لهجة الحجاز - سيدة اللهجات العامّية |
وهذا ما وجدت نفسي أقرره كحقيقة يغفل عنها الذين تخطر لهم معالجة موضوع اختلاف اللهجات العامّية - أو هي الشعبية - في بلدان العالم العربي. والذي أثار عندي الرغبة في المشاركة في هذه المعالجة، هو الأستاذ علي خالد الغامدي الذي قرأت له في أعمدة الأيام السبعة في جريدة الرياض، تعليقاً على كلمة الأستاذ ضياء الدين بيبرس في مجلة الكواكب المصرية، الذي يقول الأستاذ علي خالد الغامدي إنه تناول فيه موضوع اللهجات المشرقية والمغربية والخليجية... واعتبر اللهجة المصرية (سيدة اللهجات) ونادى باعتمادها في ظل غموض و(ألغاز) اللهجات العربية الأخرى. |
ومع رشاقة ولباقة تعليق الأستاذ علي خالد الغامدي، وما فيه من نكهة الدعابة، قد بد لي كأنه يذهب إلى ما يشبه التسليم أو الموافقة بغموض اللهجات على مقولة الأستاذ بيبرس، إلى جانب ما يكاد يكون موافقة أيضاًَ على أن اللهجة المصرية هي سيدة اللهجات. |
وتخونني الذاكرة للأسف، فلا أستطيع أن أذكر متى وفي أي صحيفة كتبت منذ أكثر من خمسة عشر عاماً أن اللهجة الحجازية - وأعني لهجة حواضر الحجاز الكبرى، وهي مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة وينبع والطائف، هي سيدة اللهجات العربية على الإطلاق. وليس ذلك فقط لخلوّها من الغموض والألغاز التي يأخذها الأستاذ بيبرس على اللهجات المشرقية والمغربية والخليجية بل لأنها الوحيدة الخالية تماماً من سوءة تغيير مخارج الحروف هذا التغيير الذي تلتزمه اللهجة المصرية... وإني ليزحمني الضحك والسخرية حين أسمع (المثقفين) من إخواننا المصريين يبلغ بهم تغيير مخارج الحروف حد أن تسمعهم يقولون (الحئيئة) يريدون (الحقيقة) و(آرِب) يريدون (قارِب) و(الآضي) يريدون (القاضي) وهذا إلى جانب ما أسميه (الجيم المصرية) التي شد ما تضحكنا حين ينطقون (عبد الجواد) لنسمعها (عبد القواد)... ثم هذه (الشين) التي لا بد أن تدخل وتستعمر ما لا يحصى ولا يعد من الكلمات في كل حوار، بحيث نسمعها في قول أحدهم للآخر أو (الأخرى): (أنا ما شفتش حاجة) وليس أشهر من مسرحية عادل إمام (شاهد ما شفشي حاجة). |
وتتميّز اللهجة الحجازية، بأنها خالية من سوءة تغيير مخارج الحروف باستثناء (القاف) التي تلفظ (جيماً مصرية) ولكنها تأتي مقبولة وأكثر قرباً من القاف في الفصحى، وكثيراً ما قلت، إن اللهجة في حواضر الحجاز، أقرب اللهجات العربية الدارجة إلى اللغة الفصحى، وبطبيعة الحال بدون الالتزام بقواعد النحو، ((رفعاً ونصباً وجراً)) الخ... إذ إن هذا الالتزام بالقواعد قد تلاشى، منذ قرون طويلة... وهناك قصص كثيرة أو أخبار تؤكد أن التحلُّلّ من التزامها قد بدأ في أوائل العصر العباسي. |
وتتميّز اللهجة الحجازية، عن جميع اللهجات العربية بأنها خالية أيضاً مما أسمّيه (الإمالة) أو لعلّه (المد المائل) كاللهجة السورية - وعلى الأخص منها لهجة أهل دمشق - ومثلها اللهجة اللبنانية، وإلى حد، اللهجة الفلسطينية والأردنية. كما قد ينبغي أن نذكر القارئ، بالرّقة التي تتميّز بها اللهجة الحجازية إذا ما قورنت بلهجات عربية، تغلب عليها الخشونة وما يقترب من معنى العنف، نتيجة لكثرة تردد حروف بعينها منها (القاف) أو (القاف) أيضاً التي تنقلب في لهجة إخواننا السودانيين (غينا). |
ويتزايد اقتراب اللهجة الحجازية من الفصحى - باستثناء الالتزام بالقواعد - بعد أن كادت تمحي من اللهجة بعض الألفاظ التي خلّفها الحكم العثماني، إذ أصبح من النادر جداً أن تسمع (جي) التي تضاف على سبيل المثال - إلى كلمة (عربة) فيقال (عربجي) و(بوسطه) فيقال (بوسطه جي) و(بويه) فيقال (بويه جي).. |
وكان - ولا يزال - لانتشار الصحف من جهة، وللإذاعة من جهة أخرى الفضل في تهذيب اللهجة الحجازية إلى حد يجعلك تتوهّم أحياناً أن الذين يتحاورون - وعلى الأخص من المثقفين يلتزمون الفصحى. إذ يندر أن تسمع إلا الألفاظ العربية المتداولة في المادة المقروءة. |
وللتلفزيون تأثيره في تهذيب لغة الأطفال في سن الخامسة إلى السابعة، من الذين يلتزمون الصمت، حين يكون الوالد أو (الكبار) يشاهدون ويسمعون نشرات الأخبار أو أقوال الصحف، بحيث يدهشك أن تجد الصغيرة، تقول (أعتقد) و(أتوقّع) و(المنتظر) الخ... |
وقد يستدرجنا الكلام عن اللهجة الحجازية، إلى أن نقف عند بعض المثقفين الذين يلقون حديثاً، أو (كلمة) في الإذاعة وفي التلفزيون... فهم يقرأونه من ورقة مكتوبة، ولكنهم يقعون في أخطاء رهيبة، ليس في التزام قواعد النحو فقط، وإنما في ((نُطق)) اللفظ العربي... ولكن خطر لي أن أنصح هؤلاء بأن يستغنوا عن قراءة النص المكتوب، وأن يلقوا الحديث باللهجة الدارجة، ليجنّبوا أنفسهم الوقوع في تلك الأخطاء المخزية ولا نحتاج أن نذكر أن السبب في هذا الضعف الملحوظ على المثقفين في اللغة العربية هو ضعف وهزال مناهج اللغة العربية - ومنها القواعد - أو أنه ضعف المدرّس، أو كلاهما معاً، وإلا كيف يمكن أن نتقبّل خرّيجاً جامعياً يحمل مؤهّل الماجستير، يتعثّر في إلقاء كلمة. وفي ((نطق)) لفظٍ عربي، ويقع في أخطاء إملائية مخجلة إذا كتب رسالة قصيرة قد لا تزيد على أربعة سطور... وقد لا يكون مما يستسيغه قارئ هذه الكلمة، أن أدخل في تفاصيل رأي سبق أن طرحته، عن الطريقة المثلى للخلاص من هذه العاهة، ونحن أبناء الأرض التي نزل فيها الوحي، وفاحت من أرجائها عطور أئمة اللغة العربية، رواة أحاديث رسول الله صلوات الله عليه. قد يحسن أن أترك ذلك، لكلمة أخرى تستوعب تلك التفاصيل. |
أمّا الأستاذ علي خالد الغامدي، الذي كان له الفضل في التنبيه إلى موضوع اللهجات، الشرقية والمغربية والخليجية، فأني أنتظر أن يدعو إلى اللهجة الحجازية وأن يؤكد للأستاذ بيبرس، أنها هي وحدها سيدة اللهجات. |
|