شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
موت أخي ((عبد الغفور))
ورسالة إلى جدي تأمره بالسفر إلى حلب
خلال اليومين اللذين انقضيا، قبل الرحيل إلى حلب كانت مشاهد التوتر والاسى والخوف تتلاحق، وكان اهم ما يشغل الشيخ، هو ـ على قدر ما استطعت ان أفهم ـ حاجته إلى المال، لشراء ما كانت تلح امى على ضرورة تأمينه، لخالتى خديجة التي كنت ارى كيف يتزايد هزالها، وشحوب طلعتها.. حتى صوتها الحنون بغنته الرقيقة الناعمة، امسى كأنه يذوب، أو يضيع، فلا يكاد يسمع الا بشئ من الجهد يرهقها ان تبذله، وهى تحاول هدهدة رضيعها (عبد المعين) لينام وهي تضمه إلى صدرها.. لم يكن هناك ما يستطيع ان يفعله جدي، ليشتري الدجاجة مرة كل ثلاثة ايام، والكفاية من الحليب لعبد المعين، غير ان يبيع ما سبق أن اشتراه من اثاث للبيت يوم انتلقنا اليه من بيت الصابوني... ويوم تقرر الرحيل إلى حلب، كان يوما شقي فيه هذا الجد شقاء جعل أمي وخالتي لاتكفان عن البكاء. كان يحمل على كتفه. ويلف بعمامته الأشياء التي يذهب بها لبيعها والعودة بثمنها حفنة من النقود، يفتح كفه بعد ان يخرجها من جيبه لتراها امي.. ثم تتناولها وهى تهمس بكلمات، ارجح انها تطيب بها خاطرة، وفي عينيها دموع تجهد ان لا تنذرف... فيبتسم، ويضيع يده الأخرى على كتفها ثم اسمعه يقول هامسا.
قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا.. وعلى الله فليتوكل المؤمنون...
:ـ. الله كريم... البابور، في الليل... الله كريم.
وتسأله أمى في نبرة تنم عن خوفها:
:ـ. في الليل ؟؟؟
:ـ. هذا أمر الباشا.
:ـ. فخري ؟؟؟
:ـ. لا...لا..
وبدا على أمي وخالتي انهما تخافان السفر في الليل... ودار بينهما حوار، عن المشي من البيت إلى البابور... وتردد ذكر (فيتون) بيت الصابوني... وان الحصان الذي يجره قد أخذته (الدوله)... ثم (الحرامية) الذين ينتشرون في الليل، وفي أيديهم تلك المسدسات، يقتلون بها من يعترض طريقهم، كما فعلو ليلة دخلوا علينا، وكادوا يقتلون جدي، حين دخل بفانوسه والفأس في يده...
ولم يبق في المنزل أثاث، سوى المراتب والوسائد واللحف، وقد أحكمت أمي حزمها، فلم يجد جدي ما يجلس عليه، في مكانه المعتاد فافترش جبته بعد أن طواها عدة طيات، وجلس، وإلى جانبه حقيبة الكتب، التي لا ينسى ان تكون في متناول يده حين يجلس للقراءة في ذلك الكتاب الضخم... أما الصندوق الأسود، الذي أفرغه اللصوص من أغلى محتوياته، فقد ملاته امي بما بقي لها ولخالتي من ملابس، وكذلك بما لا يستغني عنه من أواني ولوزام الطبخ، وهناك حقيبة صغيرة، من الصفيح، ملأتها أيضا بملابسي، وما تركه عبد الغفور من ملابسه، التي كانت كلما أدخلت قطعة منها في هذه الحقيبة، تقرّبها من وجهها، وكأنها تستنشق رائحتها، وتنهمل الدموع من عينها، وتراها خالتي، فتبكي هي الأخرى، وتضم رضيعها عبد المعين إلى صدرها، وهي تتأوه آهتها مع تلك السلعة التي تكاد لا تنقطع.
في ذلك اليوم طال غياب جدي الي خرج في الصباح وحده، رافضاً أن يصطحبني كما يفعل غالباً، أو أن تصحبه أمي، وبدأ قلق أمي وخالتي لغيابه، بعد الظهر، وعنما تساءلت خالتي قالت أمي:
:ـ. انا شفته شايل معاه الكيس اللى فيه هادى (الأمهار) والأشياء اللى بيقول انها (العدة).
:ـ. يمكن رايح يبيعها هيه كمان.
:ـ. لا يا خديجة... هادى ما يبيعها أبدا... أنا سمعته من زمان يحكي أمي ـ رحمة الله عليها... انه اتعلم الصنعة من شيخه، اللى وصاه أنو ما يفرط فيها أبدا..
:ـ. صنعة ؟؟؟ صنعه أيه؟؟؟
:ـ. ما أدرى... لكن أنا شايفه من يوم ما طلب الكيس والتقاه، وفرح لما التقاه، انها صنعة رايح يشتغل فيها.
:ـ. وهوة يا ستيتة عنده عافية يشتغل؟؟؟
:ـ. طب... بس لازم يشتغل... ويمكن حتى أنا لازم اشتغل... يا خديحة الحكومة ما عاد بتعطي غير العيش الأسود، و (القنيطة) وعلبة (اللحمة المفروطة) كل خمستاشر يوم...
: ـ. أيوه صحيح... وما هو باين متى نرجع المدينة.
: ـ. الله يعلم متى... بيقولو يا خديجة أنو يمكن ما نرجع...
: ـ. ما نرجع؟؟؟ طيب، يعني نفضل قاعدين في هادي البلدان؟؟ الشام.. وحلب.. و...
: ـ. يمكن يودونا اسطمبول.
: ـ. يا ريت يا ستيتة.. أنا ياما سمعت أمي رحمة الله عليها، تحكينا عن اسطمبول.
: ـ. انتي أصلك ما انتي عارفة ايش اللي حاصل يا خديجة... بيقولوا الكفار... ايوه الكفار بينتصروا على عساكر السلطان.
: ـ. كفار وينتصروا على المسلمين؟؟؟
: ـ. أيوه يا خديجة. أبويا (قالوا) أنو فيه مع الكفار مسلمين.
: ـ. مسلمين يا ستيتة مع الكفار يحاربوا عسكر السلطان؟؟
: ـ. كده أبويا قالوا.. وعشان كده الكفار بينتصروا... بيغلبوا عساكر السلطان... انتي ما سمعتي انهم أخدوا الشام... ورايحين ياخدوا حماه... يعني هادي البلد اللي رايحين نسافر منها إلى حلب.
: ـ. طيب.. والمدينة ياستيتة؟؟؟
: ـ. المدينة يا خديجة... قولي الله لا يقدر انهم ياخدوها كمان... والحمد لله.. أبويا (قالوا)... أنو فخري باشا ما هو راضي يخرج ويسلمها للكفار.
: ـ. ربنا ينصره عليهم... ونرجع المدينة... قولي يا رب..
: ـ. يارب... يا رب يسمع منك... أنا بأدعي له في صلاة الصبح.
: ـ. وأنا كمان بادعي لعساكر السلطان.
وارتفع صوت المؤذن في هذه اللحظة، فخفقت أمي صدرها بيدها مرتعبة وهي تقول:
: ـ. العصر يا خديجة... وأبويا ما جو..
: ـ. عمرهم ما غابوا عننا.
: ـ. طيب.. كيف نسوى؟؟؟ وفين التقيهم؟؟؟ يا ترى يكونوا عند الحج بشير؟؟؟
: ـ. بس ايش يسووا عند الحج بشير.
وسرعان ما نضهت أمي، وأخذت تلتمس ملاءتها... أخذت ترتديها على عجل،
وتحكم عصب ما يسمونها (البيشة) على جبينها لتسدلها على وجهها، كما هي العادة عندما تخرج إلى الشارع، وظلت عينا خديجة تلاحقها ثم قالت:
: ـ. خدي معاكي عزيز يا ستيتة... لا تروحي لحالك...
والتفتت إليّ أمي وهي تقول:
: ـ. هيا البس (كندرتك)... قوم... اتحرك.
وأسرعت ارتفق حذائي... ونهضت خالتي تساعدني، إذ لم أكن أوفق في حزم فتحته بالأربطة التي تحزم بها... ولكن قبل أن تخطو أمي إلى الفناء، سمعنا باب المنزل يفتح وخطوات جدي وهو يمشي على أرض الفناء وأسرعت أمي تستقبله وهي تقول:
: ـ. يا بويا أتأخرتو كتير.
كان مرهقا، تتلاحق أنفاسه، ولكنه رغم ذلك ضاحك السن، وهو ما أصبح نادرا منذ تلك الليلة التي داهمنا فيه اللصوص.. ومع أنفاسه المتلاحقة قال:
: ـ. وانتي فين كنتي رايحة؟؟؟
: ـ. رايحة أدور عليكم.
وضحك وهو يقول:
: ـ. تدوري علينا؟؟؟ فين؟؟؟
ثم، ادخل يده في جيب ثوبه الأيمن... وأخرجها بكيس، متورم... هزه لنسمع صوت قطع النقد وقال، وهو مايزال يبتسم بل يضحك:
: ـ. خمسة وعشرين مهراً..
: ـ. يعني يابويا... جبت خمسة وعشرين مهر..
واستغرق في ضحكة لم أسمعه يضحكها قط... ثم قال:
: ـ. فلوس... فلوس... كل مهر نص مجيدي
ثم فتح الكيس، وافرغ ما فيه على الحقيبة الصغيرة أمامه وهو يقول:
: ـ. خلاص.. كل يوم دجاجة.. حليب... وجبنة.. ويمكن لحم كمان..
: ـ. يعني أشتغلتوا يا بويا؟؟
: ـ. أيوه.. اشتغلت.. حفرت أمهار... خمسة وعشرين مهر..
: ـ. بس فين قعدتو يابويا..
: ـ. باب المسجد الكبير... عند الباب... كل الناس يبغوا أمهار...
: ـ. لكن انتو قلتوا اننا رايحين نسافر... رايحين حلب..
: ـ. أيوه.. عشان نروح المحطة لازم فلوس... لازم عربية... لازم حمَّال.. مين يشيل مراتب... صندوق... كيف خديجة يمكن تمشي إلى المحطة؟؟؟
وأسرع إلى الفناء، وعاد وفي يده كيس.. فتحه واخرج ما فيه.. خبز أبيض.. وقطعة كبيرة من الجبن... وقرطاس فيه سكر.. وآخر فيه شاي... وكمية من البندورة والخيار... وقال وهو مايزال يبتسم:
: هيا.. شاهي قوام..
ثم أدخل يده في جيبه الأيسر، وأخرج منه أربع بيضات.. والتفت إلى خديجة وهو يقول:
: ـ. خديجة.. لازم تاكلي بيض.. في حلب.. كل يوم دجاج.. وحليب... ونهضت أمي مسرعة إلى الصندوق الأسود، حيث اخرجت منه (السماور) الصغير و (البراد) الصيني الكبير والأكواب... وغادرت الغرفة وهي تبتسم، ولكن ما لبثت أن عادت لتخلع عنها الملاءة، التي كانت ماتزال ترتديها، لتأخذ حبات البيض، التي قال جدي أن خالتي يجب أن تأكلها.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :802  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.