شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بكالوريوس
منذ سنوات دار بيني وبين مسؤول عن التعليم المهني، وربما بمناسبة افتتاح المعهد الصناعي في الرياض، حول ضرورة تغيير نظرة المجتمع إلى حملة المؤهل المهني أو بعبارة أخرى، إلى الذين يتخرجون من هذا المعهد، أو يمارسون مهنة من هذه المهن التي لا تزال نظرة المجتمع إليهم نظرة تحتية، أو فلنسمها نظرة استعلاء، يبلغ من قسوتها، أن شريحة كبيرة من الأسر،ترفض من يتقدم لزواج الابنة، إذا كان مهنياً... إذا لم يكن جامعياً يحمل مؤهل البكالوريوس، أو ما بعده من المؤهلاّت.
كان من عناصر هذا الحوار مسلّمات مقررة في منطق المجتمع، ليست طارئة، ومن حصاد التعليم الجامعي عندنا، وإنما هي قديمة متوارثة عبر أجيال وقرون، إذ جرى العرف عند معظم القبائل، أن ترفض تزويج بناتها من (الصانع)... ومن هذا العرف جرى على رفضه زوجاً (الحداد) أو ابنه حتى ولو كان معروفاً بالوجاهة والثراء. وجاء التعليم والمؤهل الجامعي، فأدخل مجتمع (المدينة)، في رحاب المفهوم القبلي القديم، بل وفي منطقة العقيم، إذ أصبحت شريحة كبيرة من مجتمع هذه المدينة، ترفض صاحب الحرفة أو المهنة، حتى ولو كان ثرياً ميسوراً، لتفضّل عليه حامل مؤهّل البكالوريوس، مهما كان وضعه المالي إضافة إلى شروط أخرى منها أن يكون من (عائلة) معروفة، ومفهوم المعروفة هنا ينحصر في طبقة التجار أو الموظفين ومن في حكمهم كالمطوفين والمشتغلين بأعمال الحج والحجاج مثلاً.
وكان من الأفكار التي طرحتها، وتداولنا الرأي حولها، في محاولة الوصول إلى طريقة يمكن أن تساعد على تغيير نظرة المجتمع، أن نرتفع بمؤهّل المهنة، بعد دراسة سنوات تعادل سنوات الدراسة في الجامعة، إلى درجة البكالوريوس... وأن يرتفع مستوى الدراسة المهنية نفسها من مناهج (تدريب) إلى مناهج دراسة أكاديمية موسّعة أو متعمّقة بحيث يترافق التدريب مع هذه الدراسة، بغرض (التطبيق)... وبذلك لا يوجد ما يمنع أن يتخرج الطالب بمؤهّل نسميه (مهندس تمديدات مياه)، أو (مهندس صناعات خشبية)، أو مهندس (تمديدات كهرباء) أو (مهندس ميكانيكا الديزل) أو (ميكانيكا السيارات) الخ...
ولست أدري بعد ذلك، ماذا انتهى إليه الرأي، وماذا انتهى إليه حال (المعاهد الصناعية) وإن كنت أذكر أن جهات الاختصاص، قد قررت تشجيع الإقبال على هذه المعاهد بحوافز ماديّة كبيرة، منها فيما فهمت مبلغ مئة ألف ريال، لخريج المعهد، يبدأ بها تأسيس ورشة يمارس فيها أعمال مهنته.
وكانت مفاجأة لي أن أسمع من أكثر من صديق، أن عدد المدرّسين أو المدرّبين في بعض هذه المعاهد، أكثر من عدد الطلاب... مما يعني أن الإقبال عليها لا يزال منكمشاً ممدوداً إلى ذلك الحد الذي يجعل عدد المدرّسين والمدرّبين في المعهد أكبر من عدد الطلاب.
هذا يعني ببساطة أن العقدة لا تزال قائمة، وأن الملايين أو مئاتها التي أنفقت لتجهيز هذه المعاهد بأحدث أجهزة التدريب، وتزويدها بأفضل المدرّسين والمدرّبين... كل ذلك لم يستطع تغيير النظرة التقليدية العتيقة... وعدم الإقبال نتيجة لهذه النظر.
ومن هذا المنظور، أصبح الموضوع يطالب بالتماس السبل والوسائل التي تستهدف تغيير النظرة إلى المهنة، وأعني على التحديد: (مؤهّل التعليم المهني). ويبدو أن المسألة أو العقدة حتى اليوم، ليست في الحوافز المادية التي لم تبخل بها الدولة بل قدمتها بسخاء كبير، وإنما في مستوى هذا المؤهّل، قبل كل شيء... ومما يقال إن الدليل على أن مستواه (تحتي) أو (منخفض) أن الذين يرسبون في التعليم الثانوي، أو تنخفض تقديراتهم عن (جيّد) في هذا التعليم هم الذين يقبلون في المعاهد الصناعية، ويرفضون في الجامعات. و هذا في حد ذاته مؤشّر أو دليل على أن المؤهّل المهني يعاني هذه النظرة (التحتية) بالنسبة للمؤهّل الجامعي.
ومن المفروغ منه أن تغيير اسم المؤهّل، بحيث يسمى (بكالوريوس مثلاً)، يدخل في باب التحايل على الواقع، والمجتمع، ليس من الغفلة بحيث تنطلي عليه الحيلة... وهذا إضافة إلى ما يثيره إجراء من هذا النوع، في نفوس حملة المؤهلات الجامعية من ردود فعل يتعذّر تجاهلها.
وعلى ضوء كل هذا الواقع، فقد يكون الحل الأقرب تناولاً، هو رفع مستوى التعليم المهني إلى الحد الذي يجعله أكثر وأرفع، من مجرد (تعليم صنعة)... والصناعة في مستوياتها العليا، (هندسة)، و(علم)، نرى عطاءهما فيما نتعامل معه من الإنتاج الصناعي في الغرب واليابان. فإذا رفعنا مستوى التعليم المهني، ومناهجه، والتخصصات فيه، إلى مستوى (الهندسة الصناعية) التي لا تقل فيها مدة الدراسة فيها، وتقديرات القبول عن الجامعة، فإن (بكالوريوس مهندس صناعي) مثلاً لا يكون فيه تحايل والنظرة إليه يمكن أن تتغير تغيراً جذرياً.
على أية حال وبغض النظر عن ما إذا كان اقتراح كهذا مقبولاً أو معقولاً، فإن المشكلة في حد ذاتها - إذا كانت لا تزال قائمة - فتظل من أخطر المشاكل التي يعانيها الشباب ويعانيها التعليم المهني، وتعانيها سياسة القبول في التعليم الجامعي، أو التعليم الثانوي، ولا بد أن نلتمس لها الحلول.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :772  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 197 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.