الفن في بلادنا |
يصعب أن نقول إن في بلادنا فناً، بالمضمون الدقيق لمعنى الفن، وبالمستوى الذي يدخل فيه وينساب في أعطافه من أصول وفروع، يحملها جذع الشجرة التي نبتت في حياة الإنسان، منذ ألوف السنين، ولا تزال تزدهر وتعطي عطاءها الخصب السخي حتى اليوم. |
ولكن ليس من الصعب، أن أرى ويرى معي القراء، براعم صغيرة تبشر بأن الفن يمكن أن يزدهر في بلادنا إذا ما توافرت له التربة الصالحة والمناخ الملائم، والعناية الكافية. |
وحين نقول الفن، فإننا لا نعني الأغنية أو الأنشودة وما يتصل بهما من فنون الطرب والموسيقى، وإنما نعني الفن بمضامينه الكثيرة، فروعاً وأصولاً، وأزهاراً وثماراً، ونوامي وبراعم.. نعني الفنون التشكيلية من رسم وزخرفة ونحت وتنسيق أو تجميل [يسمونه الديكور].. ونعني الموسيقى بكل فنونها وصورها، ابتداءً من النشيد المتدفق حرارة وقدرة على هز المشاعر وإثارة كوامن النفس المتطلعة إلى الآفاق البعيدة، وانتهاء عند العمل الموسيقى ((الأوركسترا لي)) المتكامل الذي يعبر عن فكرة مستترة في ضمير الفن العربي، يمكن أن تشرق وتتزقزق في حواشي حياتنا يوماً من الأيام.. ونعني الأدب بفنونه من شعر أصبح الصراع اليوم بين جديده وقديمه، وبين عموده وموسيقاه، يبشر بعملية مخاض لا ندري كيف تكون مواليدها، ولكنا لا نشك في أنها ستعطينا شيئاً جديداً، فيه مكاسب المعركة، وفيه خسائرها أيضاً. ومن نثر بألوانه التي تنوّعت وتكاثرت وامتدت لها الظلال وتمايزت فيها المعالم والخصائص والاتجاهات، ثم هذه الفنون الحديثة في الأدب كالأقصوصة التي ما زلنا نتطلع إلى وجودها، وكالقصة التي لا تزال تعاني عملية مخاض لم تنتج بعد شيئاً يستحق الذكر، دع عنك المسرحية تسمعها من الراديو، أو المسرحية تعرض على النظارة في المسرح أو وهم على آرائكهم في المنازل والأبهاء تتألق بها شاشة التلفاز. |
كل هذا تجمعه كلمة فن، وكل هذا مما لا تستغني عنه الحضارة والمتحضرون من البشر.. كل هذا مما يكمل معنى الحياة ويجمل سبلها وآفاقها.. ثم كل هذا تحتاجه الشعوب الآخذة بزمام التطور والانطلاق، ليس للسهر والعبث، وإنما لتفتيح الذهن وتربية الذوق، وإرهاف المشاعر. وليس للتهتك والاستهتار بالقيم، وإنما للتماسك والتوازن في مسيرة الحياة، ولبعث حوافز التطلع إلى المستوى الأفضل والأفق الأوسع، ولخلق القدرة على الإيغال في مفهوم القيم، باعتبارها نابعة أصلاً من التراث العريق. |
ومن هنا كان مطلب الفن، بجميع مضامينه، وفي هذه الحدود، مطلباً عسيراً أشد العسر، وهو أشد إمعاناً في التأبِّي والشموس، إذا طلبه المعنيون، كوسيلة إلى هدف نبيل، واتجهوا إليه في مستواه الرفيع، وفي مفاهيمه السامية كسبيل إلى غاية أنبل وأعظم، ومن هنا أيضاً جاءت فرص التفوق والتمايز والعبقرية والنبوغ.. كما جاءت من سوء الفهم واختلاط المرائي وانسياح الألوان وغموض الأهداف، عواملُ التدهور والانحلال، والتبعثر والضياع. |
ونحن اليوم على مشارف الطريق الطويل، وفي الخطوات الأولى من مسيرة شاقة يزدحم فيها الزهر بالشوك والحسك، وتختلط فيها الصخور الوعرة والجلاميد الغليظة بالرمل في نعومة الحرير، وتتمازج فيها المعاني في أوجها الرفيع، والمعاني في سفوحها الغائرة وفي مهاويها السحيقة، وتنساح فيها الألوان بتناسقها البديع، أو تلتزم صمت القفار بجمودها العابس البغيض. |
وفي الأدب من شعر ونثر وقصة ومسرحية استطعنا خلال نيف وخمسين عاماً أن نكون رصيداً بلغ القمة في شعر كبار شعرائنا كالأساتذة - محمد حسن فقي - وحمزة شحاته - وأحمد قنديل - ومحمد حسن عواد - وحسين بن سرحان، والدكتور القصيبي. ثم رصيداً قد بلغ كيفاً وأسلوباً لا كماً ونوعية، مستويات رفيعة تستطيع أن تقف موقف النديد والرصيف من كبار كتاب النثر في العالم العربي كله. أما في القصة فقد لا يزيد الرصيد على بضع هللات إذا صح لنا أن نقيم الأدب بلغة النقد، ومثلها المسرحية بمفهومها الدقيق ومعناها العميق وآفاقها البعيدة، بل وحتى في أبسط صورها، لا يزيد رصيدنا فيه، على رصيد الحالم بالملايين وليس في جيبه قيمة رغيف الخبز. |
ولا نريد أن نذكر الرسم بألوانه، أو النحت بأنواعه، أو الزخرفة بدروبها، فإن رصيدنا في كل ذلك - مع تقديري الصادق لمحاولات عدد من الفنانين بل والفنانات - لا يزال مستمراً في ضمير الغيب، ولا يزال فكرة غامضة يتعذر أن نرى ملامحها بوضوح. |
ونستطيع أن نتحدث عن الغناء والموسيقى، حديث من يضطر إلى ((الجود من الموجود)) وهذا يعني قطعاً أن لدينا منهما رصيداً يصعب أن نهبط به إلى الأغوار، كما يصعب أن نرتفع به إلى أي مستوى يزيد على بضعة أمتار. |
لقد استطاعت الإذاعة أولاً، والتليفزيون أخيراً، أن يقدما لنا نماذج يمكن أن تعتبر بشائر، ويمكن أن نرى في البشائر ملامح الصورة التي يمكن أن يظهر بها فن الموسيقى في المستقبل القريب، ولكن علينا أن نقول للفنانين، مؤلفين وملحنين، ومطربين، إنهم حتى اليوم لم يستطيعوا أن يدركوا مسؤولياتهم الدقيقة نحو فنهم، ونحو تراثهم الحضاري، ونحو القيم الكبيرة التي يجب أن نحافظ عليها ليس بهذه الأغاني التي تكتب بلغة ما يسمى الأدب الشعبي أو اللهجة الدارجة، وإنما بالفصحى، التي لا أدري ما هو السر في أن يتجاوزها تماماً المطربون. |
وبعد فالحديث عن الغناء والموسيقى يطول ويتشعب، فلا يتسع له مقال عابر، وما أقل ما يتاح لي أن أكتب أكثر من المقالات العابرة. |
|