المسلمون وجوهر الإسلام |
من أهم الحقائق التي يتحتم أن يواجهها قادة الفكر الإسلامي، في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام، وهي من أشد المراحل خطراً على كيانه، عقائدياً، وسياسياً، واقتصادياً، بل ومصيراً ومقدرات... أن بين المسلمين، وبين حقيقة الإسلام كما أرادها الله في كتابه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فجوة واسعة، لا نجد حرجاً في أن نقول إنها لا تزال تتسع، ولا تزال تترامى أطرافها، بحيث لم يعد غريباً أن نجد الألوف من أبناء الأمة الإسلامية، وفي معظم الأقطار، لا يعرفون عن حقيقة دينهم القيم الحنيف، إلا ما لُقنوه وتَلقَّوه - أما في المنزل أو في المدرسة الابتدائية من أمور العبادات، في أضيق الحدود. |
ولا جدال إطلاقاً، في أن العبادة هي التعبير الأظهر والأقوى والألزم لحياة المسلم في علاقته بعقيدته، وفي طاعته وإذعانه لأمر ربه، وحين يُلقَّنُها أو يتلقاها أبناء المسلمين في طفولتهم وأيام صباهم، يبدأون أول خطوات مسيرتهم نحو حقيقة دينهم... نحو الجوهر في هذا الدين، ولكن المشاهد الملموس، أن المسيرة تقف عند هذه الخطوات الأولى، وتنقطع الأسباب والصلة بينهم وبين هذا الجوهر، أو بين مواصلة المسيرة فإذا بهم لا يعرفون عن حقيقة الإسلام، أكثر من أنه صلوات خمس، وصيام رمضان، والحج والزكاة... وليس بعد ذلك شيء. |
وحتى هذا الذي يُلقَّنونه ويتَلقَّوْنه في سن مبكرة، يأخذ في التلاشي والذوبان، بعد سن المراهقة والشباب، فما أندر ما نرى التزام الشباب بأداء الفروض والواجبات فضلاً عن التزامهم بخلق الإسلام، وأدب الإسلام، وسلوك الإسلام. وما أكثر ما نرى في كثير من بلدان العالم الإسلامي، المسلم الذي لا يتحرج عن أن يتخذ من الكذب ((مثلاً))، سبيلاً إلى الغرض، ومن التخلع والتسكع في المشية سبيلاً إلى لفت الأنظار، ومن البذخ والإسراف والإنفاق على التوافه سبيلاً إلى توطيد العلاقات بينه وبين رفقة السوء وأخدانِ التهتك والاستهتار... بل ما أكثر ما نفاجأ بمن نستبعد أن يكون من أبناء المسلمين، بما نسمع من استهتاره بكل عقيدة، وبكل القيم الروحية، وبالأخلاق في مفهومها العام، فإذا به من أبناء المسلمين، بل قد يكون ابناً لعَلَمٍ من أعلام المسلمين أو عَينٍ من أعيانهم. والعلة في كل ذلك، هو هذه الفجوة التي قلنا إن على قادة الفكر الإسلامي أن يواجهوها... فجوة لا تزال تتسع ولا تزال تبتلع الألوف من أبناء الأمة، فإذا الذي بينهم وبين حقيقة دينهم، كالذي بين الأرض والجوزاء. |
أما كيف تتم هذه المواجهة بين قادة الفكر الإسلامي، وبين هذه الحقيقة المريرة فموضوع أكبر كثيراً من أن يكتفي فيه بمجرد الوعظ والإرشاد، ولعل ما قيل أو يقال عن أن النصيحة، هي آخر ما يمكن أن يثمر وأن يعطي ما يرجوه الناصح والواعظ والمرشد، لا يخلو من بعض الحق. وعلى الأخص في هذه الأيام، التي يتجاذب أبناءنا فيها عامل الإغراء بما يتوافر في طبيعة الحياة المعاصرة من وسائل انتقال الأفكار على اختلافها إما بما يتاح من الترحال في ساعات، أو عن طريق مشاهدة ما تعرضه الشاشة الصغيرة والاستماع إلى المذياع الذي يعطي ما لا سبيل إلى حصره من فنون التسلية والترفيه إلى جانب ما يحقنه في الأذهان وفي القلوب، من أنواع التوجيه إلى ما خطط الموجهون من أهداف. |
مواجهة الفجوة القائمة بين أبناء المسلمين وحقيقة الإسلام، مسؤولية قادة الفكر الإسلامي، ولنا أن نقول إن قادة الفكر مطالبون بأكثر من نشر كتاب، أو إذاعة حديث، أو كتابة مقال. وهم يذكرون ما يتردد على الألسنة من كلام العوام (مين يقرأ ومين يسمع)... مطالبون بأن يخططوا لهذه المواجهة، والدول الإسلامية مطالبة بأن تُمد التخطيط بكل ما يضمن تنفيذَه من أموال، وقد لا يقل ما ينفق على هذا التخطيط، عما ينفق، على الحرب ولكنه - في نفس الوقت - لا يقل عنه جدوى ومردوداً وعطاء. |
عمادُ أي نهضة هو التخطيط الذي تضعه قيادات واعية، ونجاحُ أي تخطيط لهذه النهضة، يتوقف على ما ينفق في سبيله من أموال، وما يُعَدّله من رجال. وهذا ما لا نجد بداً من التسليم بأنه لم يتم في كثير من بلدان العالم الإسلامي حتى اليوم. |
مواجهة الفجوة القائمة بين المسلمين وبين حقيقة دينهم، مسؤولية قادة الفكر. إن هذه المسؤولية أمانة في رقاب المسلمين. |
* * * |
من أبشع التناقضات التي يعيشها، ليس إنسان هذا العصر فقط، بل إنسان جميع العصور، منذ عرف التمييز بين سلوكيات مَرضِيٍّ عنها، لأنها من مكارم الأخلاق، التي نادى بها ودعا إليها دعاة الفضائل قبل رسالات السماء وبعدها وحتى اليوم... من أبشع هذه التناقضات أن توصم سلوكيات معيّنة بالعار، والعيب وبأرذل الصفات، التي يحصرها قاموس الفضائل والأخلاق، ومع ذلك، ورغم كل ما يتفجّر فيها من صديد القذارة والفحش، أن تكون نسبة المتورّطين فيها، والواغلين في حمأتها، أكبر كثيراً من نسبة المترفّعين عنها والحريصين على التمسك بأهداب الفضيلة تعفُّفا وتقوى وخوفاً من الزواجر والنواهي كما جاءت بها رسالات السماء. |
من هذه السلوكيات المرفوضة في العلن، والملاحقة في الخفاء ووراء الجدران، ما عرف على مر الأزمان (بالدعارة) بمفهومها الشائع وهو (الممارسات الجنسية المحرّمة وغير المشروعة). وحين نتصايح، بأن العالم - بغض النظر عن المواقع في الأرض - قد أصبح يزداد غرقاً في هذا الوحل، فإننا نؤكد حقيقة هذا التناقض في حياة البشر، وقد نتناول المجتمعات بصنوف من التعليل، وفنون من التفسير، لانتشار الظاهرة، أو هي (الوباء) الذي أفرز أنواعاً من الأوبئة، القاتلة، آخرها في القائمة الطويلة العريقة، وباء نقص المناعة الذي يزلزل العالم من أقصاه إلى أقصاه، ليس لأنه (قاتل) فقط، وإنما لأنه مصر على الانتشار والتسلل إلى جميع بقاع الأرض، ولأن العلم، لا يزال يقف مشلول الذهن أو الحركة أمام خطره الرهيب. وعلة الانتشار السريع، أو كبرى هذه العلل وأخطرها، هذه (الدعارة بغض النظر عن نوعية (ثنائيتها) بين الغارقين في وحولها. |
ولكن هل خطر لنا أن نتساءل، عمّا إذا كانت دعارة الممارسات الجنسية، هي النوع الوحيد مما يطلق عليه أو يسمّى (دعارة)؟؟؟ وإذا كانت هناك أنواع أخرى، - وهذا هو الواقع فأيهما أشد خطراً، وأبعد تأثيراً، في بنية المجتمعات، وفي قضاياها على اختلاف وتنوّع هذه القضايا؟؟؟ |
والواقع الذي أشعر أن علينا كمثقفين، تقع على عواتق شرائح منا مسؤولية النظر ومحاولة توخّي الأصلح والأفضل في مسيرة المجتمع، أن نواجهه، وأن نعرف خطره، هو أن هناك (دعارة فكرية)... وهي دعارة لا علاقة لها إطلاقاً بمفهوم الدعارة الجنسية، ولكنها في تقديري أخطر منها، لأنها (مقبولة) ومَرضِيٌّ عنها، وتمارس للأسف على نطاق واسع في عالمنا العربي على الأخص، وإن كان ما يسمى ((العالم الثالث)) موبوء بها بنسبة تزيد هنا وتنقص هناك. تبعاً لشدة أو تراخي إلحاح القضايا التي يعايشها المجتمع. |
و(الدعارة الفكرية) تجتمع مع (الدعارة الجنسية) في خصيصة، هي (استئجار) الممارسة أو دفع مبلغٍ ما، يزيد أو ينقص، مقابل مزاولة هذه الممارسة، يدفعه ما لا بد أن يسمى (المستفيد)... والمستفيد هو ذلك الذي يريد أن يشوّه الحقائق، بأن يقلب الباطل حقاً... أن يخدع شرائح معينة من القراء، عن الواقع المظلم والمأساوي الذي تعيشه جماهير أمة يرتبط مصيرها بذلك القرار أو البيان رقم (1)، الذي يخترق الأسماع من أجهزة الإذاعة والتلفزيون ليعلن القضاء على نظام، يتّهمه، بكل ما يكون هو في الواقع من مؤيديه وأنصاره طوال دهر طويل... ذلك نوع واحد هو الأكثر شيوعاً، والأكثر ظهوراً في العالم الثالث، وإن كانت في تجارب الحياة السياسية في هذا العالم أنواع أخرى لا يتسع لها مجال هذا المقال... والمستفيد يعلم ما للكلمة من تأثير على العقول والإفهام والضمائر، على المستوى الجماهيري الواسع فما أسرع ما تمتلىء أنهر الصحف، والمجلات، إلى جانب طاقة المايكروفونات، بهذه الكلمة تمجّد، أصحاب البيان (إياه)، وتنزل أبشع اللعنات وأشدها قذارة على النظام الذي تم الإجهاز عليه... والذين يكتبون هذه الكلمة، ويتفنّنون في إبداعها هم بالطبع أولئك الذين (قبضوا)... ويظلون (يقبضون)... وهم أنفسهم الذين لا يجدون ما يمنع أن يكتبوا، نفس الكلام لأصحاب قرار أو بيان آخر، يحمل نفس الرقم يعلن القضاء على نظام أخذ دوره في العبث الداعر القذر بالحقائق ومصالح الجمهور. |
ومع أن النوعين من (الدعارة) يتقاضى أو (يقبض) أجره على الممارسة القذرة، فإن هناك فرقاً لا بد أن يذكر، وهو أن الدعارة الفكرية تتمتع بالأجر الأعظم والأكثر سخاء... ليس لما تغوص فيه من الوحل والصديد، وإنما أيضاً - وهذا عجيب حقاً - لالتزام الصمت المطبق حتى عن المحاسن في نظام ما... ويحكى بهذه المناسبة عن مجلة (قبض) صاحبها من رموز النظام في بلد من بلدان العالم الثالث، مبالغ طائلة، دون أن يكتب في مجلته حرفاً يمدح أو يقدح... فلمّا سئل في ذلك كان جوابه العجيب... إن ما قبضه... وما سوف يقبضه في المستقبل أيضاً هو ثمن (السكوت)... |
بيوت الدعارة الجنسية في كثير من بلدان العالم، تضع لافتات بأسماء أصحابها... فما أكثر هذه اللافتات التي تحملها بيوت مماثلة للدعارة الفكرية في العالم الثالث وهي تتميّز بعد ذلك بأنها تجد الأبواب مشرعة، لاستقبالها وانتشارها دون قيود. |
بقدر ما كان (جورج أورويل)
(1)
متشائماً، وهو يكتب قصته عن الحكم الشمولي الذي (أنذر) بأنه سوف يسود ثلاث دول تقتسم العالم وهي (أوشينيا) و(أوريشيا) و(إيستيشيا) في عام 1984 - أي منذ ثلاث سنوات - بقدر ما تتلامح المؤشرات القوية التي تبشّر - أن لم تكن تؤكد - بأن هذا النوع من الحكم أو التحكم في مصير البشرية، لم يعد يختزن تلك القدرة أو الطاقة التي عهدها البشر له تسري كالسحر أو كتيّار خفي لا سبيل إلى مقاومته في الأعماق البعيدة من مشاعر الجماهير. |
ومن هذه المؤشرات التي تعتبر مفاجأة مذهلة بكل معيار، يعيش العالم صدمتَها، هذا النجاح الساحق الذي حققه حزب المحافظين، برياسة السيدة مارغريت تاتشر، التي تدخل تاريخ بريطانيا، لأول مرة منذ مئة وستين عاماً، برياستها الوزارة والاستقرار في (10 - داونينج - ستريت) فترة ثالثة. والنجاح في الانتخابات، في شعب، يعتبر الأول والأعظم في ممارسته للديموقراطية بمعناها الذي قد لا يفهمه ويعيه شعب، كما يفهمه ويعيه الشعب البريطاني... ينشر أو يذكر بالكثير الذي استطاعت أن تحققه هذه السيدة العظيمة، خلال الفترتين السابقتين من حكمها، ولكن أهمّ ما قد لا يتجاوزه التأمُّل السريع، هو مواجهتها الصارمة والحاسمة والجريئة لما نسميه أو اصطلحنا على أن نعرفه باسم (القطاع العام)... ظلّت سياستها تتجه إلى تقليم مخالب هذا القطاع العام، في الكثير الضخم من مؤسساته التقليدية، أو التي استقر في الأذهان أنها التي يتعذر أن تُمس إلا بمغامرة لا تطيح بالوزارة فحسب بل قد تشعل نيران ثورة يجد فيها أبالسة الحكم الشمولي سبيلهم، إلى تحقيق الحلم الذي لا تزال النقابات العمّالية في بريطانيا والعالم تتطلع إلى تحقيقه في يوم ما. لقد استطاعت تاتشر، أن تنسف، ركائز هذا التطلع، وأن تقنع (العمّال) في المناجم والمصانع، بل وحتى في السكك الحديدية، رغم كل حركات الإضراب، التي واجهتها بشجاعة منقطعة النظير... أن ذلك الحلم، ليس إلا كابوساً آن أوان اليقظة من أوهامه. |
ومن المؤشرات، التي أصبحت تتوالى، ولها مضامينها التي لم يعد يتعذّر إدراكها وتقدير نُذُرها، بالنسبة للحكم الشمولي في مواطنه أو بيئاته الأصلية، هذا الرجل (الظاهرة)، الذي استطاع أن يحتل مقعد القيادة في الاتحاد السوفيتي... وهو (ظاهرة) لأنّه يتصرّف من موقع يعلم أنه قائم على بركان، يحاول أن يخمده، ليخرج بالشعب الذي ظل أكثر من ستين عاماً يعيش الحياة التي صورها (جورج أورويل) في قصته... إلى ساحة لا تزدحم بالطوابير، ولا تراقبها وتتحكم في مصير الجماهير فيها رغبات (الأخ الكبير The Big Brother). |
ثم ذلك العملاق الرهيب، الذي أخضعه (ماو) لإرادته، وظل يهيمن على مقدراته بما يشبه سحر الساحر، وطِلَّسْمُه الأوحد هذه المبادىء التي نفثها فيه أبالسة الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي... إنه نفس العملاق الذي أخذ يتحرك وراء السور العظيم ويتخلّص من سحر الساحر، ومن ثورته الثقافية، ليجد أن الفردوس الذي أوهمه به (ماو) هو الجحيم، الذي آن له أن يحاول الخروج منه، ولكن بما يتناسب مع حجم العملاق في حركته التي يصعب أن نتوقّع لها تسارعاً أكثر مما نتسامع به بين الحين والحين. |
نجاح السيدة مرغريت تاتشر، مؤشر حين يذكّرنا بإنذار جورج أورويل، في قصته، يضعنا أمام مستقبل، ليس لبريطانيا وحدها، وإنما لعالم تتوالى فيه انتصارات الديموقراطية، بمفاهيم قد لا تصل إلى مستوى بريطانيا، ولكنها لن تتراجع إلى ذلك المستوى الأسود الرهيب، الذي يهيمن عليه (الأخ الكبير The Big Brother) ومن قبيله ونوعه (لينين، وستالين، وماو) ثم من أذنابه أولئك الذين لا يزالون غافلين عن حقيقة تحيط بهم وتطوقهم يوماً بعد يوم، وهي أن العالم يتغيّر... وأن الكوابيس، لا بد أن تتلاشى، وأن يستيقظ العملاق من نومه الطويل. |
* * * |
الفكرة السائدة والقائمة في الأذهان طوال عقود من السنين مضت، أن الزيادة في عدد سكان بلد ما، تزحفُ بنهمها وشهيتها المفتوحة دائماً على إنتاج هذا البلد، والزراعي منه على الأخص، بحيث، يقوم الحساب والتنظير دائماً على أن مساحة الأرض، الزراعية أو التي يمكن أن تزرع لإنتاج الغذاء، تتقلّص بالنسبة للزيادة في عدد السكان. ولا حل في هذه الحالة إلاّ ما يسمى (تنظيم الأسرة)، وهو الحد من التناسل، بوسائل، منها هذه الطبية أو العلاجية المعروفة، ومنها كذلك، (إرادة) الزوجين، واتفاقهما على الإنجاب أو عدمه، أو تحديد عدده... وهو ما نسمع أنه واقع في فرنسا وألمانيا منذ أكثر من عقدين، بحيث كانت النتيجة انخفاض أو - على الأقل - عدم الازدياد في عدد السكان. |
ومع حرصي على تجنّب التورط في مناقشة قضايا تعتبر (علمية) بحتة، فإن ما يدور بذهني (عشوائياً)، كلّما قرأت بحثاً عن المشكلة، في البلدان التي تعاني مما يسمى (التفجر) أو هو (الانفجار السكاني)، هو أن مساحة الأرض في الدول أو البلدان التي تصرخ من هول المشكلة، لا ذنب لها أبداً، إذ هي في الواقع قادرة على استيعاب أضعاف أضعاف الزيادة التي تُحارَب بشراسة، ويتصايح العلماء والقادة، إنذاراً بخطرها الزاحف المنتظر. |
على سبيل المثال... بلد كالشقيقة مصر... تعاني من مشكلة (الانفجار السكاني) هذه وترتفع فيها صيحات الإنذار من مستقبل المشكلة إذا لم تعالج بالحد من التناسل والعقدة في الظن القائم والقائل إن الأرض لا تحتمل هذه الزيادة في عام كذا من المستقبل القريب... بينما الحقيقة، أن الأرض في مصر بحدودها السياسية القائمة، إذا كانت لا تحتمل الزيادة المتوقّعة، فإنها بموقعها الجغرافي - لا السياسي - مترامية الإمداء تستوعب أضعاف أضعاف كل زيادة متوقّعة ليس في مصر، وإنما في جاراتها (جغرافيا) أيضاً... فلنحاول أن نلقي نظرة على موقع مصر، لنرى الفراغ الهائل والنقص الحاد في عدد السكان ونسبتهم في البلدان المجاورة لها... ومن هنا يمكن القول إن المشكلة ليست في الإنجاب، وإنما في الوضع السياسي... في الحدود الفاصلة بين مصر بعدد سكانها المتزايد، وبين جاراتها التي تشكو من قلة عدد السكان مع الزيادة الهائلة في مساحة الأرض. |
نفس الملاحظة بالنسبة للصين... التي زاد عدد سكانها عن الألف مليون... إذا ألقينا نظرة على موقعها الجغرافي، والمساحات الهائلة جداً من الأراضي التي تجاورها، فإننا نجد أن المشكلة هي في الوضع السياسي... في الحدود بينها وبين الدول المجاورة لها وليست في زيادة عدد السكان. لو لم تكن هناك هذه الحدود السياسية الخانقة، لكان في مساحات الأراضي المجاورة متسع لأضعاف أضعاف هذا العدد، وفي الدولتين أو الثلاث دولٍ على السواء. |
ولنأخذ مثالاً آخر من المنطقة التي يتدفّق فيها نهر الأمازون في أمريكا اللاتينية... الأرض نفسها، لا تزال بكراً، تختزن من الموارد على اختلافها ما يغني ربما جميع البشر على سطح هذه الأرض كلّها... ومياه هذا النهر التي تُهدر في البحر، لو أُحسن تصريفها وتوزيعها لما بقيت الصحارى، ولزالت مشكلة ((التصحر)) التي تشكو منها بلدان أخرى... فلنتصور لو أن الحدود والأوضاع السياسية تلاشت، وانتهت وتُرك للناس، أن يعمروا اليباب، دون تدخل السياسة وأوضاعها... ماذا يكون واقع البشر من الرغد والرفاه والعيش الآمن والاعتماد - بعد الله - على خيرات الأرض. |
بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الفترة التي ظهرت فيها الأمم المتحدة، ارتفعت دعوة لا أتذكر صاحبها أو أصحابها، إلى (العالم كلِّه وطناً واحداً لدولةٍ واحدة)، يكون فيها الإنسان (مواطناً عالمياً). يحمل جواز سفر، يستغني عن تأشيرة دخول إلى أي بلد في العالم... والجواز، ليس للتنقل والسفر، وإنما لإثبات الاسم، والهوية لا أكثر ولا أقل. |
وكما سخر الناس بالفكرة، وكان نصيبها سلال المهملات، يمكن أن يسخر القارىء بفكرة هذا المقال... وأول ما يخطر بباله هو أن يسألني محملقاً ومكشراً عن أنيابه: (هل يعقل أن تتناسى اثنتان وعشرون دولة عربية، حدودها السياسة وأن تلغي قيود الدخول والخروج والحواجز السياسية، وأن تتنازل عن هيبتها، ومكانها في جامعة الدول العربية، ثم في هيئة الأمم المتحدة، لغرض خيالي سخيف، تواجه به مشكلة تزايد عدد السكان؟؟؟). |
ولا أملك، بطبيعة الحال، إلا أن أتراجع، وأن أترحّم على المواطن العالمي وكان الله في عون المنظرين والعلماء، في مواجهة الانفجار السكاني الرهيب. |
|