انطلاقة التنّين.. (3) |
ورغم كل الظواهر التي ألمحت إلى تغيير هو الأول من نوعه في مسيرة الصين الحمراء، فليس في طبيعة الظروف التي تعيشها، وقد ظلّت تعيشها منذ خضعت لحكم ماو بكل ما أفرزه في حياة الصينيين من العقد والتناقضات، بل ليس في طبيعة الغموض وعمق الأغوار التي تنطوي عليها نفسية الإنسان الصيني تحت ستار خادع من النعومة واللطف والمطاوعة الظاهرية، ما يضمن أن تعطي التغيّرات التي يشهدها العالم اليوم في اتجاه الصين نحو (الاعتدال) في الالتزام بالمبادئ والمثل التي عاشتها طوال عقود من السنين، نفس التوقّعات التي طنطن لها الغرب والشرق على السواء. |
وحين نرى أن الصين تفتح الأبواب، أمام الاستثمارات الأمريكية والأوروبية وتستهدف نقل التكنولوجيا كواحد من أهم أهدافها، عبر هذه الاستثمارات، والأبواب المفتوحة، فإن الطبيعي، أن يلتزم العالم جانب الحذر، وأن يحسب حساب التنّين بكل قواه الأسطورية عندما يتم له تحقيق الهدف الذي يستهدفه اليوم.. ثم عندما تنفتح له أبواب العالم الحر فيتاح له أن يتسلّل إلى الكثير من أقطار العالم التي ظلّت مغلقة في وجهه، لأنّه يلتزم مبادئ ومثل لينين وستالين، المرفوضة بطبيعة خطرها على الأنظمة الديموقراطية الرأسمالية. |
لقد كانت موافقة الصين على الاتفاق الذي عقدته بريطانيا معها عن مستقبل جزيرة هونج كونج، وبتلك المرونة، والترحاب المذهل، من أكبر الأدلة على أن التنّين قد أخذ يتحرّك في الاتجاه الذي ينطلق منه إلى القنوات التي كانت هونج كونج تعبرها إلى اقتصاد العالم الحر.. فإذا لم ننسَ، أن الإنسان الصيني يكوّن نسبة عالية، من سكان هونج كونج، وسنغافورة والملايو، وتايلاند، وبورما، إضافة إلى الصين الوطنية في جزيرة فورموزا، وأن طبيعة الانتماء العرقي تعتبر في حد ذاتها عاملاً يصعب تجاهله أو إسقاطه من الحساب والتقدير، فإن أبسط ما لا بد أن يتوقّعه العالم، إذا التزمت الصين الحمراء بالاتجاه الجديد وهو الاعتدال في الالتزام بمبادئ لينين وستالين، هو أن تجد طريقها ممهوداً إلى التوغّل الناعم في جميع أقطار العالم، ولنا أن نتصوّر، ماذا يمكن أن يحدث، في مواجهة ألف مليون من البشر تسلّحوا بالتكنولوجيا، والإنتاج الصناعي الضخم الهائل الذي لا بد أن يتضاءل بالنسبة إلى حجمه إنتاج معظم الدول، إلى جانب إنتاج المحاصيل الزراعية، التي سوف يرتفع حجمها إلى مستويات خرافية نتيجة لوفرة القوى البشرية، الهائلة، وقد وجدت تحت تصرفها التكنولوجيا التي تتجاوز مختلف المعوّقات كما هي الحال في الدول المتقدمة اليوم. |
لا شك أن اليابان وكوريا بوجه خاص هما اللتان تتحسبّان لحركة التنّين، وتنظران إلى الأسواق التي تغمرانها بإنتاجهما المتطور.. والأرجح أنهما ستتحركان في اتجاه مضاد.. يصعب في الوقت الحاضر التكهّن بطبيعته ونوعه، ولكن يصعب أيضاً أن تستطيعا الوقوف في وجه التنّين، بالألف مليون من البشر، وبكل ما سيصل إليه الدهاء الصيني في التعامل مع التكنولوجيا، ومع حاجة هذا الكم الهائل من البشر، إلى حياة أفضل، لا يبالي أن يصل إليها بالتراجع قليلاً وإلى حين، عن اللون الأحمر، الذي ظل يصبغ الحياة، ويصعب أن نتصوّر زواله في الأعماق. |
كان العالم الثالث، والعرب منه على الأخص، لا يغفل عن التحسب لما يسمّى القوة الصفراء تمثلها اليابان وكوريا، ويبدو أن عليه بعد انطلاقة التنّين أن يستيقظ تماماً وأن يحسب حساب هذه القوة، التي لا بد أن يتحسّب لها الغرب، والعالم الحر وأن يدرك عمق الأغوار التي تنطوي عليها نفسية إنسان هذه القوة على المدى القريب والبعيد. |
* * * |
لم يتح لي أن أقرأ الصفحة الأخيرة من عكاظ، وأنا أستقبل يومي مع الحياة، ومع التزاماتي الكثيرة التي لا أدري كيف تنهش أو هي تسرق حتى وقت الراحة والاستجمام.. ولذلك كان وقع خبر رحيل الصديق الأستاذ عبد الوهاب آشي، الذي نقله إليّ بالهاتف، الأستاذ البصيري من محرري جريدة عكاظ، مفاجأة فيها من الحزن والأسى بقدر ما فيها تراكم الذكريات البعيدة التي وجدتني أعايشها لحظات عادت بي إلى ما قبل أربعين عاماً، وعلى التحيد إلى تلك الأيام التي شهدت فيها مكة صدور أول جريدة بعد أم القرى، وهي صوت الحجاز. |
كان الأستاذ عبد الوهاب آشي، كزميليه، الأستاذين محمد سرور الصبّان، ومحمد حسن عواد، طليعة الفكر في حياة رعيل الشباب والناشئة أيامها.. وكانت النظرة إلى هذا الثلاثي، نظرة فيها من الإعجاب، بقدر ما فيها من الاحترام والمهابة.. أذكر أننا كنا نمر بمنزل آل الآشي في القشاشية بمكة، وفي أذهاننا الأستاذ عبد الوهاب. نقطة إشعاع نتمنّى أن نجلس إليه وأن نسمع منه. وكان أول لقاء بيني وبينه، في خارجة منزله، يوم عودته من معتقله هو وحمزة شحاته وآخرين في الرياض. كان معنا حمزة، والمرحوم الأستاذ صالح باخطمة وقضينا ليلة ولا حديث لنا إلا الأدب، ومواضيع الفكر التي كانت تملأ الساحة في تلك الأيام. |
وصدرت صوت الحجاز وقد أصدرها الشيخ (محمد صالح نصيف) واختار لها الأستاذ عبد الوهاب آشي، رئيساً للتحرير.. ولن أنسى أول مقال جئته به.. كان يعرفني، ولكن لم يكن يعرف أني من عشاق الحرف.. أخذ المقال.. وقضى دقائق في قراءته، ثم رفع رأسه ليقول (ينشر) واستغربت، إذ لم أكن أتوقّع أن يوافق على نشره بهذه السهولة.. فعاد يقول: (نعم.. ينشر فهو خالٍ من الأخطاء.. يبدو أنك أحسنت دراسة النحو والصرف.. ونرحّب بأي مقال..) |
ومع أن الفقيد، قد عرف، في أوائل مسيرة الحركة الأدبية بأنّه شاعر، ومن كبار الشعراء والأدباء في تلك الأيام، فإن ما نشر له من شعره أقل من القليل.. ولكن هذا لم يمنع أن تكون له مشاركاته في مسار الحركة الفكرية، حتى وهو في وظائف الدولة التي تقلب في مختلف مناصبها في وزارة المالية على الأخص. |
ويختلف الأستاذ عبد الوهاب آشي عن رصفائه، ومنهم عمر عرب، ومحمد سعيد عامودي، بأنه كان لا ينقطع عن الاجتماع بالأدباء، أو من عشاق الأدب من الناشئة.. وعن المساهمة بأنشطته وحيويته، في الأنشطة التي كانت تتاح في تلك الأيام، ومنها (مشروع القرش الذي ناديت به وتولّيت رياسة مكتبه الدائم)، وكان هو من أعضائه، فلم يكن يفوته أن يتردد على المكتب وأن يناقش مراحل تنفيذ المشروع. ومنها أيضاً إصدار كتاب (وحي الصحراء)، الذي تزعّم فكرته وقام بتجميع مواده الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود خوجه، ومعه الأستاذ عبد الله عمر بلخير.. فقد كان الأستاذ عبد الوهاب رحمه الله، يمدّ أعضاء اللجنة، وكنت منهم، بآرائه الناقدة فيما يصلح وما لا يصلح لأن يظهر في الكتاب. |
من أجمل ما قد يذكر للأستاذ عبد الوهاب آشي من الشعر قصيدته بعنوان الحجاز مستقر الوحي والطبيعة الخرساء.. وهي قصيدة طويلة منها: |
بلاد سمت بالأُلئ عرفوا |
طريق المعاني ومضمارها |
كبار النفوس قصيّو المرا |
م تحدُّوا الحياة وأسرارها |
سعى المجد طوعاً إلى بابهم |
وأولتهم الأرض أمصارها |
إذا جد جد الوغى يمَّموا |
ميادينها وجلوا عارها |
|
ومنها: |
بلاد بها نبتت أعظمي |
أكلت جناها وأثمارها |
أحن إليها وأصبو إلى |
رباها وأعشق أحجارها |
|
وبعد فإن الأستاذ عبد الوهاب رحمه الله، من الشخصيات التي لا يستطيع أن يتجاوزها التقدير في تاريخ الحركة الفكرية، إذ كان دون شك في طليعة الذين دفقوا فيها روح التطلع والطموح ولا يقلّل من قيمته ومكانته، إنّه لم يصدر كتباً أو دواوين، إذ ليس بالكتب والدواوين وحدهما تتقرر مكانة رجل الفكر، رحمه الله. |
|