ورحل إحسان عبد القدوس |
لا حاجة بالقراء إلى أن أذكر الظروف التي أقمت فيها في القاهرة، في تلك الفترة التي كانت قد بدأت تهب فيها رياح التغيير السياسي، الذي عجزت فيه أجهزة الحكم، أن تعمّق نظرتها، وأن تتجاوز بإدراكها الأبعاد القصيرة المحدودة المماثلة، إلى الإمداء البعيدة التي كانت تفور وتتفاعل، ولكن في (قمقم) عرف ساسة تلك الأيام كيف يحكمون إغلاقه بغباء أشد كثافة من طَمْي النيل عندما يجف ويكاد يتحجّر. |
وبطبيعة الحال، لم تكن لي علاقة من أي نوع بالأحداث، ولكن رغم ذلك كانت هناك علاقة التفاعل مع الكوارث التي كانت تتلاحق على عالمنا العربي، في نضاله مع الاستعمار، ومصر في المقدمة، وموقعها الاستراتيجي من فلسطين التي احتواها وعدُ بلفور من جهة وفتحت بريطانيا باب الهجرة على مصراعيه ليهود العالم، يتسلّلون إليها (سراً) تغمض بريطانيا عينيها عنه، تحت غطاء التحديد الذي تُعلنه رسمياً، ولكنها تسمح به تسلُّلاً، (مسلّحاً) استعداداً لمعركة أو معارك مقررة ومحسوبة، ومعروفة النتائج لدى المتآمرين على الفلسطينيين. |
وكنت - أيامها - ((زبوناً)) دائماً لمقهى في أول شارع قصر النيل اسمه (اللُّوفُر)... يديره يوناني عجوز، كانت له براعته في إغراء من يقصد مقهاه مرة واحدة بالعودة إليه مرات ومرات وتتلخص البراعة في تَودده إلى الزبون، وتقديره لنوع مزاجه، الذي ربما يستوعبه من مظهر الزبون، وسنِّه... وأيضاً - وهو الأهم - من الكتب أو الصحف التي يدخل وهو يتأبطها... فهو زبون مثقّف: - طالبٌ... كاتبٌ... محام... متقاعد (على المعاش)... ملاّك متواضع الخ... |
وكان مشواري إلى (اللوفر لا بد أن يمر بشارع كان يسمى أيامها (شارع فؤاد)... وهو الشارع الذي كان يتألق نظافةَ أرصفة... ويزدهر بالرائحات الغاديات على متاجره الضخمة، ومنها (شملا) وشيكوريل، ثم مقهى (الأميركيين) الكبير... وفي زاوية منه مقهى البُن البرازيلي... الذي أجد على جانب منه بائع صحف اليوم ومجلاته... ومع أن الأهرام، وأخبار اليوم التي كانت قد ظهرت بانفجاراتها الرهيبة، لا غنى عنهما، إلاّ أن مجلة (روز اليوسف) كانت (الأولى) التي ألتقطها، وأضعها تحت أبطي قبل غيرها. |
وأدخل (اللُّوفُر)... لأجد الإغريقي العجوز، يسرع بي إلى الطاولة ذات الكرسي الواحد بعيدة عن الشارع وضجته إلى بابه الخلفي، حيث الإضاءة الملائمة... والهدوء... وفنجان القهوة مع كوب الماء بالغ النظافة والبريق، إذا لم يحمله إليّ هو بنفسه، فابنته في ميعة الصبا... ولكن هذا يحدث في الأيام التي تكون فيها هي في إجازة (الأحد). |
وأعكف على صفحات روز اليوسف، حيث يستوقفني خبر هنا وآخر هناك، ثم كلمات من (نار) ليست كلها بقلم إحسان عبد القدوس... فقد كانت والدته السيدة روز اليوسف لا تعفي نفسها من متابعة الأحداث والتعليق عليها، أو على خصومها من كبار السياسيين، بل ومن كبار المسؤولين في مناصبهم... وبسلطاتهم القادرة على الكثير من تصرفات أقلها مصادرة العدد ومنع توزيعه، مما يتيح للمجلة (خبطة) انتصار تفسح المجال للتهافت على ما يفلت من المصادرة، فتباع النسخة بأضعاف ثمنها. |
وإلى جانب ما تكتبه السيدة روز اليوسف، كان هناك العديد من الكتاب الشبان يتصيدون الأخبار عن تجاوزات الوزارات والمصالح، وهذا مع ذلك الكاريكاتير الذي يكفي وحده أحياناً عن سلسلة من المقالات. |
ونحن نعلم إن إحسان هو ابن روز اليوسف (واسمها الحقيقي فاطمة)... التي كتب تاريخها الحافل المثير الدكتور إبراهيم عبده أستاذ الصحافة في الجامعة المصرية رحمه الله... وإنها المرأة (الجميلة) التي اشتغلت بالتمثيل أولاً... وكونّت لنفسها فرقة، خاصة، أخذت تنشر في الصحف عن مسرحياتها وعندما اكتشفت أنها تدفع لنشر إعلانات مسرحياتها مبلغاً كبيراً... قررت أن تصدر هي جريدتها التي تنشر إعلانات مسرحياتها... فإذا بالجريدة تنتشر انتشاراً واسعاً... لتصبح يومية يتهافت عليها الجمهور ليس لما يجده عن مسرحها وإنما لما تنشره من أخبار عن تجاوزات وأخطاء أجهزة الدولة بأسلوب من (نار)... ثم لتصديها لحزب (الوفد) وهو أعظم الأحزاب وأقواها... ومما يحكى أن خصومتها للوفد بلغت حد هجوم الجماهير على الدار التي تصدر الصحيفة ومحاولة اغتيالها. |
وقد يكون من المفارقات، في نشأة وحياة إحسان، أن والده كان من هواة التمثيل ودفعته الهواية إلى الاحتراف، فاشترك في تمثيل عدد من الأفلام، ولأنه كان خفيف الروح مرحاً سمّوه (كُنْدُسْ) ويظهر أن روز اليوسف كبرت عليه وشمخت عنه بعد أن أصبح لها ذلك الشأن السياسي، فانقطعت عنه بالطلاق ولها منه إحسان وأخته التي لا أذكر اسمها. والدكتور إبراهيم عبده استوعب سيرة حياتها إلى أن ماتت ومشى وراء نعشها زوجها ((الثاني عشر))، وكان عمره لا يزيد على عمر ابنها، ولكنه كان مثالاً للوفاء لها والحزن على رحيلها... كان يبكي ويعول طوال الطريق إلى مثواها. |
ومن هنا فإن إحسان، حين أبقى اسم أمه للمجلة، كان وفيّاً لها من جهة، ولم يكن هناك اسم يمكن أن ينافس (روز اليوسف)... وهي المجلة التي كانت واحدة من عمالقة الإنجاز الصحفي في مصر. |
وفي ذلك المقهى - اللُّوفُر - قرأت مقالات إحسان عن فضيحة الأسلحة الفاسدة التي كانت أهم سبب في هزيمة الجيش المصري أمام شراذم الإرهاب الإسرائيلي، ومع هزيمة مصر كانت هزيمة الدول العربية، أو قبولها الهدنة، التي كانت نكبة العمر والتاريخ... إذ ظهرت دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وهاجر الفلسطينيون، عن أرضهم أمام الإرهاب، وعلى وعد من الدول العربية بأن تنتهي الهدنة، ويتحقق للعرب النصر الذي كان من مخذّلاته أو موانعه تلك العبارة المشهورة التي أوقفت تقدم القوات إلى تل أبيب، وهي على مرمى المدفع الرشاش، وهي (ماكو أوامر). |
واقتحم إحسان عبد القدوس الميدان السياسي بمقالاته عن الأسلحة الفاسدة، وما ترتب عليها من نتائج معروفة... ليس أقلها ثورة مصر عام 1952... والتاريخ لا بد أن يحسب له إنه الكاتب الذي استطاع أن يزيح الستار عن فضائح ومخازي الحكم بصراحة قيل إن (أمه) روز اليوسف كانت تباركها وتزيد أسلوبها اشتعالاً. وقال التاريخ، أو ينبغي أن يقول إنها كانت وراء تلك المتغيرات الضخمة. |
ومع روز اليوسف في يدي، على الطاولة الصغيرة ذات الكرسي الواحد إضافة إلى كتاب أو كتابين أعكف على قراءة فصول منهما كنت أقضي الوقت من الصباح إلى الثانية، حيث أجد ذلك الإغريقي العجوز، قد أعد لي طبق الغداء الذي يندر أن يتغيّر، وهو حبات صغيرة من البطاطس المسلوقة مع قطعتين صغيرتين من (البفتيك)، لا أذكر أني أكلت ألذ منهما حتى اليوم. ثم كوب الشاي المتقن... ويحدث أن أكون - مع كل هذه (العنطزة) - مفلساً، فأكتفي بإشارة يفهم منها الخواجة أن يقيد على الحساب، الذي يدفع بعد أسبوع أو حتى شهر. |
ولكن الغداء الأهم، والذي يظل يملأ المشاعر والذهن، بل والقلب، هو تلك المواد التي قرأتها في روز اليوسف والتي كنت أعايشها في غرفتي ساعات أطيل خلالها تأمل المستقبل البعيد. |
ولم تذهب جرأة إحسان وصراحته، دون عقاب، وملاحقة ومحاكمات، ثم السجن... وكانت (روز اليوسف) - الأم - والمجلة هي التي تتحمّل الطائل من نفقات المرافعات، في المحاكم، وإن كان المحامون الذين تصدوا للدفاع عنه في قضية الأسلحة الفاسدة، متطوّعين، رفضوا أن يتقاضوا أتعاباً من أي نوع... بل دفعوا هم الغرامات التي يحكم بها القضاء. |
وكان ظهور الضباط الأحرار، ثم ثورة 1952 خليقاً بأن يكافىء إحسان، ليس بمنصب من المناصب التي كانت توزع بلا حساب، وعلى الأخص عندما بدا للجمهور أنه أصبح من أخلص أصدقاء الرئيس عبد الناصر... وإنما بما هو أنسب، وأكثر تلاؤماً مع كاتب تدين له الثورة دون شك، كوسام أو شهادة تقدير إضافة إلى المناصب الصحفية، التي اختير لها ولكن صراحة إحسان لم تتراجع بعد الثورة، وانتصار عبد الناصر الساحق الماحق... فقد كتب إحسان مقاله الشهير (ارجعوا إلى ثكناتكم وربما كان هذا الكلام مما نادى به (الرئيس محمد نجيب) رحمه الله... ثم بضع مقالات، تتناثر حولها كلمات تحت عنوان العمود الذي أظنه لا يزال موجوداً وهو (أسرار) والعمود الآخر (حاول أن تفهم)... يفسح إحسان لكتابها المجال آخذاً على عاتقه ما يستوجب المساءلة وربما العقاب بألوانه وأنواعه التي تفنّن فيها الحكم، إلى حد ربما لم يسبق له مثيل، وأقله (الرفت) و(قطع الرزق). |
وذهبت العلاقة الوطيدة بين (الريس) وبين إحسان إلى منعطفات وملفات المخابرات والاستخبارات، وسجن إحسان بأمر الريس نفسه، في السجن الحربي، وفي إحدى أشد زنزاناته إرهاباً مع ممارسات التعذيب المتوحّش، شأنه في ذلك شأن من وصفوا بأنهم (أعداء الثورة والمتآمرين عليها). وكان التعذيب قاسياً متوحّشاً بكل معيار، ولكن إحسان لم يستثمره بعد خروجه من السجن... ولم يتخذه ذريعة لهدم الثورة... حتى بعد هزيمة الخامس من يونيو عام 1967... ربما لأنه لم يكن بورجوازياً، أو إقطاعياً، أو ربيب أسرة من الباشوات... ومن هنا كان لا يزال يؤمن أن الثورة قد جنحت وأخطأت، وانحرفت... ولكنه يؤمن في نفس الوقت بأنها كانت السبيل إلى أن تخرج مصر من عهود الظلام التي عاشتها طوال قرون... ولعلّه حين أسلم آخر أنفاسه، كان مطمئناً إلى أن مستقبل مصر قد بدأ في ذلك اليوم من عام 1952، وإن ما تعيشه اليوم في عهد الرئيس محمد حسني مبارك، هو مرحلة من المشوار. الطويل... ولكنه هو الطريق إلى سيادة مصر، ونهضة مصر ومستقبل مصر. |
وكان إحسان كاتباً، قبل أن يكون ذلك الصحفي الشاعر... فلما فاجأته الثورة التي اقتحم معاركه الأولى من أجلها، بالسجن والتعذيب... لم يكن أمامه إلا أن يكتب... فكتب قصصه القصيرة ورواياته، التي اقتحم بها واقع شريحة من المجتمع، كان عليه أن يظهرها على ما كان يدرك أنه حقيقتها، وأن يواجه هذه الشريحة بانفلاتاتها واستهتارها... ويمكن أن يؤخذ عليه أنه ذهب إلى أبعد مما ينبغي... ولعلّ الإقبال والرواج الذي وجدته هذه المعالجات الخادشة للحياء أحياناً... كان إغراء، إن كان لا يُعذر إحسان على تخاذله عن مقاومته، فإنه يعذر، لمواجهة مطالب العيش في بلد تنوعت فيه سبل الوصول إلى هذه المطالب، وأقلها وربما أبعدها عن الاستهتار ما كتبه إحسان في رواياته... التي لا ينكر في نفس الوقت أنها كانت لا تخلو من العظة والعبرة... ونظرة الأسف والاستنكار. |
|