دولة.. وكاتب.. وكتّاب |
أمّا الدولة فهي الاتحاد السوفياتي، ثاني أقوى دولتين تهيمنان، وتعبثان بمقدرات العالم.. ولا نحتاج أن نضيف شيئاً ذا بال إلى معلومات القارئ عن هذه الدولة التي جرّبت ولا تزال تجرّب أن تعيش إيديولوجيات كارل ماركس، وتخطط مسيرتها المستقبلية على عناصر هذه الإيديولوجيات، بجميع الوسائل المتاحة، ليس فقط في الاتحاد السوفياتي، وإنما في العالم، عبر الثغرات، التي تعرف كيف تتسلّل منها إلى وعي وضمير الشعوب.. وقد كانت ولا تزال أفضل وأسهل هذه الثغرات، الفقر.. والقهر.. والطغيان. |
وأمّا الكاتب فهو (بوريس باسترناك)، الكاتب والشاعر الروسي، الذي ولد في موسكو، في عام 1890، من أب رسام (فنّان تشكيلي) مرموق هو (ليونيد باسترناك)، ومن أم عازفة بيان معروفة، هي (روزاليا كوفمان).. فالكاتب من هنا ينتمي، وقد نشأ في بيئة تستضيء بشعلة الفن، ولذلك فقد تعشّق الشعر، وإن كان قد درس الموسيقى في البداية ليهجرها إلى الأدب حين كان في الثامنة عشرة من عمره، وفي هذه المرحلة، عكف على دراسة أعمال (ريلكه) و (بولك) و (بيلي).. ثم أخذ يتجه لدراسة الفلسفة دراسة أكاديمية في جامعة ماربرج في ألمانيا.. ثم بعودته إلى روسيا، انغمس في قضايا الشعراء المستقبليين، وأصدر أول دواوينه أو أعماله الشعرية بعنوان (توأم في السحاب) في عام 1914. وفي عام 1917، وهو العام الذي انفجرت فيه الثورة، أصدر باسترناك ديوانه الثاني بعنوان (فوق الحواجز) ولكن ديوانه الثالث: (أختي.. الحياة) هو الذي قرر مكانته كشاعر، وتوالت بعد ذلك أعماله، التي لقيت من الترحيب ما أفسح له المجال للشهرة والظهور، ومنها (سيرته الذاتية). ثم في سنة 1932 ظهر له ديوان أو مجموعة شعرية بعناون (ميلاد ثانٍ)، بدأت مع ظهوره المصاعب والمتاعب تعترض طريق مسيرته وتعرقل تطلّعه إلى أن يمنح صفة (كاتب سوفياتي)، فاضطر أن يلتزم الصمت، طوال مرحلة سمّاها هو (المبارزة الصامتة) مع ستالين، ذلك الطاغية الذي خاض غمار الحرب العالمية الثانية، ولكنّه قبل تلك الحرب ظل يخوض حربه الدموية مع الشعب الروسي نفسه، إذ مارس من أعمال القتل الجماعي والتشريد، ما جعله يعد أحد أبشع أساطير البطش والطغيان في التاريخ. |
بعد سنة 1933 لم يعد يسمح لباسترناك، بنشر أي كتاب، طوال فترة امتدت عشر سنوات قضاها، في الارتزاق من ترجمة روائع الأدب الأوروبي، ومنها (دكتور فاوست) لجوتة، ومقطوعات من شعر (راليه) و(جونسون) و(شيلي) و(بايرون) و(كيتس) كما نقل إلى اللغة الروسية مجموعة من أعمال شكسبير، منها (هاملت) و(عطيل) و(روميو وجوليت) و(الملك لير) و(ماكبث) و(أنطونيو وكيلوباترا). |
ومع هذا الجهد، وضغوط السلطة على حريته، أو هي حرية الفكر، أخذت صحته تتدهور وقواه تتخاذل، ولكنّه - رغم ذلك - أحس كأنّه مسؤول عن تسجيل شهادته عن حياة المثقفين الروس ومعاناتهم.. ((قبل، وأثناء، وبعد الثورة..)) وكانت هذه الشهادة هي روايته (دكتور جيفاكو). |
(دكتور جيفاكو)، كان هو الكتاب، الذي تفرغ لكتابته - على الأرجح - في عام 1943. وهو نفس العام الذي قابل فيه (أولجا ايفينسكايا)، التي أصبحت رفيقة عمره في مرحلته الأخيرة، وهي التي أعطاها في رواية (دكتور جيفاكو) اسم (لارا)، فكانت البطلة إلى جانب الدكتور جيفاكو.. |
وحظرت السلطة في الاتحاد السوفياتي نشر وإصدار الرواية.. ولم تفلح محاولاته، ومعه نخبة من المثقفين، في إقناع الحكم بالتصريح بنشر الرواية ورفع الحظر عنها، فاضطر إلى أن يسمح بتسريبها إلى إيطاليا، حيث نشرت، كما نشرت ترجمتها إلى اللغة الإيطالية في عام 1957. ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى كانت الرواية قد ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية، ثم إلى غيرهما من اللغات الأوروبية.. وحين كان يكتب جزءاً ثانياً من سيرة حياته، مُنح جائزة (نوبل) في الآداب. فكان من المفارقات المخجلة، أن تواجه السلطة وأذنابها، وأجهزة إعلامها في الاتحاد السوفياتي، هذه البادرة من جمعية الجائزة الكبرى، بحملة تشنيع وتشويه، تجرّح سمعة الكاتب، وتسخر بأعماله، ثم تمنعه من استلام الجائزة. وكانت النتيجة، أن انتشرت في العالم على رحبه (قضية باسترناك)، وأخبارها، والتعليقات على الرواية، ومضامينها.. وقد زاد من قيمتها، أن الحكم في الاتحاد السوفياتي، لم يكتف بحظر نشر الرواة ثم حظر استلام الجائزة، وإنما زاد على ذلك اعتقال (أولجا) وسجنها وهي رفيقة المرحلة الأخيرة من عمر باسترناك.. |
ورحل باسترناك عن الدنيا في عام 1960، وبرحيله أفرجت السلطة، عن جميع أعماله، إلاّ (دكتور جيفاكو)، فقد ظلّت محظورة على الشعب الروسي طوال هذه السنين. وعلى التحديد منذ عهد الطاغية (ستالين)، الذي وضع قاعدة (اعتقال الفكر) ما دام لا يساير سياسة الدولة ومنهجها في الحكم، وهو التطبيق الماركسي، للأيديولوجيات الشيوعية كما فهمها ووضع قواعدها ودستورها لينين. ومع أن خروتشوف، كان المغامر الأكبر بين القيادات التي استلمت عجلة الحكم في الاتحاد السوفياتي، وكان هو الذي قوّض ودمّر أسطورة (ستالين)، فإنّه هو أيضاً لم يستطع أو لم يشأ أن يرفع الحظر عن رواية بوريس باسترناك، التي تقرر حظرها أصلاً في عهد ستالين. |
والاتحاد السوفياتي اليوم في عهد (ميخائيل جورباتشوف) يستقبل، مؤشرات، قد تكون ضئيلة أو بطيئة، لنوع من التغيير، أو التطوير في النظرة إلى تطبيق الأيديولوجيات الماركسية التقليدية، ولكنّها مؤشرات لها معناها ومفهومها، الذي يتفاءل به المعلقون، في تطلعهم إلى الحد من التسلّح، ودوّامته التي لم تهدأ قط. |
ومن هذه المؤشرات، رفع الحظر، عن رواية باسترناك - دكتور جيفاكو - والموافقة على إصدارها بلغة الكاتب وأسلوبه، وهو ما ظل محظوراً على القارئ الروسي طوال هذه السنين. |
ولكن.. هوليوود، أخرجت دكتور جيفاكو، فيلماً، عقدت بطولته المطلقة لعمر الشريف.. مِمَّا يعني، أن الفيلم، قد عالج القصة من وجهة نظر أمريكية بحتة، يفهم الروس، أنها كانت دائماً، وسوف تظل، حريصة على تكبير حجم الأحداث، وزيادة تشويه الواقع.. فهل يتسامح جورباتشوف، مع الفيلم كما تسامح مع النص الأصل؟ ذلك ما يستبعده المتفائلون والمتشائمون على السواء. |
* * * |
يكاد ينعقد نوع من الإجماع بين رجال الفكر الإسلامي، ومعهم - ربّما - رجال الفكر والتاريخ السياسي الحديث، على أن (الحروب الصليبية) التي بدأت في عام 1095، وكانت ثماني حملات استمرت حتى عام 1270 (74 سنة)، لا تزال مستمرة حتى اليوم، وإن الكثير جداً من عدوان الغرب، علينا، ومنه طبعاً خلق وغرس دولة إسرائيل في خاصرة العالم العربي.. إن كل ذلك، ما انقضى منه، وما لابد أن يتلاحق وقوعه في المستقبل الممتد، ليس إلا استمراراً لتلك الحروب. ولا سبيل في الواقع إلى استبعاد أن تكون هذه هي الحقيقة الكامنة وراء صنوف من الأعمال العدوانية المكشوفة أو المستورة المتخفّية، التي يمارسها علينا الغرب، بمعسكريه الغربي، والشرقي. |
ولكن، مع التسليم بأن هذا هو الواقع، لا بد أن نواجه حقيقة، وهي أن أوروبا لم تفكر في شن حروبها الصليبية تلك، ولم يكن ليخطر لها ببال أن تشنّها على المسلمين إلا عندما بلغ الخور والاهتراء، في العالم العربي، ومنه أو معه العالم الإسلامي كله، حداً كان لا بد أن يغري بهم أعداءهم، إن لم يكن لشيءٍ، فللثأر للهزائم التي حققها المسلمون بانتصاراتهم وفتوحاتهم. |
واليوم، ونحن نردد أن الحروب الصليبية لا تزال مستمرة، أليس من الحق أن لا نغفل عن أن الظروف التي أغرت أوروبا بحروبها الصليبية تلك، هي نفسها الظروف التي يعيشها العرب والمسلمون اليوم. |
ترى، هل لا تزال الشعوب الإسلامية تؤمن بأن الإسلام نظام حياة متكامل؟ هل يسعنا أن نقول، مطمئنين واثقين، إن الإنسان المسلم في هذا العصر - وعلى الأخص بعد الحربين العالميتين لا يزال يحكمه وازع من صلته بالله، ورقابة الله عليه؟ |
هل نستطيع أن نقول، إن الأسرة في المجتمع الإسلامي مستقرة متراحمة.. هل عنيت الدول أو هي الحكومات الإسلامية، بأن تراقب ارتفاع نسبة الطلاق، وعلاقة ذلك، بالتدهور، أو بالانتعاش الاقتصادي، وأثر ذلك على بناء الأسرة، وخاصة على الأطفال؟ والتحلّل وإخلاء طرف الآباء من مسؤولية تربية أبنائهم وبناتهم؟ ثم تعدد الزوجات؟ هل عنيت الحكومات الإسلامية ومعها أو حتى قبلها القيادات الفكرية والفقهية، بالتماس نوع من الرقابة والتنظيم، حدًّا لتلك التصرفات التي كانت ولا تزال تتسم بالرعونة والانفلات، وإشباع رغبات جنسية لا تشبع.. |
هل صحيح.. أو هل نستطيع أن نقول، إن المجتمع الإسلامي اليوم، مجتمع متكامل تنظمه معايير العدالة الاجتماعية، والأخلاق الكريمة، والمثل والقيم التي فرضها القرآن؟ بل أين هذا التكامل، ونحن نرى أكثر المجتمعات تنتظر من الدولة كل شيء.. ولا تقدم هذه المجتمعات أي شيء؟ |
قد لا يتسع المجال في مثل هذه الكلمة للإفاضة في التذكير بالمثل والقيم والمبادئ التي ألزمنا الإسلام، بالتحلي بها، أو التعامل مع الحياة، على ضوئها وهداها، وحسبنا أن نذكر القليل مما عدّده جعفر بن أبي طالب، في لقائه مع النجاشي، وقد هاجر إليه مع أصحابه، ومن ذلك - صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والذماء، والفواحش وقول الزور. وإذ نتأمل حال المسلمين اليوم، وواقعهم المشهود، نجدهم يشهدون أن لا إله إلا لله، وأن محمداً رسول الله، ولنقل إنهم جميعاً، يصلون ويصومون، ولنزعم أنهم يؤدون الزكاة، ويحجون البيت.. وكل ذلك، مما نحمد الله عليه، ولكنه في حقيقته تنظيم للعلاقة بين المخلوق والخالق سبحانه وتعالى، ولكننا نتساءل أين أثر الإسلام في تنظيمه المثالي الرفيع، للعلاقة بين الناس.. أين هذا الأثر، وقد أصبحت صورة المسلمين في ذهن العالم اليوم، أنهم عشّاق الترف والفسق، والعنف والنساء. |
لا نحتاج إطلاقاً إلى أن نذكّر، بأن النظم الاجتماعية في الإسلام متكاملة، وصالحة لكل زمان ومكان.. وهي قادرة على أن تكفل للمسلم سبيل التفوق والامتياز والانتصار على الذات والعف عن هذا الفساد، الذي لا يزال يركض وراءه من أقصى الأرض إلى أقصاها، ولكن أين هو من تلك النظم، وما هي السبل التي نستطيع أن نلزمه باتباعها والالتزام بها..؟؟ |
إننا نتصايح، على استمرار الحروب الصليبية ونعزو كل ما نمنى به من الهزائم المنكرة إلى هذه الحروب.. إلى الذين لا يزالون يقودون حملاتها في السر والعلن.. أفليس من الواجب في نفس الوقت أن نتصايح، فندعو، وننبّه، ونعمل، على الالتزام، بالمثل والقيم وكل ما يُنهي، ما نعانيه من الخور والاهتراء، والضعف، والضياع، وقد كانت، ولا تزال الواقع الذي يغري بنا الأعداء في الغرب والشرق على السواء. |
* * * |
في كتاب (فجر القصة المصرية) للأستاذ يحيى حقي، والذي قدّمت (ثقافة اليوم) من جريدة الرياض تلخيصاً موسّعاً ودقيقاً عنه، يقول الأستاذ يحيى: (شكل القصة، كما ورد من الغرب فرض نفسه، وفرض معه التعبير بأسلوب جديد يلائم الشكل، في وقت كان قد تحرك فيه الأدباء من الصنعة الزائفة بفضل جهود تلاميذ الأفغاني.. واستلزم الأمر أيضاً إحساس غريزي بروح الفن القصصي ونبضه ومزاجه، لم يفز به إلا المتصلون بالثقافة الغربية.. وهكذا جاءتنا القصة من الغرب.. ومهد لها أفراد تأثروا بالأدب الأوروبي، والأدب الفرنسي بصفة خاصة: |
ولا يجيئنا الأستاذ حقي بجديد، إذ إن الحقيقة التي يقررها، بالنسبة للقصة المصرية هي نفسها، التي نجدها بالنسبة لغير القصة من فنون الأدب، ومنه (النقد) الذي لن ننسى بالطبع أن الدكتور طه حسين بالمنهج الديكارتي الذي تلقاه في السوربون بفرنسا، قد استطاع أن يتزعّم حركة النقد بالنسبة للتراث العربي، فكان الكثير مما أثرى به المكتبة العربية من الدراسات النقدية، ومنه أو في مقدمته (كتاب في الأدب الجاهلي) أو (الشعر الجاهلي)، الذي أثار عليه أشرس حملة (رسمية) عرفتها الحركة الأدبية في التاريخ الحديث، ومنه أولئك الذين عكف على دراستهم بأسلوبه الرائع المتعمّق، في (حديث الأربعاء) و(مع المتنبي) و(مع أبي العلاء)، بل ويمكن أن نجد أثر هذه الثقافة الفرنسية التي تلقاها طه حسين وظل وفياً لها أشد الوفاء وأخلصه، رغم ذلك الأساس المتين الذي بناه الأزهر، في دراسته للسيرة النبوية، في كتابه (على هامش السيرة)، ثم في (الفتنة الكبرى) إذ استطاع، في العملين، أن يسبغ على التاريخ، والأحداث التاريخية روحاً من الفن، إذا لم يكن نقداً أو قصصاً، فهو المزيج الرائع من النقد التحليلي، والقصة معاً. |
والدكتور يحيى حقي يطيل الحديث (أو هكذا نفهم من تلخيص الرياض للكتاب) عن تأثر الدكتور محمد حسين هيكل بالثقافة الفرنسية، التي يمكن القول إنها أضاءت له السبيل إلى مخاض القصة المصرية، أو الأدب القصصي المصري، ونجده يقول: (أما محمد حسين هيكل فقد ولدت القصة المصرية على يديه بعد أن عاد إلى وطنه من دراسة الحقوق في فرنسا) بل يقول الأستاذ حقي إن هيكل كتب (زينب) وهو في بعثة دراسية في فرنسا. وبغض النظر عن الباعث الذي يقول هيكل (إنه الحنين للوطن الذي دفع بي لكتابة هذه القصة)، فإن الثقافة الفرنسية أو هي الحياة الفرنسية التي عايشها هيكل - كما عايشها بعد ذلك طه حسين - هي التي جهّزت، وربّما جمّعت أيضاً، عناصر القصة عند هيكل، وعناصر الدراسات النقدية عند طه حسين ولا يختلف الأمر بالنسبة لتوفيق الحكيم وإذا لم تخني لذاكرة، فإن أوائل مؤلّفاته التي يمكن أن تحسب على المسرح، وإن كانت تفتقر إلى مكوّنات أساسية للعمل المسرحي أو المسرحية، كانت بعد عودته من دراسة الحقوق في فرنسا، ومن هذه الأوائل عمل شبه مسرحي بعنوان (أهل الفن).. ومع أن أهل الكهف، لا تزال تعد عملاً مسرحياً متكاملاً، فإن توفيق نفسه درج على أن ينظر إليها نظرته إلى الكثير من أعماله، التي صدرت باسم (مسرح المجتمع) التي تقرأ أكثر من أن تصلح للتمثيل. |
ويترامى بنا الموضوع إذا أخذنا نتتبع تطور الحركة الأدبية، أو العطاء الأدبي بداية في مصر على الأخص، وعلاقة هذا التطور، بالثقافة الفرنسية، أو بأولئك الذين ابتعثوا إلى فرنسا ثم عادوا يحملون، إلى مصر وإلى الفكر العربي، بذور وشتلات الثقافة الفرنسية. |
فإذا، انتقلنا إلى أنجلترا، وأثر الثقافة الإنجليزية، أو إلى الذين تأثروا بهذه الثقافة، في مصر، وكان لهم فضل ذلك التطور الكبير، أو الانتقال الواسع، من الشعر التقليدي، أو شعر الأصالة، أو الشعر الاتباعي، الذي حافظ عليه شوقي وحافظ، بالذات إلى الشعر، الذي سمّي في حينه (الشعر الحديث). فإننا نجد عبد الرحمن شكري يتقدّم هذه الحركة، أو يتزعمّها، ونجد المازني والعقاد، يرفعان لواءها مع شكري، وإن لم يكن أحد منهما، قد ابتعث كما ابتعث شكري إلى إنجلتر.. ولكنهما درسا الإنجليزية، في مصر ولا فرق بين أن تدرس الإنجليزية، وأن تتعمّق آدابها في بلدك، وبين أن تذهب أو تبتعث لدراستها في إنجلترا. |
وبعد، |
فإني إذ أتأمّل حركة الفكر، أو هي حركة الفنون، ولنقل إن منها القصة، والمسرحية والشعر، في العالم العربي.. وإذ تتلاحق في الساحة صيحات متشنّجة، عن الغزو الفكري، وما يعدّونه له من الأخطار على الفكر العربي، أو حتى على العقيدة، والتقاليد والأعراف المتوارثة، أتساءل، هل نخرج، من حياتنا الفكرية، أو من هيكل الثقافة المعاصرة، كل هذا الذي حُمل، ولا يزال يحمل حتى اليوم، من عطاء الثقافة الغربية.. هل نرفض مثلاً، محمد حسين هيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعبد الرحمن شكري، ومعه المازني والعقاد، قادة فكر وفن، لأنهم قد حملوا بذور وشتلات ثقافة الغرب؟ ثم هل نغلق على أنفسنا، الأبواب، ونلتمس سبيلنا إلى فكر العصر، وتيارات الفكر المعاصر، في مراجع التراث، التي نعلم أن بيننا وبينها مئات السنين؟ |
* * * |
طبيعي جداً، أن تختلف نظرة كاتب صحفي، أو مشتغلٍ بالشؤون العامة، عن نظرة كاتب آخر بالنسبة لعلاقات المملكة الدولية، وعلى الأخص علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية.. ولكن مهما اختلفت النظرة عند هذا أو ذاك، يظل هناك ما يعتبر أساسياً ومفروغاً منه، وهو أن ما يحكم هذه العلاقات، وفي الدرجة الأولى والأهم، الاحترام المتبادل والمعاملة بالمثل بالنسبة للمصالح المشتركة، وروابط الصداقة القائمة أساساً على التفاهم والثقة بمصداقية وجدّية التعاون في معالجة القضايا التي تستلزم ويتاح فيها اتفاق النظرة على ضوء المصلحة لدى كل من الطرفين بالنسبة لعلاقاتها بالدول الصديقة الأخرى. |
ومع ذلك، وبقدر ما هو مفهوم ومقرر لدى معظم الصحفيين، أو المشتغلين بالشؤون العامة في المملكة، فإن أي صحفي من هؤلاء، لا يذهب في تقديره للعلاقة بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية، أو (لخصوصية) هذه العلاقة، إلى الحد الذي يجعل المملكة تتهاون أو تتساهل أو تغض النظر، عن أي تصرف تتورط فيه الولايات المتحدة يكون ماسًّا من قريب أو من بعيد بمصلحة المملكة، أو بموقف من مواقفها تجاه قضايا معيّنة، أو بعلاقاتها بدول ترى هي أنها خليقة بتعامل أفضل يقوم غالباً على أساس وشائج العقيدة، أو اللغة، أو الأعراق، أو الجوار. |
وفي تاريخ العلاقة، بين المملكة، والدول الأخرى، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية ما يؤكّد دائماً، أن هذه العلاقات، قامت دائماً من منطلق واحد وأساسي، وهو منطلق السيادة المطلقة، التي تملك وحدها التعامل مع هذه الدولة أو تلك على ضوء مصالحها المشتركة، إن وجدت، أو على ضوء الانتماء الإسلامي، أو القومي، وقد كان هذا الانتماء ولا يزال هو الأقدر على النمو، وعلى البقاء. |
ومن هذه الحقيقة، لا يصح، من وجهة نظري، أن يقول صحفيٌ ما إن العلاقة بين المملكة والولايات المتحدة بالذات، علاقة (خاصة)، وأن يفهم، من رفض المملكة، الاستجابة لمطلب تتقدم به الولايات المتحدة - وهو ما يشير إليه مؤلّف كتاب من الكتب التي تؤلف عن المملكة، ربما في مجال التنويه باستقلالية وصلابة التوجيه السياسي لدى قادتها - أن يُفهم من هذا الرفض، أو أن يُفسّر، بأنه (إسفين) يدق في العلاقة (الخاصة) بين المملكة وأمريكا وخدمةً لإسرائيل. |
والتعليق، بعنوان (العرب وتهمة اللاسامية)، بقلم الأستاذ (جهاد الخازن) عن كتاب صدر في العام الماضي، لكاتب أمريكي هو (ناداف سافران)، بعنوان (بحث المملكة الدائم عن الأمن) (Saudi Arabia. The Sease Less Quest For Security).. وفي التعليق استعراض خاطف عن دعوى أو شعار اللاسامية الذي ترفعه إسرائيل، ويبدو الأستاذ جهاد، حريصاً على نفي تهمة اللاسلامية عن العرب، وهو ما نتجنّب مناقشته في هذه الكلمة، ولكن ما يلفت النظر هو أنه يأخذ على الكاتب الأمريكي (ناداف سافران) قوله في كتابه ما يفهم منه أن المملكة لم تستجب إلى حاجة الولايات المتحدة لمساعدة أو تسهيل (لم يذكره). ويعتبر الأستاذ الخازن، ذلك، (إسفيناً) من الكاتب، الذي جعل القارئ يستنتج، أنه لا توجد علاقة خاصة بين المملكة وأمريكا، وأن الغرض من هذا الإسفين هو خدمة إسرائيل.. |
أرجو أن لا يجانبني الصواب، إذا قلت للأستاذ الخازن، إنه قد ابتعد كثيراً عن الزاوية التي يستطيع أن يرى منها، حقيقة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية.. وإني من جانبي شخصياً، سعيد بما قاله (ناداف سافران) في هذا الكتاب - (إذا كان قد قاله فعلاً، لأني لا أستطيع أن أجزم إلاّ بعد أن أفرغ لقراءة الكتاب الذي تلقيته إهداءً من الصديق عبد المقصود خوجه منذ أسبوعين فقط).. سعيد بذلك لأنه ينفي عن المملكة ما يتردد - عربياً ودولياً - عن العلاقة (الخاصة) بينها وبين الولايات المتحدة، أو بينها وبين أي دولة، لأن مفهوم العلاقة الخاصة، كما لا يجهل الأستاذ الخازن يستطيع أن يستوعب الكثير من المفاهيم، وأن يلقي الأكثر من الظلال، وهو ما نعلم ويعلم الأستاذ جهاد أن المملكة أرفع وأجل من أن توصم أو تتهم به.. وإذا كان ما قاله (ناداف سافران) في كتابه هذا (إسفيناً)، لمصلحة إسرائيل، فإننا نتمنى أن تتكاثر هذه الأسافين. |
|