مع معرض لابني ضياء عزيز ضياء |
قال لي وهو يقرأ بعض ما نشرته الصحف عن معرضه: أليس غريباً أن لا يسمع الناس ولا يقرأون لك رأياً في هذا المعرض أو حتى في الفن، بل حتى في أي لوحة من لوحاته... |
قلت: لأنّك ابني... وكلامي عنك، لن يؤخذ على أنه رأي الناقد، حتى ولو توخّيت فيه كل الصدق... إذا أثنيت عليك، فلن يقال إلاّ أنّه يثني على ابنه... وإن اعتدلت بين الثناء والنقد، قالوا: إنها طريقة في إلقاء الأضواء وأسلوب في لفت الأنظار. |
قال: ولكنّك تحرمني بهذا، من رأيك وأنا أعلم أنّك من خير من يستطيع أن يعطي رأياً في هذه الأعمال. |
قلت: بيني وبينك... أنّك تذكّرني بمرحلة من العمر، كنت فيها في مثل سنّك... وكما تعشق أنت اليوم ريشتك وألوانك وظلالك، وكما تسبح في آفاقك التي نراها أحياناً، وتغيّم علينا في أكثر الأحيان، كنت أنا أعشق هذا القلم... والكلمة... والمعنى، وأجري وراء المجهول الذي يبدو أحياناً وكأنه ملء القلب والسمع والبصر، ويختفي أحياناً، وكأنه نتف السحاب لا تستقر على شكل، ويبدّدها في الزرقة الضاحكة فنّان مغرم بأن يجعل للعبث معنى ومضموناً لا تكاد تلمحه حتى يمسي ويضيع. |
ولقد طال جريي... ولعلّك لا تعلم أني لا أزال أجري حتى اليوم... وأين أنا مما كنت أحلم به... أين أنا حتى من الضئيل القليل الذي يصنع مجد الفنّان؟؟؟ من الصدق الفنّي، ومن العمل الفني المتكامل الذي تتدفّق به النفس في إخلاص ويقين، وفي حريّة وانطلاق من الكثير المرئي والمحسوس، وغير المرئي والمحسوس من القيود والسدود... |
كانت ولا تزال رحلتي طويلة شاقّة لا أرى أين ومتى سألقى معها التيار... وهكذا ستكون رحلتك أنت أيضاً... أرى هذا في المواضيع التي عالجتها في لوحاتك... وفي الشقاء الذي شقيته وأنت تمزج ألوانك، وتختار خطوطك وظلالك... وقد نصحتك ذات ليلة، أن لا بأس بأن تذوب... ولكن على أن لا تحترق كلياً... وما يبدو لي أحياناً وأنت أمام لوحاتك، أنّك تحترق... |
أنت ولدي... وما أظن أنا في هذه الدنيا، يهون عليه أن يرى ابنه في اللهب... |
* * * |
صديقنا الأستاذ عبد السلام السّاسي، في الوقت الذي يصدر فيه موسوعة لأبرز أدباء المملكة العربية السعودية بلغ عدد صفحات الجزء الأول منها ثلاثمئة واثنتين وخمسين صفحة، جميعها للأدباء الذين تبدأ أسماؤهم بحرف الألف... في نفس الوقت يوالي هجماته في الأدب الحديث، ويبلغ من قسوته على الأدباء المحدثين، أن يجرّدهم من كل ما يسبغه عليهم جهدهم من صفات التجديد والانطلاق والقدرة على مسايرة اتجاهات العصر. |
أعتقد أن الأستاذ الساسي، سيواجه مشكلة أعقد من ذنب الضب، حين يصدر الجزء الثاني من موسوعته، إذ كيف يوفّق بين إنكاره أدباء الشباب وأدبهم وفنّهم، وإدخالهم في موسوعته... والساسي معي بالطبع في أن يدخلهم موسوعته، يجب أن يكونوا ممّن يعترف هو لهم بأنهم أدباء. |
وقد نزل الساسي في الأسبوع الماضي ميداناً جديداً... وقد نزله بنفس الطريقة التي اعتادها في ميدان الأدب وأعني طريقة الهجوم والأفكار بالنسبة للجديد في مجال الفن - وهو يعني الموسيقى والغناء - ويؤسفني جداً أني لا أستطيع أن أرى وجهة نظر الساسي، إذ ليس لدي الوقت الذي أتفرّغ فيه لما يتحدّث عنه أو تتحدث عنه الصحف من الأغاني، ولكن لي أن أقول إن صديقي الساسي يقسو كثيراً حين يكتب عن الأدب والفن. |
في الأدب مثلاً لست مع الساسي في أن لا يرى أدباء سوى القدامى، وفي الفن أو هو الغناء، لست معه في أن لا يشعر بوجود أحد سوى الذين ذكرهم في مقاله الذي نشره في عكاظ منذ أسبوع. |
في الأدب كثيرون، ممن يعدون بأكثر مما أعطانا القدماء، وفي الغناء كثيرون أيضاً ممّن يبشّرون الحياة الفنية بالخصب والثراء. |
وأريد أن أهمس في إذن الساسي، أن القدامى من الأدباء، لن يصلحوا للعصر ولأيامنا إذا ظلّوا على قديمهم... إذا لم يتفتّحوا على واقع الحياة... وواقع الحياة متجدد في كل جزء من مليون من الثانية، وأن الفنّانين أو المغنّين في أيام الساسي لن يصلحوا هم أيضاً لأيامنا إلاّ إذا سايروا انطلاقة العصر وسايروا مطالب العصر ولعلّ صديقنا الساسي جدير بأن يدري، أن الفترة التي نعيشها من عصرنا، هي من أشد الفترات في حياة الإنسان تمسّكاً بالجديد حتى ولو كان معدوماً... ورفضاً للقديم حتى ولو ملأ كل جوانب الحياة. |
العالم اليوم... وحين أقول العالم فإني أعني ما أقول تماماً... يعيش حالة رفض قل أن عرف مثلها الإنسان في جميع العصور... ولكنّه الرفض الذي لا يقدّم البديل... وهو أبعد ما يكون عن أن يقبل قديم الساسي سواء في الأدب أو في الفن أو في أي مجال من مجالات الحياة. |
وإن كان لي أن أنصح صديقي الساسي، فنصيحتي له، أن يرى واقع الحياة، ليتاح له أن يعطينا شيئاً غير الثورة لحساب القديم |
* * * |
السيدة ثريّا قابل، في الصفحة التي تقدّمها في عكاظ، تقدّم في الواقع نموذجاً لما تستطيع أن تقدّمه المرأة من خدمة للصحافة النسوية، إن كان لا بد أن تكون هناك صحافة نسوية أو خاصّة بالنساء... فهي صفحة متكاملة، فيها من القدرة على التنويع، والتلوين، ما أتمنى لو أن كل صحيفة تستطيع أن توفّره لقرائها في الصفحات الثمان التي تقدّمها كل يوم. |
قال لي من كنت أتحدث إليه عن هذه الصفحة، إنها صفحة أسبوعية... وفي الأسبوع مجال واسع يتيح الكثير من القدرة على الاختيار والابتكار... بينما الصحيفة اليومية كالفرن، الذي يأكل ما يقدّم إليه ولا يدع مجالاً لأكثر من الملاحقة بما يملأ بياض الصفحات. |
دفاع رجالي مفهوم... أعتقد أن الثريا تستطيع أن تقول لنا رأيها فيه. |
وبهذه المناسبة، يطيب لي أن أقول لصديقنا الساسي، إن عليه أن يقرأ للآنسة فوزية أبو خالد، عمودها اليومي وصفحتها الأسبوعية، ليرى نموذجاً صاعداً في الأداء... ليرى أن الجديد يقدّم الكثير الذي لن يعيبه أنّه ينطلق ويحلّق، وأنّه يستفيد من أجنحته في محاولة جادّة ومخلصة لرؤية الجديد من الآفاق. |
* * * |
مرّت فترة من الوقت، سمّى فيها توفيق الحكيم، (أديب الورق المنفوش)... لأنّه كان ولعلّ لا يزال أقدر أدباء عصره على أن يقدّم للمطبعة كتاباً كاملاً، في موضوع يمكن أن يلخّص في فقرة من خمسة سطور. |
وكان الحكيم مظلوماً دون شك... والذين قالوا عنه هذا الكلام، كانوا حسّاداً أكثر منهم نقّاداً... إذ ليس الفن أن تقول الفكرة، وإنما أن تجعل منها فنّاً. |
ويذكّرني بتوفيق الحكيم والورق المنفوش، صديقنا الأستاذ شكيب الأموي... الذي لا يزال مصراً على أن يكتب بما أسميه أسلوب (العمود الممطوط). |
أقرأ له عموداً فيما تنشره له الصحف، لأخرج بنتيجة لا يتعذّر أبداً أن تتسع لها فقرة من خمسة سطور... هو بأسلوبه هذا يحطّم كل ما يعرفه ونعرفه من قواعد الكتابة والأداء... إنه يمزّق الجملة الواحدة تمزيقاً لا يخضع لقاعدة من قواعد التجزئة والتفصيل... ولنضرب مثالاً لطريقته الفذّة... نفرض أنّه يريد أن يقول (رأيت في أبحر صديقنا الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، جالساً يحدّث البحر عن مشاريعه اللغوية... وكان البحر يصغي إليه إصغاء من يريد أن يضيف إلى مخزونه من الدرر والجوهر... دراً وجوهراً الخ...). |
فالأستاذ الأموي يكتب هذه الجملة هكذا. |
رأيت في |
أبحر |
صديقنا الأستاذ عبد |
القدوس |
الأنصاري جالساً |
يحدّث البحر |
عن مشاريعه |
اللغوية |
وكان |
البحر |
يصغي إليه |
إصغاء من |
وأخشى أن تضيق المساحة المقررة لهذه الكلمة قبل أن أفرغ من كتابة هذه الجملة بأسلوب الأموي. |
قالوا... لكل شيخ طريقته... وهذا صحيح... ولكن أرجو أن لا يبخل الأموي بأن يقول لنا، شيئاً عن طريقته وعن عموده الممطوط... |
|