شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وقفة مع العيد
ولا أجهل، أن الذين يعيشون هذا العيد، وكاتب هذه السطور منهم بالطبع، يستثقلون أن تكون لأي كاتب نظرة أو وقفة، تخلو من مشاعر الفرحة والبهجة، التي قد لا يوجد ما يمنع أن تبلغ حد (الزغرودة)... وأعترف أني أميل إلى أن أرضي القارئ، وأن أشعره بشيء من المشاركة الوجدانية، وهو يستقبل كل ساعة من ساعات أيام العيد، بتخطيطه للطريقة أو الوسيلة التي يملأ بها فراغ هذه الساعات، والأرجح، أن أقرب الوسائل هي تلك التي يتيح الوصول إليها، ((الظرف الاقتصادي))، الذي يعيشه مع الأسرة، إذا كان قد بلغ المرحلة من العمر التي يكوِّن عندها أسرةً، فيها الزوجة، والأطفال. وعندما أصل إلى ((الظرف الاقتصادي)) تستوقفني الأخبار التي تنشرها الصحف، عن الأعداد الضخمة، التي يزدحم بها مطار الملك خالد الدولي في الرياض، ومطار الملك عبد العزيز في جدة، من الذين يستقبلون العيد ببرامج الرحيل إلى المنتجعات (المعروفة) في الشرق الأوسط - وهذه لمتوسّطي الدخل - بينما المنتجعات البعيدة، في أوروبا، وجنوب شرقي آسيا، وربما أميركا أيضاً، تظل من نصيب أولئك الذين يمكن أن نصفهم بأنهم ذوو الدخل (غير المحدود).
وأقول: لا بأس، بالرحيل، على أية حال، وإلى أي منتجع في الأرض، ثم التفت إلى الذين لا يخططون ولا يفكرون في الرحيل، أو حتى في الخروج من المدينة، إلى ما حولها من المتنزهات، والمنتجعات، وأطرح على نفسي أولاً، ثم على هؤلاء (المرابطين) معي سؤالاً عن (معنى العيد) بالنسبة لي ككاتب، أو مشتغل بالأدب وطلب العلم، ثم بالنسبة للأخوة المرابطين هؤلاء؟؟؟
أما بالنسبة لي - ولأمثالي من الكتاب والأدباء - وأسميهم أحياناً (رجال الفكر)، فالأرجح، أننا في الأيام القليلة التي تسبق العيد، نشعر به يدبُّ، أو لعله (يَرقِل) فتسبقنا الحافظة، التي اختزنت القليل جداً من شعر المتنبي، بمطلع قصيدته التي هجا بها كافور منذ أكثر من ألفٍ من السنين وهو:
عيدٌ، بأيةِ حالٍ عدتَ يا عيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديدُ
ومنها:
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئاً تتيمه عينٌ ولا جيدُ
يا ساقييَّ أخمرٌ في كؤوسكما
أم في كؤوسكما همُّ وتسهيدُ
أصخرةٌ أنا؟ مالي لا تحرّكني
هذي المدامُ، ولا هذي الأغاريدُ
إذا أردت كميتَ الخمرِ صافيةً
وجدتُها وحبيبُ النفس مفقود
ومثلي في هذه المرحلة من العمر، قد ينطبق عليه أكثر ما في الأبيات الثلاثة بعد المطلع الذي لا يزال يكمن في ذاكرة الألوف، ممّن قرأوا المتنبي، أو حفظوا له بعض قصائده في تلك الأيام التي مضغها الزمان من أيام الصبا والشباب... أما عن حبيب النفس (المفقود) فما أكثر من أطبقت عليهم اللحود من الأحبة ورفاق المسيرة... ثم ما أعجب أن يطبق على ذكراهم أيضاً ركام الأيام والسنين، بحيث يدهشني أحياناً، أن يعجز - حتى العيد - عن التذكير بهم. وركام الأيام والسنين هذا، ليس مجرّد تراكمها، وإنما هو ما تزدحم وتُشحن به ذاكرة المرء من دفق المعلومات، وقد أصبحت تجد سبيلها إلى الذهن، عبر الفعالية المتواصلة من الراديو، والتلفزيون، والفيديو ومعها هذا (الفكس) الذي يسَّر لكل من يريد الاتصال متسائلاً أو مستفسراً، أو مُمِداً بالمعلومة، في كل ساعة أو دقيقة من الليل أو النهار. وتلك - لعمري - صورة بشعة، من أعاجيب النفس الإنسانية، أو هي (نفسي أنا) وحدي، التي يضايقني أنه يسعها، أن تعايش الماضي الممتد مئات أو ألوف السنين في التاريخ، بمختلف أحداثه ودوله وصراعات القوى فيه، ثم في تاريخ الأدب العربي أو العالمي بالكثير من مراحل تطورهما، والأكثر من رجالهما، بينما تعجز - إلى حد مخجل - أن تعايش - ولو للحظات - أولئك الأصدقاء ورفاق المسيرة، وزينة أيام الصبا والشباب... بل وأحباب (القلب)، وربما بمعنى أدق وأبعد من الحبيب الذي كان في ضمير المتنبي، وهو على الأرجح - عندي -: (سيف الدولة الحمداني) الذي لا ننسى كم أبدع المتنبي في مديحه، وكم تعلّقت به آماله في (المجد)... ولم يكن هذا المجد بالنسبة له إلاّ موقع (سُلطوي) مهما كان صغيراً ولو حتى في قرية من قرى حلب وما حولها من الرقعة التي كان يسودها حكم سيف الدولة في تلك الأيام... وقد لا يجانبني الصواب، إذا زعمت أنه وجدَ الفرصة للتدفق بحنينه إلى ساحة سيف الدولة، وهو في ساحة (كافور) الذي لم يجد له وصفَ هجوٍ مقذع أبشع من قوله:
من علم الأسود المخصيّ مكرمة
أقومُه البيض، أم آباؤه الصيد
أم أذنُه في يد النخّاس داميةً
أم ((قدره)) وهو بالفلسين مردود
والسخرية اللاذعة في (آباؤه الصيد أم آباؤه البيض)، وكافور يعلم أنه ليس سليل قوم (بيض) ولا آباء ((صيد)).
ولكن، ترى ماذا فعل الله بالأخوة المرابطين، وقد جمح القلم فتركهم حيث هم من المدينة التي يعيشون فيها؟؟؟ إنهم - عندي - النموذج الفريد في مجتمعنا... ولكن ماذا سوف يصبحون عندما يتاح لهم - إن شاء الله - أن يصبحوا من أصحاب الدخل (غير المحدود)... أين نجدهم في إجازة العيد أو غيرها من الإجازات... ربّما في أوروبا وأميركا... بل ربّما في (القمر) وما وراءه من الكواكب والنجوم، التي سمعنا أن الولايات المتحدة، ومعها الاتحاد السوفيتي، ترسلان إلى الفضاء الخارجي مدناً، تتيح لمن يشاء من (أصحاب الدخل غير المحدود) أن يحجزوا في فنادقها ومنتجعاتها غرفاً، وأجنحة تتوافر فيها كل ما لم يسبق أن توافر في الموجود من الفنادق في الأرض.
وبعد:
فلا أخفي أني أجد للعيد فرحتَه في نفسي، وأطرب لأهازيج الأطفال حولي، وأنا أرمق أحفادي، ومعهم أطفال الأصدقاء والأقارب والجيران... ولكن هذه القوقعة التي أقبع فيها طوال سنين مضت، إذ تتيح لي أن أسمع، وأستطيب، ما أسمع وأرى أحياناً، حين أمد رأسي - كما تفعل السلاحف، وهي في قوقعتها، فإنها - هذه القوقعة - تختزن في تجويفها، أصداءَ أعوام خلت، كان فيها الكثير البعد من ذكرياتٍ يخيّل لي أحياناً أنها تشكو وتنوح، فلا أملك إلا أن أردد:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديد
 
طباعة

تعليق

 القراءات :676  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 85 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج