شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السأم.. والنصب واللغوب
سؤال كثيراً ما يخطر على الأذهان، ولعلّه أكثر ما يخطر على أذهان الفنّانين، والمترفين ثقافة واطلاعاً، وهو لماذا تستطيع صورة معيّنة، حيّة في محيا امرأة جميلة، أو مرسومة على الورق أو الكانفاه، أن تسترعي انتباهنا، وأن تستثير إعجابنا، وأحياناً لهفتنا التي قد تبلغ حد الحسرة والأسى إذا ما أعجزنا الظرف عن امتلاكها، أو حتى الدوران في فلكها.. ولكن لا نكاد نمتلكها، ونعلّقها في مكانها من غرفة الجلوس أو النوم، وتمضي بضعة أيام أو على الأكثر أسابيع، حتى نفقد نحن، أو تفقد هي تأثيرها علينا.. بل لعلّها تفقد حتى مبرر وجودها.
ونفس الحالة بالنسبة لمقطوعة موسيقية، نسمعها لأول مرة، فتهتز لها مشاعرنا، وقد يطيب لنا أن نسمعها، ونصغي إليها مرات عديدة، ولكن لا بد أن تجيء تلك اللحظة التي تفقد فيها تلك المقطوعة سحرها وكل أثرها في وجداننا.
أذكر صديقاً، ابتلاني الله بأن أساكنه زمناً.. جاءني ذات يوم بأغنية لمطرب معروف لم يسبق لي أن سمعتها.. وحين أدار المسجّل، وارتفع صوت المطرب تصاحبه الموسيقى، خيّل إليّ إني لم أسمع قط أجمل من تلك الأغنية.. ولمح صديقي على وجهي ربما ارتياحي وإعجابي، فلم ير ما يمنع أن يعيد الشريط من أوله، وأن يعيد الاستماع إلى الأغنية.. وأعترف أني لم أفقد الإعجاب بها، ولم أكره أن أستمع إليها مرة أخرى ومرات.. ولكن لم يكن هذا حالي عندما وجدت صديقي، لا يكف أبداً عن تكرار الاستماع إلى الأغنية نفسها كلّما عاد من عمله، أو كلّما ضمّنا مجلسنا بعد الغروب، أو بعد صلاة العشاء.. والأغنية جميلة دون شك، وكلماتها حلوة، والأوركسترا، رائعة، ولكن ما أشد ما أصبحت أنزعج لسماعها.. بلى أنزعج إلى حد التفكير في أن أقذف المسجّل والشريط، بل وصديقي معهما من النافذة إلى الشارع.. واكتشفَ اللعين أني منزعج، وأني لم أعد أطيق الاستماع إلى هذا البلاء.. أقصد هذه الأغنية.. فإذا به من جانبه - غفر الله له - يمعن في مكايدتي، وفي حرق أعصابي.. ولم يكن مما يليق، وهو ضيفي، أن أسمعه كلاماً يعبر عن سخطي وضيقي ورغبتي في الخلاص منه.. ولذلك فقد أخذت ألجأ إلى غرفة النوم، أغلقها على نفسي بالمفتاح.. وأثقِل رأسي بالوسائد لئلا أسمع شيئاً.. ولكن صديقي استمرأ الإغاظة فيما يبدو، فظل يعيد ويزيد ولا يتوقّف، بل يرفع الصوت إلى الحد الذي يستطيع أن يخترق جميع الحواجز.. وعندما بلغ بي الأمر حد التصميم على مصارحته بضرورة البحث عن مكان آخر يذهب إليه مع المسجل والأغنية، فاجأني بأنّه يكرر تشغيل الشريط، لأنّه لمح (بنت الجيران) في شرفة المنزل الذي يواجه المنزل الذي نسكنه.. وقد خيّل إليه أنها مولعة بالاستماع إلى الأغنية، لأنّها تطيل الجلوس في الشرفة، ما دامت الأغنية مسموعة.. وأضاف في نبرة بدت لي مخلصة صادقة، أنه قد اعتزم أن يتقدم لخطبتها.. فوجدتني أتذرّع بالصبر وأنتظر يوم التقدم للخطبة كما قال.. ولم يطل الانتظار فقد فعلها.. وتقدم للخطبة وتم زواجه منها بعد شهور.
ولكن تلك الأغنية.. بصوت ذلك المطرب.. لم أعد أطيق سماعها طوال سنين.
والسؤال ينقلنا إلى سؤال آخر، هو كيف يمكن التوفيق بين سجية الوفاء التي يتمتع بها الأوفياء، وبين هذا الضمور الذي يطرأ على المشاعر والخيال، بل وعلى الوجدان نفسه، تجاه الجمال.. ليس في الإنسان فقط، وإنما في الكثير.. وحتى في الرياض الغنّاء ومرابع الصبا، ومراتع الفتنة والحسن.
بعبارة أخرى.. هل الإنسان الذي ينتهي في نفسه أثر صورة من صور الجمال، فلا يشعر نحوها بشيء.. بل يكون موقفه منها موقفه من أي شيء عابر لا يستلفت نظراً ولا يهز شعوراً.. هل يمكن أن يوصف بالجحود واللؤم.. أم أنه إنسان يساير طبيعة الحياة وواقعها؟
وبعد..
فمن فضل الله سبحانه على من أنعم عليه بالغفران من عباده أن يدخلهم دار المقامة، لا يمسّهم فيها نصب، ولا يمسّهم فيها لغوب: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ، وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ صدق الله العظيم.
ولا أذكر أين قرأت، إن من معاني النصب واللغوب، (السأم).. وهو الذي نعانيه في هذه الدنيا.. حتى ولو كنا في أجمل، وأبهى وأعظم رياضها وجنانها.. إننا نسأم كل جميل، بعد فترة تطول أو تقصر، كما نسأم كل (لذيذ)، مهما كان فيه من الإثارة والتشويق.
وليس الأمر كذلك في الجنة التي وُعد بها المتقّون.. لأنّها الجنة.. لأنها رحمة الله ورضوانه، فأين هي من هذه الدنيا.. التي يكفي أنها (دنيا).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :681  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 88 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.