أِمشْ يا بو رمش |
بعض القراء من الجنسين الذين أحسن الظن بما أكتب، فأزعم أنهم يقرأون هذا الذي ينشر لي في هذه الجريدة، وغيرها أحياناً، ومنهم (أم ضياء)، وأضيف إليها بعض الأمهات الشابات من سيدات الأسرة، سيلفت نظرهن ويسترعي انتباههن - وربما بحدة - عنوان هذا المقال، إذ هو فيما أفهم، جملة متداولة، ومألوفة، يهتف بها، هَمْساً، أو تصريحاً، وغالباً بين المُشاة في الشوارع، أو في أروقة المراكز التجارية وممراتها، وهي تسمع من الشبان، موجّهة إلى من يرامقونهن من الفتيات الشابات (طبعاً)... وتستغني الجملة عن الشرح والتفسير، فإن المقصود بها: (هُنّ)... ولعمري من يمكن أن يكون غيرهن، من مخلوقات الله، من يستهوي، فيستوقف، فيلهم الجملة الغَزِلة، أو التي تتغزّل بـ (الرمش)؟؟؟ وهو في الفصحى (الجفن)... ولكنهم في اللهجة الدارجة، يعنون أو يقصدون (الهُدب) ويعرّفه اللغويون بأنّه (شعر أشفار العينين)... وهو من خصائص الجمال وأسراره العجيبة التي نستحسنها، ونرتاح إليها، ليس في قسمات الإنسان فقط بل وفي بعض الحيوان أيضاً. |
والأرجح عندي أن الجملة (كما هي) متداولة في نجد، ولكنّها مفهومة في الحجاز بل قد لا يتعذّر فهمها في أي بلد عربي، وأجملُ ما فيها أنها تُفهم على وجهها والمقصود منها، وهو التغزّل (العابِر)، الذي يدور لمجرّد ما يسميه إخواننا المصريون (معاكسة)، يمارسها فتى، تستلفت نظره فتاة فيطاوع هواه، بكلمات مثل (يا جميل!)... وقد أبيح لنفسي أن أقول: إن جملة (إِمشْ يا بو رمش)، فيها من معنى (التغزّل) والتدليل، والإعجاب أكثر كثيراً من كلمة (يا جميل)، وأمثالها مما يتداول بين الشبان والشابات في مصر. |
ولا بد أن (أم ضياء) ستسألني: (من أين لك هذا؟؟؟)، وترفع أمام عيني المقال بهذا العنوان... ولو كنت في تلك الأيام - وأعني أيام الشباب - لكان من السهل أن تردف السؤال، بما يقترب من معنى التعنيف، والتحقيق، ومحاولة اكتشاف الخبيء والمستور من التصرفات، التي لا بد أن اتّهمَ بها، مهما ادّعيتُ صادقاً من البراءة، والبعد عن هذا الذي يثير ظنونها وشكوكها... أما اليوم، فما أسهل أن أرفع أمام عينيها هذا الكاريكاتير الذي يصافحنا به (محمد الخنيفر)، في الصفحة الأخيرة من جريدة الرياض الغراء كل يوم أو في كل عدد. |
وليست هذه هي المرة الأولى التي يستوقفني فن (محمد الخنيفر)، فقد تعلّقت بمتع أعماله، منذ كان يعمل في إحدى مطبوعات الناشرين الأستاذين (هشام ومحمد علي حافظ)... كان ما يستوقف نظري، هو استيعابه العميق المتمكن، للبيئة التي ينتزع منها مواضيعه وأعني بهذا الاستيعاب، أنه في الشخصية التي يترك لريشته أن تلاحق ملامحها، بل وأن ترصد تعبيراً معيّناً يقصد إظهاره في الموضوع الذي يعالجه، يتقن رسم هذه الملامح ورصد هذا التعبير، إلى حد يعيد إلى ذهنك، ما رأيته أو تراه عادة في الأسواق أو في أي مكان تواجدت فيه مع الناس. |
ولا أدري، أين أتيح للأستاذ (محمد الخنيفر) أن يدرس الفن - والكاريكاتير منه على الأخص - ولكني لا أشك في أنه دارس، ومؤهل في فنّه تأهيلاً عالياً، ولكن قبل الدراسة والتأهيل العالي، لا بد أن يكون من القلة القليلة جداً من الفنّانين التشكيليين الذين تتوافر فيهم موهبة القدرة على السخرية والنكتة واقتناص الموقف أو الحادث أو الحركة التي تختزن عنصر المفارقة، وتتكتّم الابتسامة، لتطلقها الريشة البارعة على الورق. |
وفي الكاريكاتير الذي أخذت منه عنوان هذا المقال، أعطانا الخنيفر صورة انتزعها من مشاهداته، في الشوارع أو في أروقة وممرات المراكز التجارية... فما أشد ما عبّرت عنه اللوحة من هذا الواقع المعاش... هاتان الفتاتان مثلاً... لم يكتف الفنّان برسم فتاتين تمشيان على رصيف الشارع، ولكنّه عُني بتأمّلِ فنانٍ، بأن يقول لنا إن فتاة اليوم تتمتع بهذه الرشاقة، والحرص على أن تكون الرشاقة التفافاً في التكوين، وحسن اختيار في الفستان البارع في إظهار (الخفي المبين) من عناصر الرشاقة والدل. ثم هذا الذي عانق بإحدى يديه عمود النور الذي كان يقف تحته تربّصاً بالفتاتين، ومد اليد الأخرى، كما فتح (مغارة) هي فمه وفيها بقية سيجارة، وانطلق يقول: (كلمة ولو جبر خاطر... ولاَّ سلام من بعيد...) يقابله آخر على نفس الرصيف - والاثنان يكوِّنانِ إطاراً يحتضن الفتاتين - وهذا هو الذي يقول: (إمشْ يا بو رمشْ)... وقد أغلظني اللعين أنه يعضُّ بين أسنانه (غليوناً)... وأنا للأسف ممّن يتعاملون مع الغليون... وتبلغ سخرية الخنيفر الفنّان الذروة فيما قالته إحدى الفتاتين للأخرى وقد سمعتا تفاهات الرجلين (منعوا البعارين السايبة... والأغنام السايبة... والكلاب الضالة... ما أدري ليه إلى ها لحين ما منعوا الحمير الخايبة...). |
وبعد... |
ففي اللحظات التي كدت أفرغ فيها من كتابة هذا المقال... وقف إلى جانبي حفيدي (عاصم مجدي) في السابعة من عمره... وما كاد يلقي نظرة على الكاريكاتير، حتى قال بأسلوبه (هادي الصورة عندي من زمان...)... فذكّرني بأنّه يقص كل لوحة من لوحات الخنيفر ويحتفظ بها في ملف خاص... ولأنّه لم يصل بعد إلى المستوى الذي يستطيع أن يقرأ فيه ما يكتب على ألسنة شخصيات الكاريكاتير، فهو يسألني أحياناً... ماذا يقول هذا؟؟؟ وماذا يقول ذلك أو تلك من شخصيات اللوحة... فأحاول من جانبي أن أساعده على الفهم. |
وحاولت أن أتذكر... وتذكّرت فعلاً... أن هذه اللوحة بالذات، قد سبق أن نشرت ربّما منذ أكثر من خمسة أو ستة شهور... |
ووجدت نفسي أهنّئ حفيدي على ذاكرته... وأهنّىء الفنان الخنيفر على إبداعه الذي يستوعبه حتى الأطفال. |
وأضحك في هذه اللحظة، وأنا أردد بيني وبين نفسي ووحدي طبعاً... (إمشْ يا بو رمشْ). |
* * * |
من المفارقات التي أصبحت أعيش ضغطها، ولا أدري كيف يمكن أن أحتويها أو أستوعبها، مفارقة اكتشافي، أن الجريدة اليومية، أو المجلة وما في حكمهما من المطبوعات، ليست وحدها التي تفتقر دائماً إلى فريق عمل، يختلف حجماً وعدداً وكفاءات، وزمناً معيناً ومفروضاً لإنجازه وإيداعه مراكز التوزيع، بل إن الكاتب أيضاً... أصبح يحتاج إلى فريق عمل، يمكن أن يكون محدوداً، ولكن لا مناص من وجوده حول الكاتب، ليقوم بمجموعة من المهام تبدأ في الساعة الثامنة صباحاً، وقد لا تنتهي إلى ساعة متأخرة من الليل. وعلى رأس قائمة هذه المهام، قراءة هذا العدد الضخم المتنامي من الصحف والمجلات المحلية، والأجنبية العربية، وغير العربية، ومحاولة حصر وتبويب، ما ينشر في هذه المطبوعات من مواضيع يجب على الفريق، أن تكون لديه الخبرة، بما يهم الكاتب، ويمكن أن يعنى بالتعليق عليه أو تناوله بالبحث المفصّل فيها انطلاقاً من أهمية الموضوع وعلاقته باختصاص الكاتب، أو بعلاقاته أو بمشاعره وموقفه من قضايا وطنه، أو قضايا الوطن العربي، وما أكثرها وما أشد تعقيدها بل وما أشد ارتباطها بتاريخ تطورات تشهدها المنطقة منذ نزوح الاستعمار عنها، وظهور دولها المستقلة، ولكل دولة قضاياها ومشاكلها، ومعاناتها. |
يستحيل على كاتب مثلي، أن يستغني عن هذا الفريق، ويستحيل في نفس الوقت، أن يجده... وإذا وجده، فمن أين، وكيف يستطيع أن يؤمن لكل فرد من هذا الفريق راتبه الذي وجدت بالتجربة أنه لا يقل عن ألفي ريال لكاتب آلة كاتبة، لا تزيد سرعته على عشرين إلى خمس وعشرين كلمة في الدقيقة؟، مع الأخطاء الإملائية، حتى وهو ينقل من نص مكتوب. ما سبق كلام هامشي، وقد يحكم عليه بعضهم بأنه تافه وسخيف، ولكن قد أرجو قبل إصدار هذا الحكم، أن يتذكّر، زخم تدفّق أخبار الإنجازات الهائلة التي تتلاحق في المملكة، بنسبة عالية جداً من التسارع، إلى جانب الأهمية البالغة لكل منجز أو إنجاز للقارىء أن يسرع بطرح إشارة استفهام، وعلى فمه وتحت شاربه الكث ولحيته التي تستدير حول محياه، ابتسامة عريضة مفهومها: وما علاقتك؟؟؟. أو علاقة أي كاتب بهذه الإنجازات أو المنجزات؟؟؟ لستَ موظفاً من موظفي الدولة... ولست مكلفاً بالمتابعة أو التحليل أو كتابة تقرير. والسؤال بمفهومه هذا، صحيح مئة في المئة، وقد لا أزيح الستار عن مستور خفي إذا قلت، إني كثيراً ما طرحت السؤال على نفسي... بل لقد طرحته منذ سنين طويلة، ولم أجد إجابة مقنعة، أو رداً شافياً حاسماً حتى اليوم... ويضحكني منطقي أو هو عقلي، حين أجده يسألني بدوره: وما حاجتك إلى أي إجابة، وقد درجت على هذا السلوك الفكري أو الثقافي أو لا أدري ماذا تسميه، منذ أكثر من خمسين عاماً... إنك تعلم كيف تتكون العادة أولاً، وكيف يصعب التخلص منها - إذا بدا للمرء أن يتخلص منها لأي سبب - ثانياً... وما وقعت فيه وأدمنته كعادة، هو معايشة الحرف والكلمة، من جهة، والاستجابة لحوافز ودوافع المشاركة بإبداء ما تظن أو تعتقد أنه الرأي الذي يضيف إلى الموضوع أو المعلومة ما قد يكون إضاءة، تظن أنها ضرورية يحتاجها القارىء، أو تحتاجها المصلحة العامة. وليست المشاركة بالرأي مقبولة أو مرضياً عنها في جميع الأحوال... ولكنك - مع إدراكك لهذه الحقيقة - تلتزم ما تظن أو تعتقد، وفيك إلى كل ذلك، نوع من الغرور، الذي يوهمك بأنك بصير مدرك للوجه صحيح من القضية المطروحة... وهذا نوع من اللَّدَد لا يستطيبه الكثيرون، ولكن من مشاكلك مع نفسك أنك ما زلت تأخذها بقاعدة (قل كلمتك وامش)، التي ربما رسخت في وعيك، منذ قرأت هذه الكلمة لجبران خليل جبران، أو ربما لغيره ممّن كنت تقرأ لهم من شعراء المهجر منذ أكثر من خمسين عاماً. وأنت قد تقول كلمتك، وتتوهم أنك تستطيع بعد أن قلتها أن (تمشي)، بينما الواقع أنك لا تمشي، وإذا أتيح لك أن تمشي فعلى حذر يرغمك عليه وعث الطريق، ولا أظنك تنسى أنه كان وعثاء، فيه احتمال أن تعجز، وأن تسقط، ولعلك قد سقطت أكثر من مرة، وكان يمكن أن لا تنهض أبداً، ولكنه فضل الله عليك، وظنُّك بنفسك أن عليك أن تكمل (المشوار)... ولا أدري أي مشوار هو؟ وأنت أيضاً قد لا تدري، بعد أن أوغلت في الدرب، وتعددت رؤى السراب، التي كنت تحسبها ماء... أو هدفاً... وما أصعب، بل وأسخف، أن يسير المرء بلا هدف أو أن يكتشف بعد طول التسيار: أن الهدف كان سراباً. |
ولأعد الآن إلى زخم تدفق أخبار الإنجازات الهائلة التي تتدفق في المملكة، والتي تملأ سمع الدنيا، وبصرها، ليس بكونها هائلة رائعة فقط، بل بما يبرق ويتلألأ وراءها من حقائق خليقة بأن يعي مضمونها الناس. وهي أن هذه المنجزات لم تنهض، وتشمخ من فراغ، لم يكن الغرض من إنجازها... ووضعها في خدمة المواطن، أو في درب مسيرته نحو الأفضل والأكمل مجرّد تظاهرة، أو تفاخر وازدهاء بالقدرة على العطاء. وإنما هي تحقيق لما كان أحلاماً، لم نكن نصدّق إطلاقاً أنه سوف يأتي اليوم الذي نراها فيه ماثلة أمام الأنظار. |
أما، ما أنفق على كل منها، وما لا يزال ينفق، فهو ما لا بد أن يدرك المغرضون والذين يتساءلون: أين تذهب واردات النفط؟؟؟ إن الإعجاز عندنا هو أننا قد استطعنا أن نصنع من النفط الذي أغدق الله علينا عطاءه، ما لن تستطيع صنعه أي دولة في هذه الفترة القصيرة من الزمن... بل ما قد يحتاج إلى أجيال من عمر الزمان. |
|