شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أن تكون موجوداً... لا يعني أنك موجود
بين ما يسمّى (المسوَّدة) من أوراقي القديمة، التي اختزنتها الأضابير طوال أكثر من عشر سنوات، وجدت كلمة بالعنوان الذي يُروِّسُ كلمة اليوم... ولا أدري إن كانت هذه الكلمة قد نشرت في أي جريدة، من جرائد تلك الأيام، أم أنها ظلّت (معوّدة)، فلم (تُبيَّض) ولم تر النور - إذا كان النور هو النشر في الصحف أو بين دفتي كتاب... وأعترف أني، أعجبت بالكلمة، وبدا لي أني كنت - أيامها - أقدر على ما أسميه (إبداعاً) وإن لم يكن شعراً موزوناً مقفّى أو حُراً... وتقول الكلمة:
أن تكون موجوداً على ظهر الأرض لا يعني بالضرورة أنك موجود فعلاً... وحتى لو كنت تتمتّع بكل ما تحب أن تتمتَّع به من صحة ونشاط، وحركة واضطراب، وأخذ ورد، وانسياح يمتد ألوف الكيلومترات طولاً وعرضاً، وفي جميع الاتجاهات... بل حتى لو كنت تعيش مستوى من الرغد والرفاه، والتدليل والبلهنية... وفي متناول يدك أن تتصل بمن تشاء في هذا العالم من أقصاه إلى أقصاه... حتى لو كان كل ذلك يتم، دون أي نقص ممّا ألفت أن يتاح لك، فإن ذلك لا يعني أنك موجود فعلاً.
ذلك لأن وجودك الفعلي لا يتم إلا إذا غمرك إحساس باتصال الوشائج بينك وبين (مَنْ) تحب، وما تحب... بينك وبين هذا العصفور الذي ألفتَ أن تراه يتنقل بين موقع وآخر، ولا يبخل أن يسمعك جملةً من موسيقاه... أو بينك وبين هذه القطة، التي لا تكاد تراك حتى تستيقظ من تهويمها الطويل، فتنهض لتتمطّى وتتثاءب، وكأنها الغادة الحسناء تستقبل فارسها بدفقة من الدلع والدلال... بينك وبين المقعد العتيق الذي ظل يمتص وعْثاءَك وشحنةَ متاعبك أعواماً مديدة من العمر، بحيث أصبح وحده المتخصّص في معرفة ما عانيت في يومك، وما أنت محتاج إليه من استرخاء وتهويم... ثم بينك وبين هذه الآلة الكاتبة، التي طالما سهرت معك، وتحت أناملك تسجّل ما يزدحم به ذهنُك من أفكار، لا يعنيها في شيء أن تكون ذات وزن، وقدرة على الحياة، أو أن تكون مجرد هذْر وهراء... بينك وبين هذا المصباح الذي يحتويك ومعك خيط الدخان يرتفع من السيجارة التي تكاد لا تنطفئ إلا لتشعل أختها، فإذا تنفس الفجر في نهاية ليلة لا تدري كيف التهمها الزمن، ونهضت عن مكانك، وجدت ذلك الخيط الرفيع من الدخان قد ملأ فضاء الغرفة رغم كل ما يمتصه جهاز التكييف... وشحن رئتيك إلى حد يكاد يكتم أنفاسك... ولعلك لم تنس قط ما ينذرك به الطب والأطباء من علاقة هذا الدخان بمرض السرطان... ولكنك لا تنسى أيضاً إحساسك باتصال الوشيجة بينك وبينه طوال ما يزيد على نصف قرن من الزمان فتسقط ببلاهة وغباء - أو ببراعة وذكاء - حساب كل خطر... فتمد يدك إلى ((الولاعة)) تشعل بها سيجارة تظل بين شفتيك، حتى وأنت تتوضأ للصلاة.
أما (مَنْ) تحب فإنك لا تشعر بنضوب الحياة وجفافها، بل بوحشة كل فراديسها ومرابع أنسها إلا إذا فارقت من تحب... وحتى معنى الجمال أو أروع صوره وأكثرها سحراً وفتنة وعصفاً باللب، تفقد عنصر الحياة فيها حين (تغيب هي) أو يغيب عنك من تحب. وقد ينبغي أن تبدّد انفعالك أو دهشتك، وأنت تسمع عن (زوج) غادةٍ من ربّات الحسن، تشع فتنة وتسطع سحراً، وتموج دلاً وتيهاً... فلا يربط هذا (الزوج) بهذا الكنز من الجمال سوى التزامات (العقد الشرعي) - وقد لا يفي بها، ويلتمس السبل للتحلّ منها، لأنه (يحب)... والتي يحبها أقرب إلى القبح، ولكنه يحبها بمنطقه الخاص... ومعاييره الخاصة، فهو الشقي إذا غابت عنه، وهو الضائع إذا لم يشعر بوجودها حوله... وهو الحزين متفطر القلب، ممزّق الأعصاب، إذا ألمَّ بها عارض من وعكة أو طارئ من الأحداث.
وبعد،
فإني لأتساءل عن باعثٍ لهذا الكلام، ولا أجد إلاّ أنها تهويمات هذه المرحلة من العمر التي تميل فيها النفس إلى الاستقرار والاسترخاء... ويستبد بها الشغف بما و(مَنْ) أحبّت وألفت إلى الحد الذي يجعلني لا أشعر بالوجود، إلا إذا تحقق لي هذا الذي خبطت فيه من مشاعر الوجود.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :954  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج