مكافحة حقوق الأبناء |
لاحظ الأستاذ عبد الله علي أحمد، في برشامته اليومية، في جريدة الجزيرة الغراء، أن النماذج التي قدّمها التلفزيون، في مسلسل: (أبنائي الأعزاء... شكراً) لا وجود لها في بيئتنا ومجتمعنا، ولذلك فهو غير راض عن المسلسل، ويفضّل عليه المسلسلات الخليجية التي تنتزع مواضيعها من واقع البيئة والمجتمع، الذي يتشابه في جميع بلدان شبه الجزيرة العربية. وإذ لم يقل لنا شيئاً عن البناء الدرامي وعن قدرات الممثلين ومستوى عطائهم، فإن الإنصاف يقتضينا أن نقول إن المسلسل (ككل) قد حقق نسبة عالية من النجاح يحسد عليها بين الكثير من المسلسلات التي عرضت خلال العام ومقياس النجاح الطبيعي فيما أعتقد هو إقبال جمهور المشاهدين عليه وحرصهم على أن لا تفوتهم حلقة من حلقاته منذ بدأ إلى أن انتهى. كما يقتضينا التجرد و الحياد أن نسجل الإعجاب بالممثلين وعلى الأخص منهم عبد المنعم مدبولي الذي تألّق ممثلاً موفور القدرة على العطاء الدرامي رغم تخصصه في أدوار الكوميديا، كواحد من عمالقتها الذين يمكن أن يعيدوا إلى المسرح الكوميدي مجده العريق، لو تخلّص الفن من كابوس (القطاع العام). |
وما قلناه مما اقتضاه الإنصاف والتجرد، أسلّم بأنّه (هامشي) بالنسبة لملاحظة كاتب البرشامة، وهي عدم وجود أمثال هؤلاء الأبناء في بيئتنا ومجتمعنا، ولا بد أن أقول، إن في ذلك ما قد يتفق مع رغبتنا في ترجيح جانب حسن الظن بأنفسنا، بيئة ومجتمعاً، ولكنّه يغاير الواقع، إذ إن هذه النماذج موجودة عندنا، وهي تتكاثر يوماً بعد يوم إلى الحد الذي أصبح يستلزم معالجة مدروسة، بل ومكافحة جادّة تتعاون عليها وسائل التوعية، ابتداء من البيت، ثم المدرسة، وبالتالي مختلف أجهزة الإعلام... بلى... هذه النماذج موجودة عندنا وتتكاثر للأسف، بل قد لا أبالغ إذا زعمت أن لدينا النماذج الأسوأ التي تتجاوز مرحلة العقوق إلى مرحلة الإجرام، وليس فقط مع الآباء أمثال (بابا عبده) وإنما مع الأمهات والأخوات أيضاً. وحسب كاتب البرشامة أن يعلم، أن هناك النموذج الذي لا يتردد في شراء فستان لزوجته بثلاثة آلاف ريال لسهرة من السهرات، بينما يبخل على والده الذي يعول الأم والبنات، وليس له من مورد إلاّ راتب التقاعد الهزيل، بمبلغ خمسمئة ريال في الشهر. وقد يحسن بي أن لا أفجع الأستاذ عبد الله علي أحمد والقراء، بقصة ثلاثة أبناء، بلغ بهم العقوق الفاجر، أن تعاونوا على ضرب أبيهم، لأنّه طلب من كل منهم أن يساعده بمبلغ زهيد في كل شهر. أو بقصة ابن رفض أن تحل أمه ضيفة عليه في فيلته الفاخرة حين قدمت من بلد كانت تقيم فيه في الخارج، وأصرّ على أن تبيت ليلتها في أحد الفنادق، وأن تظل في الفندق إلى أن تعود إلى حيث كانت تقيم، والسبب أن سيادته قد حرص على عدم تعكير (مزاج) ست الحسن والجمال التي لم يكن قد مضى على زواجه بها أكثر من بضعة شهور... |
وقد قلت إن هذه النماذج تتكاثر، ولا أستطيع أو لا ينبغي لي أن أربط بين هذا التكاثر والتعليم، ولكن أستطيع أن أؤكّد أن المجتمع الريفي عندنا لا يزال يعتبر نموذجاً رائعاً للترابط الأسري التقليدي، إذ لا يزال الابن يعمل على هدى من العقيدة والإيمان فلا يقول (لهما أف) ويحرص على رضاء والديه، فإذا توفي الوالد وترك الأم والصبية والبنات، فإن الابن هو عماد الأسرة بعد الله، يكرّس حياته كلّها لرعايتها، حتى ولو حرم نفسه من الزواج، ومن مواصلة التعليم. |
بقي، بالنسبة لمسلسل (أبنائي الأعزّاء... شكراً)، أن النموذج المرفوض في رأيي هو هذا الأب الذي لا أدري إن كان يوجد مثيل له بين الآباء، يرضى بكل ما رضي به من هوان... إنّه النموذج السخيف الذي رضي منذ البداية أن يأخذ مركز (الدادة) و(الخادم) ناسياً أنّه الأب الذي يملك أو يجب أن يفرض احترامه على الأبناء. فاستحق أن يضعه أبناؤه في المركز الذي اختاره ورضي به. |
* * * |
لا نحتاج أبداً إلى شواهد تثبت إنسانية حضارة العربي، وإنسانية الحضارة لها مفهوم يختلف عن مفهومها المطلق الذي يكاد يستوعب في أذهان معظم الناس، هذا التقدم العلمي والتكنولوجي الذي لا جدال في أن الدول الصناعية قد أحرزت سبقاً صاروخياً نعلم أننا نحتاج إلى وقت طويل لبلوغ مداه. |
إنسانية الحضارة، مفهوم يتعذر أن نتصور أن التقدم العلمي والتكنولوجي يمكن أن يستوعبه، لأنه المفهوم الذي رسّخته في نخاع الإنسان العربي، تلك المبادىء والمثل والقيم التي شعّ بها جوهر العقيدة الإسلامية منذ أربعة عشر قرناً من الزمان. والمبادىء والمثل والقيم لم تكن قط، ولن تكون، تعاملاً مع (الآلة) ولا مع (المختبر)، ولا مع أي جهاز من الأجهزة التي تفتّق عنها العقل البشري، في محاولته الدائمة لتسخير قوى الطبيعة لخدمة مختلف أغراض الإنسان في تعامله مع مصالحه ورغباته. كانت المبادىء والمثل والقيم تعاملاً مع انعطاف القلب وتوهّج الوجدان... مع رفيف المعاني في دنيا المشاعر والأحاسيس، تستوعب ما لن تطيق استيعابه كل منجزات العلم، حتى ولو عكف على المزيد من تطورها طيلة ألف عام أخرى من مسيرة الزمان. |
ومع ذلك، فإن من حقنا أن نشيد بأي تصرف يؤكد إنسانية حضارة العربي، لأننا نتطلّع إلى الحفاظ عليها، وزيادة حجمها، ولا بد أن نعمل ما استطعنا على تعدد مواقعها وألوانها لأن في ذلك وحده تمييز شخصيتنا بأعظم خصائصها، وهي التعامل مع حضارة المبادىء والمثل والقيم... مع إنسانية الحضارة في مفهومها كما رسخته العقيدة في إشعاع جوهرها الخالد. |
نشرت بعض الصحف في الأسبوع الماضي، خبراً عابراً لم أستطع أن أمر به دون أن أطيل التأمل والتفكير، وأن أتابع حركة إيغاله في مشاعري ووجداني... وأن أنطلق معه إلى موقع انطلاقه ومنه إلى مفهوم إنسانية الحضارة في إشعاع الجوهر الخالد. |
إلى السجن العام في الأحساء... وإلى كل سجن في المملكة أو في العالم كلّه... لا سبيل إلى عزل أي سجن عن معنى الظلام ينشره - حتى في رائعة النهار - الباب المغلق، والأسوار العالية والحرس المدجّج بالسلاح... والظلام في السجن غير الظلام في أي مكان سواه... يستطيع كل إنسان أي يعيش في ظلام دامس أي فترة من الزمن، ولكن دون أن يشعر بوطأة الظلمة في نفسه ومشاعره ولكنه في ظلام السجن، يعيش كل لحظة وهو يشعر برهبة الظلمة ووحشتها، حتى ولو كانت أشعة الشمس تغمر مكانه طول النهار... الظلام في السجن لا يعني شيئاً أقل من إغلاق الأبواب في وجه الحرية. وهذا يعني - ببساطة - إغلاقها في وجه الحياة. |
وهذا الظلام، هو الذي حاولت أن تخفف من وطأته جمعية الثقافة والفنون، على الذين يعيشون فيه من السجناء بالحفل الفني المنوع الذي أقامته داخل السجن العام بالأحساء... لا شك أن الأبواب ظلّت مغلقة، والأسوار كما هي عالية، والحراس في مواقعهم مدجّجين بالسلاح، ولكن دخول جمعية الثقافة والفنون بحفلها المنوع، أدخل معها نسمة من نسمات الحرية استنشقها المسجونون، فترة من الزمن لا ندري كم طالت، ولكنّا لا نشك في أن اللحظة الواحدة منها قد ملأت صدورهم بالحرية ، وأعني الحياة وتلك التفاتة، عبّرت عن إنسانية الحضارة في هذا البلد. |
لست أدري إن كان قد سبق للجمعية أن قامت بعمل كهذا في المدن الأخرى، ولكني أدري أن السجون عندنا في المملكة قد تطورت إلى حد يجعلها جديرة بأن تقدمها أجهزة الإعلام نموذجاً، لإنسانية الحضارة هذه التي تتميز بها شخصيتنا بين جميع الأمم والشعوب. |
أذكر، أن سجيناً أوروبياً، قال لي بعد خروجه من سجن استمر أكثر من أربعة شهور: (لا ينقص السجن في سجونكم شيء... إذ يجد فيها، ليس فقط الغذاء الجيد، ومكان النوم المريح، بل والساحة التي يستنشق فيها الهواء الطلق وينعم بضوء الشمس وإنما إلى جانب كل ذلك جهاز الراديو، وحتى التلفزيون الملوّن، وحق الجلوس مع زائره، ليس وراء القضبان كما هي الحال في كثير من السجون في العالم، وإنما في غرفة حسنة الأثاث كأنه يستقبل هذا الزائر في بيته). |
صورة أتمنى أن يراها - إن لم يكن العالم كله - فالعالم من حولنا في الساحة العربية على الأقل، لتدرك بعض الأنظمة الحاكمة واحداً من أسرار الاستقرار في عالم لا يغمض للإنسان فيه جفن، توجّساً وتحسّباً لانفجار، أو توقعاً لزوار الفجر يسحبون الرجال مصفدين في الأغلال، ويتركون النساء والأطفال بين براثن الرعب والدمار... |
|