شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
لعبة تزوير التاريخ
وهي لُعبة يتهم بجرمها، - وفي نفس الوقت يمنح الثناء والتقدير للبراعة في إتقانها، وتمريرها على جماهير المعنيين باستنكار ما وراء الأحداث، التي يدونها المؤرّخ، في مجتمعه المحدود، أو في المجتمعات البشرية التي يرحل إليها، كما كانت الحال فيما قبل القرن العشرين... أو قبل تفجر ينابيع الاتصالات الحديثة، التي انتقلت معها عملية التدوين من قلم الكاتب، إلى أقلام محرري الأخبار والعاملين على جمعها وحشو أفواه المذيعين، في الراديو والتلفزيون بها في لحظة حدوثها.
ولكن مع هذا الطارئ على مهمة أو عمل المؤرّخ، فقد كان له سبيلُه إلى أن يدوّن نفس الأحداث، وأن ينشرها كتباً أو محاضرات، أو مقالات، ولكن بإضافة ذكيّة، هي التعليق والتحليل الذي يتيح له أن يقول للقارئ ما يظل - في كثير من الأحيان - تزويراً يسوّغه أن الحادث أو الشخصية في هذا الحادث، لها مجموعة من شرائح المجتمع الكارهة أو الحاقدة، أو ربما لها في نفس الوقت مجموعة أخرى معجبة، محبة... تلك ترى أن الشخصية تستحق أن توضع على المشرحة وأن تستخرج أحشاؤها، وتلافيف دماغها والمشرِّح هو المعلق المحلل، الذي ينشر ويعرض ما يرضي مشاعر الكراهية والحقد، أما الأخرى - المعجبة المحبة، فترى أن الشخصية، قد ظُلمت وانتُهك أو ابتُذل كل ما بذلته من جهد لصالح المجتمع التي كان يديرها في كيان هذا المجتمع. وإن من حق المعلق والمحلل أن ينصفها، وأن يتسلل إلى الأقبية والأنفاق والخزائن، ليظهر الحقائق التي - إن لم تُعدِ للشخصية كرامتها - فإنها تعطي المعجبين والمحبين، ما يرضي مشاعرهم، ويطمئنهم إلى أنهم لم يكونوا منحازين إلى خطأ ولا متحزبين لوهم.
وفي الحالين - بالنسبة للمؤرّخ، الذي انتقل إلى التعليق والتحليل - يظل في نفق المتهمين بالتزوير والتلفيق، والجرأة على الحقيقة. فإذا حاولت أن تلتمس الأسباب التي تهبط بالكاتب (المؤرخ أو المعلق أو المحلل) إلى هذا الدرك من الحقارة والصغار، فلن تجد إلا سبباً هو الأهم والأكثر فعاليةً وتأثيراً، وهو ما أسميه (استجداء الشخصية بطل الحادث) وهو استجداء من نوعيةِ السيفِ ذي الحدين... بمعنى: أن الثناء والإعجاب وإغداق سجايا وخصال البطولة والقدرة على حادث وشخصية ما في عهد ما فيه - بالنسبة للكاتب وهو المؤرخ من الجدوى (رضاً أو عطاءً أو تقريباً). كما أن القدح والاستلاب واقتناص الأخطاء والمثالب، على حادث وشخصية أخرى في عهد ما، فيه بالنسبة للكاتب أو المؤرخ، نفس الجدوى من الرضا أو العطاء أو التقريب الخ... لأنها (القاعدة الذهبية). التي تتلخّص في أنك تمدح الشخصية وتثني عليها، فلك العطاء والرضى... وتقدح في الشخصية التي تعلم أنها (انتهت) وأن إظهار مساوئها، يدعم الشخصية التي أغدقت عليها ما أغدقت من المديح والثناء، وعندئذٍ فإن لك أيضاً نفس القدر من العطاء والرضى.
وأنا أكتب هذه الكلمة اليوم بعد أن غُصت لبضعة أيام، في تاريخنا الإسلامي العربي وفي ما فاضت به قرائح أعاظم شعرائنا، في العصرين الأموي والعباسي، إلى بداية العصر العثماني، لأجد من أغدقت عليهم المدائح، التي لم يستحقوها قط... ومن دُلقت على أم رؤوسهم أنتن الأقذار من السخط والاحتقار، وهم لم يستحقوها إلا إرضاءً لخصومهم.
وتلك مهزلة من مهازل وجودنا طوال أربعة عشر قرناً من الزمان، باستثناء عهد النبوة والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ولا بد أن أستثني من عهد الخلفاء، فترة من عهد سيدنا ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، الذي كان في انحيازه إلى بني عبد شمس بداية ما شهده التاريخ الإسلامي العربي ولا يزال يشهده حتى اليوم من اضطرابات وزلازل وأهوال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :683  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج