الشعر والشعراء في المدينة المنورة (4) |
وبعد تبادل التحايا، بالأيدي والهمسات الخافتة مع الشعراء، في أماكنهم خلف المنصة أخذنا نسمع ما يلقى من الشعر وكان الدكتور الخطراوي أول من أصغينا إليه، وقد يوافقني القارئ على أن من المتعذّر على المستمع، أن يتأمّل المعاني، أو أن يستوعبها، ليتاح له بعدئذٍ أن يكوّن رأيه عنها، ولذلك كان مردود الاستماع، أقل من أن يتيح التعبير عن الرأي، باستثناء البيت أو البيتين اللذين ربّما نبضا بمعنى يصفّق له البعض، فيسايره البعض الآخر، ولكنّهما - وأعني البيتين - سرعان ما تغمرهما بقية ما يلقى من القصيدة. |
ولعلّ الأستاذ عبد الله بوقس، قد واجه هذه الحقيقة، فلم يفته أن يزوّدني بصورة لما ألقاه الدكتور الخطراوي، وبصورة أخرى لما يغلب على ظني الآن أنه مما ألقاه الأستاذ هاشم من أحد دواوينه. أما الأستاذ عبد الرحمن رفّة (وليس عبد الرحيم كما كتبت بعض الصحف).. فقد أهداني نسخة من ديوانه (جداول وينابيع) وقد ألقى تشطيره لقصيدة قال إنها للشاعر فؤاد الخطيب رحمه الله، وذكر أنها نشرت في مجلة المنهل وفي جريدة المدينة قبل ثلاثين عاماً. |
وأرجو أن لا أكون متسرعاً إذا قلت إن شعراء المدينة يرفضون التنازل عما يسمّيه الأستاذ عبد الرحمن رفّة: (أسلوب البيان العربي الأصيل).. فهم من هذا المنظور، من أنصار الشعر الذي يسمّيه أنصار الحداثة شعراً تقليدياً.. وتلك ظاهرة أعتقد أنها تستحق التفاتة النقّاد، حيث يتعيّن أن يطرحوا سؤالاً عن الأسباب التي جعلت تيار الحداثة الذي جرف مجموعة كبيرة من شعراء الشباب في جدة والرياض وربما في مكة أيضاً، يعجز عن اقتحام شعر الشعراء في المدينة المنورة.. ومما يتبادر إلى تقديري الآن، أن السبب، هو أجواء القداسة وتفوق التاريخ التي يكاد يتعذّر أن يحلّق الشعراء والمثقفون بعيداً عنها أو إلى ما وراءها. وفي ذلك، نوع من الالتزام بالوفاء لعوامل الانتماء إلى الأرض والأجواء والآفاق في ذلك الجوار القدسي الحبيب.. وذلك حقّهم، الذي يتميّزون بالحفاظ عليه. والذي يطيب لي أن ألفت نظر النقاد إليه. |
ولكن نظرة التقدير هذه من جانبي لا تمنع أن أقول، إن (أسلوب البيان العربي الأصيل) يستطيع أن يتجاوز المواضيع والأغراض التقليدية، وأن (يعاصر) الحياة وإيقاعها الذي لا شك أنه قد أخذ يتغيّر عمّا كان عليه قبل نصف قرن، بل لعلّ الحقيقة التي يجب أن يعايشها الفكر الحي المتوثّب، هي أن هذا الإيقاع يتغيّر بسرعة تتناسب مع سرعة مكوك الفضاء، فليس مما يتواءم مع هذه الحقيقة أن تظل مواضيع الشعر في المدينة المنورة، أو في غيرها، بعيدة عن هذه المعاصرة وهذا الإيقاع السريع.. ليس ضرورياً أبداً، أن يكون شعر الحداثة هو الشكل الذي يعالج هذه المواضيع.. يستطيع الشعر بمفهوم شكله التقليدي العريق، أن يستوعب هذا الإيقاع السريع وفي الوقت الذي تطيب لشعراء المدينة المنورة الهجرة إلى الماضي والتحليق في أجواء وآفاق التاريخ بكل ما يضمّخه من طيوب القداسة والطهر، فإن الانطلاق إلى المستقبل، والرؤية المستقبلية مطلب من مطالب الفن المتجدّد، بل هو مطلب التكهن الحيّ ما دام يتمتع بنبض الإبداع. |
وبعد.. فما بين يديّ من قصائد الشعراء الأربعة، إذا كان لا يمثل كل حصاد الشعر في المدينة المنورة، فهو - على الأرجح - يمثل النخبة، أو الأضمومة المنتقاة من هذا الشعر، بشاهد أنه الذي اختار الشعراء أسماعه لمن حضروا الأمسية في نادي مكة الثقافي.. ولذلك فإني أرجو أن أجد الوقت لقراءته قراءة متأنية، تتيح لي وقفة تذوق واستيعاب وتأمّل، يستحقها الشعر وهي واجب مفروض عليّ شخصياً وفاء لمسيرة الفكر، في البلد الطاهر الحبيب. |
ما أشد ما يحتاج أبناؤنا من الأجيال العربية الصاعدة، إلى معرفة الجوهر الغالي في عقيدتنا الإسلامية السمحة، والفروق الهامة بين المبادئ والمثل في هذا الجوهر، وبين الأسس والقواعد التي تقوم عليها النظم والقوانين في حياة المجتمعات، ليس فقط، في الفترة التي ظهر فيها الإسلام، وإنما في عصرنا الحاضر أيضاً. |
في الفترة التي ظهر فيها الإسلام، كانت المجتمعات التي يحكمها النظام الروماني خاضعة لذلك القانون الذي يحمي جميع الأشراف، ويميّزهم عن غيرهم.. والأشراف هم الرومان وحدهم أما جميع أفراد الشعب، وبالأخص غير الرومان، فعبيد أرقاء.. ليس لهم من الحقوق إلا أن يعملوا لمصلحة السادة.. وأن يملأوا بطونهم فقط. |
ومع ذلك فقد وجد من المؤرّخين، من يقول إن القانون الروماني قد بلغ أوج عظمته في القرن الخامس للميلاد، لأنه نظم العقود والمعاملات، وإنه قد احتفظ للسادة أو للعنصر الروماني بكل الحقوق، وحرم غيرهم من جميع الحقوق. |
في العصر الحاضر، ما أكثر ما تختلف النظم التي تحكم المجتمعات، ولكن ما أشد ما تظل متخلّفة عن روح التشريع الإسلامي.. عن الجوهر في العقيدة السمحة. لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر، النظام الذي تزدهي وتفاخر به الحكومات الديموقراطية.. يكفي أن نشهد مأساة التمييز العنصري حتى في أمريكا، التي شهدت أعظم حروب تحقير الرقيق أو العبيد كما يسموّنهم. ومع ذلك لا تزال النظرة إلى السود، بل في بعض النوادي إلى الملوّنين، لا تختلف عن النظرة إليهم في جنوب إفريقيا، وعلى شيء من المكر والخديعة في إسرائيل.. يكفي أن نشهد هذه المأساة الإنسانية القائمة في هذا العصر، لندرك مدى تخلفها واهترائها.. وما أشد ما يتضح هذا التخلف حين نتأمل ونعي بتعمّق تلك الحرية التي تمنحنا إياها كلمة (لا إله إلا الله).. وتلك المساواة التي تقرر أن ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.. وتلك العدالة المطلقة التي يقف فيها الغني والفقير، أمامها متساويين في جميع الحقوق.. فالناس سواسية كأسنان المشط.. والقوي ضعيف حتى يؤخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى يؤخذ الحق له.. ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهو الذي لا تنسى كلمته لأبي موسى الأشعري عندما ولاّه القضاء: (سوِّ بين الخصمين في مجلسك، وإشارتك وإقبالك). |
يحتاج أبناؤنا في المملكة، أن يبصّروا بهذه الحقائق نوعاً من التبصير، يمدهم بالقدرة على التمييز بين ما في جوهر عقيدتهم من مثل العدالة والمساواة وينمّي فيهم التطلع والحرص على أن يكون ذلك هو نهج حياتهم ومسيرتهم، وبين البهرج الخلاّب الذي تظهر به النظم في مجتمعات هذا العصر. |
|