شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السر الذي لم نحاول اكتشافه
اكتشفت في رحلتي الأولى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كثافة غبائي وجهلي في قراءة الخرائط، وعلى الأخص تقدير المسافات بين جزيرة (جيرينزي من جزر بريطانيا) مثلاً وبين برايتون أو بين هذه الولايات المتحدة الأمريكية، التي تبدو لي - أقصد تبدو لكثافة جهلي - وكأن المسافة بين الواحدة منها والأخرى، لا تزيد على المسافة بين جدة وبحرة أو أبحر، أو على أحسن الأحوال بين جدة والطائف. وبالمناسبة، إني أنتهز فرصة هذا الاعتراف من جانبي لأشكر المهندس جميل فارسي، على هديته للخرائط التي صممها وطبعها وأعتقد أنه يسوّقها لأصارحه بأني عُنيت بوضعها في المكتبة، ولكن دون أي محاولة لأفهم منها شيئاً.
أعلم بطبيعة الحال، أن الولايات المتحدة قارة مترامية الأطراف، والولايات فيها أكثر من خمسين ولاية، وعندي حصيلة لا بأس بها عن تاريخها، وحرب استقلالها عن بريطانيا وأولئك الرجال الذين وضعوا بصماتهم على تاريخ مسيرتها، وعلى الأخص في هذه المسيرة دستورها والنقاط المضيئة كثيرة الإشعاع في هذا الدستور والديموقراطية والحرية من هذه النقاط، ولكن حكاية المسافات بين كل ولاية وأخرى، كانت عندي مجرد خطوط تفصل بين الواحدة والأخرى لا يهم عندي، أن أعرف عدد الأميال أو هي الكيلومترات التي تفصل بينها.
وتم لي اكتشاف غبائي وجهلي، عندما ارتفقت الطائرة من نيويورك، إلى لوس أنجلوس.. لم أُعن بأن أسأل المضيفة مثلاً عن المدة التي سنقضيها في الجو إلى أن نصل.. ولكن ما كان راسخاً في ذهني أنها لن تطول أكثر من ساعة وبضع دقائق أو ربما أقل.. وهذا ما أستطيع أن أفهمه من الخريطة بالطبع.. فإذا بنا نظل في الجو، أكثر من خمس ساعات.. لم يعتورنا خلالها الملل، أو الضيق، لأن الخدمة والرعاية، والتفقد والتماس كل ما يحقق أقصى ما يصلك من الراحة والانسجام والارتياح، كان كفيلاً بأن ينسينا أننا في الطائرة، بين السماء والأرض.
وعندما خرجت من المطار في لوس أنجلوس، كان أول ما دار بذهني هو: إذا كانت المسافات بين ولاية نيويورك ولوس أنجلوس في كاليفورنيا خمس ساعات ونصف تقريباً.. فبأي معجزة أو سر، أو قوة عسكرية، أو صراع دموي، استطاعت أمريكا أن تحقق هذا الاتحاد بين ولايتين تفصل بينهما نفس المسافة التي تفصل بين جدة مثلاً، ومدينة لندن.. وهذه المسافة بين المملكة ولندن، تغمر أراضي ما يقرب من اثنتين وعشرين دولة عربية.. أجل (22) دولة عربية.. لغتها العربية.. وعقيدتها الإسلام، وانتماؤها العروبة، وتاريخها عربي إسلامي وهي كلّها على أراضٍ عربية، انتزعتها من براثن المستعمر بالكثير من الدماء العربية.. ومع ذلك، فكل منها منفصلة عن الأخرى.. انفصالاً حاسماً.. كل منها لا تسمح بدخول عربي إلاّ بجواز يحمل تأشيرة أو إذن دخول.. ولا تسمح له بالإقامة إلاّ بإجراءات مقررة، بل لا تسمح له بأن يُدخل سلعة، إلاّ بعد أن يدفع رسومها الجمركية، فإذا كان يحمل كتاباً، أو كتباً فلا بد من حجزها، واستصدار إذن الرقابة بدخولها.. ونفس الإجراءات بالنسبة لأشرطة الكاسيت والفيديو، حتى ولو كانت من إنتاج نفس البلد الذي يدخل إليه.. ودع عنك بعد ذلك رحلة العذاب التي يعانيها، إذا بلغ من حماقته وغفلته أن يصطحب معه في الخروج مجموعة من الكتب، المنشورة في البلد نفسه.. حيث لا بد من إذن وموافقة (وأختام) مجموعة من المرافق أو الدوائر أو هي الوزارات المسؤولة.. والويل بعد ذلك، لمن يتجاوز مدة الإقامة المصرّح بها.. الخ الخ..
والاتحاد في أمريكا ليس فقط بين ولايتين، وإنما بين أكثر من خمسين ولاية.. كلها متحدة فعلاً.. وكل مواطن فيها (أمريكي).. يعيش لأمريكا.. ويحارب من أجل أمريكا ويعمل لنفسه طبعاً، ولكن بالطريقة والنظم الذي ترضى عنه أمريكا.
فما هو السر في هذا الاتحاد؟ كيف استطاع أولئك الرجال من قادتها في تاريخها القصير أن يوحِّدوا بين كل هذا الشتات من الأراضي، ومعه هذا الشتات من الخلق.. بل من الأجناس والأعراق من جميع أقطار الأرض؟ في سان فرانسيسكو مثلاً، اقترحوا عليّ أن أزور ما يسمى (تشاينا تاون) إذ فيها من أنواع المآكل الصينية ما لا يوجد في غيرها.. وذهبنا - أم ضياء وأنا - فإذا بنا في الصين، خَلْقاً، وأسواقاً وسلعاً، وعادات، وتصرفات، وظننت أن هذه الألوف المؤلفة من الصينيين، صينيون، متمسكون بجنسيتهم، كما يتمسكون بأعراقهم وأعرافهم، وعاداتهم.. وسألت من كان يجالسني على المائدة الطويلة.. هل هو صيني أم أمريكي. فإذا به يقول: (أنا من أصل صيني.. هاجر أبي إلى أمريكا.. وطوّحت به مسيرة طلب الرزق إلى سان فرانسيسكو.. واستقر فيها، وأصبح أمريكياً.. فأنا أمريكي بالطبع.. كنت من القوات الأمريكية في فيتنام.. وأنا حزين لهزيمتنا.. لا أنسى سايجون.. كان يوماً أسوأ في تاريخ أمريكا).. سألته بنبرة لا تخلو من استدراجٍ وتحدٍّ: (هل لو اشتبكت أمريكا في حرب مع الصين الحمراء.. تحارب مع أمريكا.. أم تختار الانحياز إلى الصين؟).. لم يمهلني لأكمل جملتي.. إذ قال: (الانحياز إلى الصين؟ تلك خيانة.. قلت لك إني أمريكي.) ثم أضاف، وهو يلقي نظرة على الشارع، وجماهير الصينيين فيه بالألوف.. وقال: (كلهم أمريكيون.. كلهم يحاربون أي عدو من أعداء أمريكا.. ويعملون لمصلحة أمريكا)..
فمرة أخرى.. وثالثة.. ما هو السر؟ كيف استطاعت أمريكا أن توحّد بين هذه الولايات؟ بل بين هذه الشعوب؟ بل بين هذه الأعراق..؟ إنها لا تفرض عليهم أن يتخلّوا عن شيء جاؤوا به من بلدانهم.. لغتهم.. عاداتهم.. نمط معيشتهم، عقائدهم ومثلهم كلها لهم، ولكنّهم يتكلمون اللغة (الإنجليزية) الأمريكية.. ويخضعون لجميع القوانين المفروضة على الأمريكي في تلك لولاية، أو في الحكومة الفيديرالية. والعجيب، أني لاحظت نفس الظاهرة في (هونولولو)، وسكانها أقرب إلى الماليزيين.. لهم عاداتهم، وطرق معيشتهم وتقاليدهم، ولكن حين سألت أحدهم، وكان على جانب من الثقافة الأكاديمية (إن اشتبكت أمريكا في حرب مع الماليزيين أو مع أندونيسيا، فهل يطاوعه ضميره أن يحارب ويقتل هؤلاء وهم الأصل الذي انحدر هو منه؟ ،كان جوابه عفوياً وحاسماً إذ قال: (ما الذي يربطني بهؤلاء؟ أنا أمريكي.. أحارب مع أمريكا كل عدو من أعدائها..) ثم أضاف: (تسمع بآيزينهور؟ كان ألمانياً.. أبوه مهاجر ألماني.. ولكنه الذي دمّر ألمانيا! في أميركا عشرات أو مئات الأجناس.. لا علاقة لهم بأعراقهم.. علاقتهم بأميركا فقط).
أتساءل بعد ذلك، ما الذي يمنع أن نحاول اكتناه سر نجاح أمريكا في اتحاد ولاياتها بما فيها من شعوب، وأعراق؟ كيف لا يحدث أن تثور ولايةٌ على الاتحاد؟ كيف لا نسمع أن طائفة عرقية أو دينية، انتفضت على الاتحاد، وطالبت بالانفصال عنه؟
أعتقد أن علماءنا، وقادةَ الفكر، بل والقادة السياسيين في عالمنا العربي، يمكنهم أن يكرَّسوا نوعاً من الجهد المنظّم، والمخطَّط له بوعي، لاكتشاف هذا السر، وليأخذ الدارسون راحتَهم، في الدرس والاستيعاب والفهم، ليقدموا في النهاية سياسة منهجية تحقق للدول العربية المتباعدة، والمنفصلة، والمتصارعة، والسابحة في بحران العداء والبغضاء، والتحاسد والشحناء، شيئاً كهذا الذي تم، ونجح، ونضج، ثم تعملق وشرع يسود العالم ولا شعار له سوى (الولايات المتحدة الأمريكية).
* * *
الشاعر الإنجليزي توماس جراي (1716 - 71)، في مرحلة مبكرة من حياته الأدبية، بعد أن تخرج من كلية (أتون) قام برحلة مع أحد زملائه إلى إيطاليا وفرنسا، حيث أقام سنتين تقريباً يتنقل بين القرى والمدن بحواريها وأزقتها.
وكانت العاصمة الفرنسية (باريس)، المدينة التي كتب يقول عنها أنها (خلية هائجة ويقدم عنها معلومات إحصائية لا ندري كيف جمعها، إذ يقول: يقطن هذه المدينة إلى جانب سكانها، مائة ألف خادم، وعشرون ألف متسول. ثم يقول: فيها الأكواخ الكئيبة، والقصور الفخمة، والأزقة والحارات المظلمة، والشوارع القذرة، وراء المتنزهَّات الأنيقة. وفيها أيضاً الفن إلى جانب الإملاق والفقر المدقع.. تجري في شوارعها المركبات الكبيرة للعظماء، إلى جانب المركبات العامة ذات الجواد الواحد والمحفات يصطدم بعضها ببعض مع تبادل السباب والشتائم. وكانت بعض الشوارع قد رصفت بأحجار ملساء ولكن معظمها كانت قذرة مملوءة بالأتربة والحجارة الكبيرة، ثم يقول توماس جراي: بدأت المصابيح الكبيرة تحل محل الفوانيس الصغيرة في الشوارع والأزقة والطرقات، ولكن هذه المصابيح الكبيرة لم تكن تضاء إلا في الليالي التي لا يضيئها القمر. وقد ظهرت لافتات بأسماء الشوارع ولكن لم توضع للبيوت أرقام. بيوت الأغنياء فقط هي التي كانت تصلها المياه في صنابير، أما سائر الناس فكان يزودهم بالماء عشرون ألف سقاء، يحمل الواحد منهم دلوين يصعد بهما أحياناً سبع مجموعات من درجات السلم. أما المراحيض والحمامات فكانت امتيازاً لكبار الأثرياء والوجهاء.
تلك صورة للعاصمة التي درجنا في العالم العربي على أن نسميها ((مدينة النور)) منذ مائتي عام. والأرجح أن هذه التسمية نبتت عندنا في حقول الثقافة الفرنسية التي استوردها أولئك الذين أبتعثهم علي مبارك في مصر من جانب والآباء اليسوعيين في لبنان من جانب آخر.
قد تكون باريس، لا تزال مدينة رائعة، متميزة عن عواصم كبرى، ولا تزال بلديتها تلاحق قسماتها الحلوة بإضافات تجميلية مبهرة، ومنها ذلك الهرم من البلّور الذي يقام في مدخل قصور اللوفر التاريخية.. والأرجح أن باريس سوف تظل كذلك، وسيتزايد جمال قسماتها جيلاً بعد جيل، ما لم تهدمها، وحشية صواريخ حرب عالمية ثالثة.
وبعد.. فأعتقد أن كثيراً من القراء الذين تجاوزوا الأربعين أو الخمسين من العمر في المملكة، يجدون في صورة باريس التي وصفها توماس جراي في منتصف القرن السابع عشر مشابه من صورة حواضرنا الكبرى منذ فترة لا تزيد على خمسة وعشرين عاماً.
والملاحظة التي تستلفت النظر، هي الزمن الذي استغرقته (باريس) لتستحق اسم (مدينة النور) وهو أكثر من مائتي عام.. بينما الزمن الذي استغرقته المدن الكبرى عندنا لتصل إلى المستوى المذهل الذي نشهده في الرياض وجدة لم يزد على خمسة وعشرين عاماً.
ترى كيف سوف تكون صورة هذه المدن بعد أربعين عاماً؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :576  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 91 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.