مع المجتمع |
تعليق الأستاذ علي العمير على القرار الذي اتخذه معالي وزير المعارف الدكتور عبد العزيز الخويطر بنزع (الصفر) الداخلي والدولي في الهواتف الخاصة بالمدارس، بعد أن بلغت فاتورة واحدة لمدارس الرياض وحدها مليوناً ونصف المليون من الريالات، حين جعلني ازداد إعجاباً بالدكتور الخويطر، لم يمنعني أن ابتسم ابتسامة رثاء لما يعانيه هذا الرجل وأمثاله من ظاهرة الإصرار على مقولة: (مال الحكومة حلال) والانطلاق من مفهومها المنحرف والخاطئ مع تيار تبديد أموال الحكومة، إلى حد لا تملك معه إلاّ أن تضع القضية في إطار (جريمة تبديد أموال الدولة). |
وهذا كلام لا يرتاح إليه أحد، وقد يواجه بإجماع جماهيري على رفضه، لأن مقولة (مال الحكومة حلال) منتشرة على مستوى الجماهير من موظفي الدولة، ومن غير موظفيها، وهي راسخة في الأذهان إلى حد اليقين. بل قد لا أذهب بعيداً إذا قلت إنها أساس التعامل بين أكثرية مصالح الدولة، والأسواق، وهي السر الكامن وراء الارتفاع الصاروخي لأسعار مشتريات هذه المصالح من هذه الأسواق، وكذلك لارتفاع أرقام بنود هذه المشتريات في ميزانيات هذه المصالح عاماً بعد آخر. |
وأذكر على سبيل المثال فقط (مكيّفات الهواء) التي يستغني عنها، وتلقى في مستودعات الخردة أو النفايات، أو حتى في حوش المصلحة، لأن بند المشتريات يسمح بشراء أنواع من الأثاث واللوازم المكتبية، وهي لا يستغني عنها لأنها تالفة فعلاً، وإنما لأنها (قديمة) وأصبحت (ما تبرّد).. بينما الحقيقة أنها أهملت دون صيانة أو تنظيف من أي نوع فتراكمت على المصفاة وما وراءها الأتربة، فعجز الجهاز عن تقديم الدرجة المطلوبة من التبريد. |
بل السيارات، التي نقرأ إعلانات عن مختلف المصالح عن بيعها، مع أنها لا تزال صالحة للاستعمال سنة أخرى أو سنوات، لو وجدت اليد المصلحة المشفقة على مال الحكومة من التبديد.. وبطبيعة الحال كل سيارة تباع، تحل محلّها سيارة جديدة (لنج) ومن آخر موديل. |
ومثل السيارات أثاث الغرف، وعلى الأخص منها تلك التي يرتفقها المدير أو الموظف الكبير.. ما أكثر ما تتجدد، دون أي سبب سوى أن (البند) يسمح بشراء الجديد ويشتري الجديد، من أنواع فاخرة المظهر، ضخامة، وكسوة، وأبهة، ثم لا تمضي شهور على استعمالها، ليكتشف من يعنيه الأمر أنها كلام فارغ، في حقيقة صناعتها والخامات التي صنعت منها في (إيطاليا).. وما أكثر ما يتهافت الناس على الأثاث المصنوع في إيطاليا. ولست أنسى أني دخلت غرفة أحدهم، مرتين متواليتين بينهما فترة لا تزيد على شهور، ذهلت حين رأيت في المرة الثانية أن كسوة المقاعد الضخمة الفخمة التي كانت تبدو من (الجلد الفاخر) في المرة الأولى، قد تمزّقت وظهر أن الجلد الفاخر لم يكن سوى مادة في سمك لا يزيد على ملليمترين، لا بد أن تتمزق بالاستعمال. والعجيب أنها لم تكن (بلاستيك)، وإنما مادة تهترئ وتذوب.. وحين أبديت ملاحظتي لصديق كان بجانبي قال: (هذا النوع هو عزّ الطلب).. ولم أفهم فقال: (بمجرد صدور الميزانية الجديدة، تنقل هذه المقاعد وربما معها المكتب الطويل العريض أيضاً إلى المستودع أو إلى الحوش إذا لم يتسع المستودع.. ثم تشتري المصلحة (طاقماً) جديداً. |
هذه مجرد أمثلة يمكن أن تبدو تافهة، إذا قيست بالمشتريات الكثيرة الأخرى، وتحضرني بالمناسبة ذكرى زيارة قمت بها في لندن لأحد مديري شركة من الشركات.. كان يجلس وراء مكتب تظن أنه اشتري أمس فقط، وفي الغرفة مقاعد جلست على أحدها ملاصقاً للمكتب الذي يجلس عليه المدير.. ولست أدري كيف جر الحديث، إلى الصيانة وأثرها الكبير في الحفاظ على أموال الدولة.. فوجئت وذهلت حين قال إن عمر المكتب الذي يرتفقه يزيد على عشرين سنة.. ومثله المقاعد.. بل وحتى الأباجورة الكبيرة في الركن.. كلها مضى على استعمالها عشرون سنة، ولا تزال تبدو كأنها اشتريت أمس فقط. |
أعلم أننا أغنياء بحمد الله، وأن المكيفات، والأثاث والسيارات أشياء تافهة في حساب المصالح، وهي تافهة أيضاً إذا قورنت بالكثير الذي يتجدد شراؤه كل سنة، وتمتلئ الأحوشة والمستودعات بالقديم الذي أصبح (خردة) أو (قمامة).. أعلم ذلك، ولكن من الذي يقول إن الله قد أغدق علينا ما أغدق من نعمه وفضله، لنبدده بلا حساب وبلا ضمير. |
وهذه الدولة التي يقولون إن مالها حلال.. أليست هي نحن؟ وأموالها أليست أموالنا؟ ومستقبلها هو مستقبلنا؟ وفي صيانة أموالها والتحسب في إنفاقها، صيانة لأموالنا. |
إنها كريمة وسخية ولا تريد التضييق أو الأعنات على المواطنين، موظفين وغير موظفين، فهل يصح أن نقابل كرمها وسخاءها بالتبديد. |
أعتقد أن معالي وزير المالية والاقتصاد الوطني، يستطيع أن يخرج بنتائج مذهلة إذا قدّم له (الكمبيوتر) مقدار المبالغ التي تنفق في عام واحد على هذه الأشياء التافهة فضلاً عن غيرها مما لا يدخل تحت حصر. |
* * * |
كثيراً ما تتردد عندنا - وفي معظم بلدان العالم العربي - كلمة (كلام جرايد)، وذلك تعليقاً عابراً على بعض ما يرويه بعضهم من أخبار يسندونها إلى ما نشرته الصحف. وهذا يعني في الغالب اهتزاز الثقة بما تنشره الصحف من أخبار. ولذلك فإني كثيراً ما أنصح أصدقائي من رؤساء تحرير الصحف، أن لا ينشروا خبراً إلا بعد التأكّد من صحته من مصادره المسؤولة، وعلى الأخص حين يكون في الخبر ما يمكن أن يوجّه مسؤولية من أي نوع. ولعلّها مناسبة طيبة أن أذكر أن كل صحيفة من الصحف الكبرى في العالم، تزوّد نفسها بما يسمى (قلم القضايا)، الذي تلقى عليه مسؤولية مواجهة القضايا التي تترتب على نشر خبر أو تحقيق صحفي تشعر رياسة التحرير بخطورته وبما يمكن أن ينجم عنه من مسؤوليات. وكثيراً ما يفضل رئيس التحرير، استشارة قلم القضايا هذا قبل نشر ما يتصدى له مخبر أو محرر من أخبار ذات أهمية معينة. ولا أعرف أن صحفنا قد عنيت بتحرز واحتباط من هذا النوع الثقيل، وذلك لأن المسألة (عمامة برأس) رئيس التحرير المسكين الذي يعلم أن عليه أن يحمل القضايا هذه في تلافيف دماغه العزيز، وأمره إلى الله. |
وأجد نفسي أكتب هذه المقدمة، قبل أن أشير إلى خبر قرأته يوم 18 الجاري في جريدة عكاظ في الصفحة الأخيرة. وهو خبر أتردد في الشك فيه، وإن كنت أستكثره وأستكبر مضمونه الغريب.. يقول الخبر ما خلاصته أن البلدية (شمّعت المحلات غير الملتزمة بتركيب المرمر) وأوضح كاتب الخبر، أن قسم التعديات في بلدية الميناء قام (بإغلاق) عدد من المحلات، وختم أبوابها بالشمع الأحمر، وكان كل الذنب الذي ارتكبه أصحاب هذه المحلات، هو أنهم لم يستبدلوا بحجر الرياض (المرمر الأبيض) الذي تفرضه أو تريده أمانة مدينة جدة. |
وأتردد في الشك في الخبر، لأني أسمع منذ فترة حكاية إصرار البلدية على إعادة دهان المباني باللون الأبيض، وكان - ولا يزال ظني - أن هذا الأمر لا يزيد على كونه اقتراحاً أو نوعاً من تفضيل هذا اللون، بالنسبة للمباني التي لم تدهن بعد، أو بالنسبة لتلك التي حال أو بهت لونها. واستبعدت - ولا أزال أستبعد - أن يكون الأمر قسرياً مفروضاً على كل مبنى في جدة. |
ولكن الخبر الذي قرأته اليوم، يعطيني صورة لتنفيذ الأمر فيها ما أفهم منه أن الأمر مفروض ولا بد من تنفيذه قسراً، تحت طائلة إغلاق المحلات، التي لا تنفذه. كما يعطيني صورة أخرى تستلزم التساؤل عن مشروعية أو قانونية تنفيذ مثل هذا الأمر، وبالتالي عن قانونية ومشروعية تنفيذ العقوبة، وهي هنا (إغلاق) المحل.. والمحل هنا (باب ارتزاق) أعلم أن شريعتنا السمحة تحرّم إغلاقه وحرمان صاحبه من الارتزاق منه. |
ثم هذا الأمر - وأعني إعادة دهان المباني باللون الأبيض - لا يكفي أن ينفذ بمجرد رغبة أمانة مدينة جدة في تنفيذه. إذ لا يجهل أحد أن المتبع في المملكة، أن لا ينفذ أمر له صفة الإلزام، تحت طائلة العقاب - أياً كان - إلا إذا اقترن بأمر سام ينشر على المواطنين، ككل أمر ترى الدولة أنه يحقق مصلحة عامة، ومن ذلك على سبيل المثال، هدم وإزالة أي مبنى يعترض أعمال التنظيم أو طرق المواصلات. يبدو لي أن قسم التعدّيات في بلدية الميناء يعتمد على مثل هذا الأمر في ممارسته تنفيذ عقوبة عدم إطاعة الأمر. |
وعدم إمكانية استبدال (حجر الرياض) بالمرمر الأبيض لا أدري كيف يمكن أن يعاقب المخالفون بإغلاق محلاتهم وتشميعها، ونحن لم ننس بعد أن حجر الرياض هذا، قد فرض على كل مبنى حديث في جدة تقريباً، وأن المئات من المباني في أكثر الأحياء الحديثة قد أرغمت على كسوة مبانيها بهذا الحجر الذي قيل لي إنه يستورد بالشاحنات من الرياض، فيكلّف أضعاف ما تكلّفه المواد الأخرى.. فكيف، وبأي منطق يطالب الناس اليوم بانتزاعه وكسوة الواجهات بالمرمر الأبيض؟ |
إننا نتصايح مطالبين المواطنين بترشيد الاستهلاك والإنفاق، وندعو إلى التخفيف من حالة البذخ والترف الطارئة على حياتنا فكيف نوفّق بين هذا المطلب، وبين أن ننتزع حجر الرياض الذي أنفقنا عليه عشرات الألوف من الريالات، لننفق عشرات ألوف أخرى في المرمر الأبيض.. |
وقبل كل هذا.. يظل السؤال الأهم، وهو على أي أمر سام اعتمدت بلدية الميناء في تنفيذ عقوبة إغلاق (باب الارتزاق).. بل على أي أمر سام، تعتمد أمانة مدينة جدة في فرض ما تفرضه من أوامر في كسوة أو دهان المباني. |
لا بد أن أرجّح أن الخبر غير صحيح.. وهذا لا بد أن يعرض عكاظ لمسؤولية عدم التأكّد مما تنشر من أخبار.. فإذا كان صحيحاً، فإن على أمانة مدينة جدة أن تواجه المواطنين بما لديها من أوامر سامية تقضي بمثل هذه الإجراءات. |
|