهل حماة... ومنها كذلك ـ وهو الأهم ـ استضافتنا في بيت الصابوني في حماة، ثم في بيت الكيخيا في حلب. |
وقبيل صلاة العصر، رأيت جدي يدخل الغرفة التي نشغلها، ليقول باهتمام: |
: ـ. اليوم ننتقل إلى بيتنا... بالقرب من القلعة كما قال لنا الكيخيا... وقد وجدت دكانا بالقرب من السرايا... هيا جهزوا كل شيء... قبل المغرب. |
قبل أن تخبره، بما سمعت من (الكيخيا) قال: |
: ـ. كثيرون من أهل المدينة، يسافرون إلى أطنة... وإلى اسطمبول... |
: ـ. طيب... ونحن يا بويا؟؟ |
: ـ. نحن هنا... في حلب... وبعدين... إلى المدينة... |
ثم أخذ يتحدث إليها بالتركية، حديثاً يبدو أنه كان سارا أو مطمئنا إذ سمعتها هي وخالتي ترددان: |
: ـ. يارب... يارب.. |
* * * |
|