شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من غير ليه
ولن أستنكر أن يحملق القراء عيونهم مندهشين من أن يكون لعجوز مثلي، اهتمام يبلغ حد الكتابة عن أغنية الموسيقار محمد عبد الوهاب، التي أدَّاها أو غنّاها بصوته الغائب عن الأذن العربية طوال ما يقرب من ثلاثين عاماً... ولِمَن يستنكر أقول: (لا تنسوا أن محمد عبد الوهاب، يشارف أو يتجاوز الثمانين من العمر - فهو و- (أنا) متقاربان في العمر... ومن الطبيعي أن يثير انتباهي واهتمامي، قبل إعجابي، أن يعود هذا العجوز، ليس إلى الموسيقى فهو يعيشها طوال هذه الأجيال، وإنما إلى الغناء بصوته... ولذلك فقد يكون صحيحاً أن يقال (صوته) هو الموضوع... إذ ما أكثر ما اختلفت أصوات الرجال - والنساء أيضاً - بعد أن يبلغوا هذه المرحلة التي بلغناها - محمد عبد الوهاب وأنا - من العمر... بعضهم تطرأ على الصوت (رعشة) لا تختلف عن رعشة اليدين والساقين... وآخرون تطرأ على أصواتهم حالة هزال وضعف، فلا تكاد تسمع ما يقولونه... فإذا أضفت إلى ذلك ضعف (السمع) فإن الموقف عندئذٍ، مع هؤلاء العجائز، يغدو بالغ التعقيد.
وطوال الثلاثين عاماً التي انقطع فيها الموسيقار محمد عبد الوهاب عن الغناء لم يساورني أي شك في أنه لا يغني لأنه (لا يجد صوته)... وإن كنت قد سمعته يتحدث في أكثر من حوار، وكان يعجبني امتلاء صوته، ولكني كنت أقول: (ولكن الحديث الذي أسمعه منه شيء... والغناء شيء آخر... لا أشك في أن محمد عبد الوهاب لا يغامر به، وهو ذلك المخلوق الحسّاس، أو بالغ مشاعر الرهف في الإحساس... إذ لن يتساهل في أن يخرج صوته للناس وفيه واحدة من هذه الطوارىء التي تطرأ على أصوات الناس حين يبلغون ما بلغه من العمر.
ولا أدري إن كان يذكر بعض من نبشوا مكامن الذكريات من حياتي، أني قلت إني كنت من أوائل من (هرّب) أسطوانات أغاني فيلم (الوردة البيضاء)، وإني ومعي الصديق حمزة شحاتة رحمه الله، كنت أحشو بوق (الجراموفون) بالقطن المبلّل لأحكام (كتم) صوت الأغنية فلا يسمعه إلا الذين ينحنون برؤوسهم وآذانهم على الجهاز... ومع ذلك فقد كنا نطرب ونستعيد مقطعاً أو جملة موسيقية، مرات ومرات، وليس لنحفظ أداءها، وإنما لنزداد استمتاعاً بالصوت والموسيقى... فإذا أضفنا إلى ذلك أننا لم نر الفيلم والفكرة عندنا عن فصول القصة، وبالأخص عن البطلة أمام محمد عبد الوهاب غامضة تماماً، فإن للقارىء أن يعي أو يتصور الصور والرؤى المجنّحة التي كنا نعايشها، مع كل نبرة من نبرات صوت الموسيقار، إلى جانب الكلمات، التي كنا نتخيّل ما تعنيه... (فنجري) معه... ليوصلنا لأن (حبيب القلب مستنّي).
ومن هنا فإن اهتمامي بأغنية عبد الوهاب، أو بغنائه... أو عودته إلى الغناء بعد هذا الانقطاع الطويل، مسألة فيها من الطبعية، بقدر ما فيها من منطق الأشياء... ولعلها مناسبة أتيحت، لأصارح القارىء بأني أحب الموسيقى، وأنا أعني (بالموسيقى)، الأعمال الموسيقية (الأوركسترالية)، وقد خف استماعي إلى الأعمال الضخمة كالسيمفونيات لأكابر فنانيها، وأصبحت أعايش الأعمال الخفيفة، ولكني لا أطيق الإصغاء إلى (الغناء) باستثناء القليل جداً من أغاني محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم... وأضع أغاني فيروز في القمة من الأغاني التي تُسمع، ولا أكره أن أسمعها في أي وقت لأن (فيروز) في الغناء شيء آخر هو [فيروز].
وليغض القارىء النظر عن التناقض الذي مر به، ولنعد إلى أغنية (من غير ليه التي عصفت وبدّدت تماماً تلك الأغنية التي قالوا إن مغنيها قد باع خمسة ملايين شريط منذ غنّاها... فأغنية (من غير ليه)، جاءت كارثة على (لولاكي). وكأني بالأستاذ محمد عبد الوهاب، قد عبّر عن موقفه من أمثال (لولاكي) و(السح الدح امبو)، فجاءنا يذكر بأن الغناء هو (من غير ليه).
وكاتب الأغنية هو الأستاذ (مرسي جميل عزيز)... وهو واحد من قلة من أكابر شعراء الأغنية في العالم العربي... وفي كلمات (من غير ليه) التي غنّاها محمد عبد الوهاب، ما أحسست أنها أكبر كثيراً من اللحن والغناء... بل أحسست أن الأستاذ محمد عبد الوهاب، لم يلحّنها ويغنيها... بل كان غارقاً في بحر هذا الحب، إلى حد لا أستغرب أن يغيب عن مشاعر وأحاسيس محمد عبد الوهاب، وهو في هذه المرحلة من العمر التي جفّ فيها دفق الحب، ليبقى دفق الفن كصناعة... لقد استوقفني أكثر من مقطع في كلمات الشاعر وعلى الأخص قوله (خايف طيور الحب تهجر عشّها... وترحل بعيد... خايف على بحر الدفا ليلة شتا يصبح... جليد... خايف لا بكره يجينا ياخدنا من ليالينا الخ...).
قد يدهش القارىء أن أقول إني قرأت نص الأغنية واستمتعت بهذا النص أضعاف ما استمتعت بغناء محمد عبد الوهاب... وموسيقاه، وتلحينه... وما أكثر ما تمنّيت لو أن الأستاذ استوعب بحس العاشق، كلمات الشاعر...
وبعد فلا شك في حقيقة هامة جداً، وهي أن صوت عبد الوهاب في هذه المرحلة من العمر أجمل وأوقع في النفس، من صوته قبل ثلاثين عاماً... فإذا لم يجد ما يمنع أن يغني غير هذه الأغنية، فإنه سيعيد إلى الأغنية سلطانها وتنحسر موجة (لولاكي) وأمثالها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :655  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 130 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.