معجب الزهراني، وطفلته.. في باريس |
أعلم مسبقاً أن بين قرائي الأعزّاء، من سوف يقول - وعلى الفور - إن عزيز ضياء، لم يعن بالكتابة عن معجب الزهرني وطفلته في باريس.. إلاّ لأنّه معجب بباريس، وقد يضيف آخر: المسالة ليست إعجاباً بباريس، وإنما هي اتجاهه الثقافي الغربي أو الأوروبي.. وقد يذهب ثالث إلى أن يطلقها صاروخاً عابراً للقارات، فيقول: المسألة في الحقيقة أنه من يومه ((خواجه)) ويؤكّد ذلك أن الدكتور عبد الله منّاع يسميّه أو يصفه بأنه (لورد).. |
ولهؤلاء أقول إن مقال الأستاذ معجب الزهراني الذي نشر في عكاظ منذ يومين، يحسن أن يقرأ بتجرّد، ومحاولة الخلاص من الكثير من هذه التحفظّات التي يلتزمها بعضنا كلّما دار حوار عن الثقافة الغربية، أو عن الحياة في أوروبا، وما في هذه وتلك من حضارة وعلم وفن وتقنية وإبداع، وأبادر قبل كل شيء فأقول إني لم أسمع قط باسم الأستاذ معجب فلا علاقة لي به، أُتهم معها بأني أجامله فألقي عليه بعض الضوء، وقد يجهل كثيرون أن إلقاء الضوء أو الأضواء على هذا أو ذاك ممّن أصبحوا بحمد الله يملأون الساحة الأدبية، مهمة أصبحت من المهام التي أميل إلى التخفف منها بقدر ما أستطيع. |
ثم.. لا بد أن أصارح القارئ بأن مقال معجب الزهراني عن الارتباط بين مخيّلة ابنته الطفلة والقرية في بلاده، واحد من الأعمال النادرة التي قرأتها أكثر من مرة، ويطيب لي أن أقرأها مرات.. وأجمل ما فيه أنه لم يحاول أن يتسترّ على انسياب موجة الثقافة الفرنسية التي تتلقاها ابنته الصغيرة في باريس.. لم يحاول قط أن يزعم أنه لم يدخلها المدرسة الفرنسية مضطراً لأنه لم يجد مدرسة عربية مثلاً.. وإنما كان عفوياً في جرأته وإفضائه بحقيقة الواقع.. فهي معجبة بقصص لافونتين التي نقرأها أو تتلقى موضوعها وتفاصيلها في المدرسة، فإذا (استحضر) لها ((جحا)) وهو يتسلق برج إيفيل دون أن يعلم أن هناك مصعداً الخ.. فتضحك الصغيرة الحبيبة كثيراً وتذهب تتخيّل لجحا المواقف، في الشانزليزيه، وهو يرتفق حماره التاريخي أو التقليدي.. ويدخل مطعماً فلا يدري كيف يتناول (الأسباغتي) وهو يبلغ الذروة من جانبه حين يقول إن طفلته توشك أن تصفعه قائلة في ثرثرتها الغردة: (دعني أسافر كل صباح ألعب هناك مع أطفال القرية - محمد وعلي وسعيد ونورا وصباح - وفي المساء أعود. |
معجب الزهراني قال الكثير.. عن حنينه إلى أرضه وقريته، ولكنّه لم يقل إنه حزين أو يشقى بوجوده في باريس وابنته في إحدى مدارسها ولم ينظر نظرة معقدة إلى قصص لافونتين التي من أبطالها ذلك الضفدع الذي حاول أن يشرب كل مياه الغدير ليصبح الأقوى والأقدر.. وإنما قال بعفوية جميلة سمحة إن ابنته قالت (بابا.. هذا ضفدع غبي..) فلما أعطاها الحلوى ابتسمت (سنونو) - وهذا اسمها.. ابتسمت وقالت في لغة فرنسية لذيذة: (ميرسي بوكو). |
كم أتمنّى أن نعرف كيف نأخذ من الغرب، وكيف نعطيه.. وكيف يجد أبناؤنا في الخارج طريقهم إلى الربط، بين ما يبهرهم في هذا الغرب.. وبين القرية في جبال عسير.. |
* * * |
لعلّها المرة الأولى، التي تسمع فيها إسرائيل، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لن تدعمها بمعونات (إضافية)، مما يعني - في الوقت نفسه - أنها المرة الأولى التي تستطيع فيها الإدارة الأمريكية أن تقول (لا)، وذلك بعد رحلة طويلة جداً من الخضوع والإذعان للابتزاز الإسرائيلي الذي بدا وكأنه لا حدودَ له، ولا قيودَ عليه.. وما تبلغته إسرائيل من الإدارة الأمريكية، لم يكن رفضاً للدعم بمعونات (إضافية) فقط وإنما كان معه أيضاً ما يشبه توجيهاً صريحاً، بأن على إسرائيل أن (تخفض مستوى معيشة شعبها) وأن على حكومة بيريز أن تتخذ إجراءات صارمة لإنقاذ الوضع الاقتصادي (المنهار) في إسرائيل. |
والتوجيه الأمريكي (بأن تخفض إسرائيل مستوى معيشة شعبها) يزيح الستار عن حقيقة أن شعبها هذا قد ظلّ يعيش مستوى من الرغد والرفاه والبطر، على حساب الشعب الأمريكي، بحيث لم يعد يخشى أو يفهم أي وزن للانهيار الاقتصادي، أو للتضخّم، أو لطباعة الملايين من أوراق النقد لمواجهة الإنفاق اليومي، لأنّه واثق أن دافع الضرائب الأمريكي، مستعد دائماً وأبداً، أن يقدّم لكل فرد في إسرائيل، من الدعم، ما يضمن له أن يتمتع بمستوى معيشة قد يكون أفضل من مستوى معيشة الفرد الأمريكي نفسه. فإذا لم ننس حجم الإنفاق اليومي على القوات التي لا تزال تحتل ولا تزال تماطل في الانسحاب من لبنان، فإن منطق الواقع يظهر - وبوضوح تام - أن استمرار الدعم الأمريكي، المنظور والمستور حين يتيح للشعب الإسرائيلي أن يعيش هذا المستوى من الرغد والرفاه، فإنّه أيضاً الذي ظل يتيح لإسرائيل أن تقوم بجميع أعمالها العدوانية على اختلاف أنواعها ومستويات أو حجم خطرها طوال عقود من السنين. |
والدعم الذي قالت الإدارة الأمريكية إنها لن تمد به إسرائيل، هو في حدود المعونات (الإضافية) فقط، أما مبالغ الدعم الأساسية والمقررة أصلاً، فإنّها مستمرة ولم يطرأ عليها أي تغيير، ولندرك حجم هذه المعونات الإضافية، وأثرها على اقتصاد ومستوى معيشة الشعب الإسرائيلي يكفي أن نسمع أن شيمون بيريز، ينذر الاقتصاديين في إسرائيل، بأنهم (يواجهون مشكلة فورية وخطيرة وملحّة إذا لم يتحرّكوا بشكل أسرع). وهذا إلى جانب التعقيب الصريح على الرسائل الأمريكية الذي أفضى به مساعد رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقال فيه: (إنهم لا يتذكرون أن واشنطن قد تدخّلت إلى هذا الحد في شؤون إسرائيل). |
وقد يأخذ البعض، هذا الموقف الأمريكي الفريد والأول من نوعه، على أنه بادرة ضغط تمارسه أمريكا لصالح قضية الشرق الأوسط.. وأنه نوع من الالتفاف على تعنّت إسرائيل، بأسلوب مدروس ومقصود.. ولكن هذا ما ينبغي أن نستبعده تماماً، وأن لا نعلّق عليه أية أهميّة بالنسبة للموقف الأمريكي من قضية الشرق الأوسط.. لأن الامتناع عن تقديم المعونات (الإضافية) ليس أكثر من عملية (ترشيد) للاقتصاد أو الإنفاق الإسرائيلي، يمكن أن تمارسه أمريكا كأجراء (داخلي)، مع أية ولاية من ولاياتها. |
ولكن.. قد يكون من الملائم أن نقول لأمريكا، إن تجربة موقف كهذا مرة أخرى سوف يكشف لها المزيد من حقيقة إسرائيل، كدولة، لم تمارس قط، طغيانها وجرائمها، وغطرستها إلاّ لأنها ظلّت تعتمد على أن هناك من يدفع تكاليف جميع جرائمها.. على أن هناك من يدفع حتى نفقات الرغد والرفاه ومستوى المعيشة المرتفع الذي يعيشه الشعب الإسرائيلي.. وهو.. دافع الضرائب الأمريكي المخدوع.. بل والمسكين أيضاً. |
|