شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حصاد (الترحال)
ربما يكون بعض قرائي - إن وجدوا هذه الأيام - يستغربون متسائلين: كيف أتيح لي أن أضرب في فجاج الأرض منذ خرجت من المدينة المنورة، مع والدتي وجدّي (للأم) وبقية أهلي إلى ما كان يسمى (أرض الشام) مهجَّرين بأمر (الباشا) في قطار ليتفرغ هو وجيشه للحرب التي شنها عليه أو على الدولة العثمانية، الشريف حسين بن علي، ولورنس ممثلاً لبريطانيا، وخبيراً في تخريب خط السكة الحديدية، قطعاً لوسيلة إمداد (الباشا) بالقوات والذخائر من الشام.. كيف أتيح لي أن أكون جواب آفاق، وخِدْنَ أسفار وترحال منذ السنة الأولى من عمري، وحتى جسور الثمانين، ولم أكتب عن هذا الترحال، وعن هذه الفجاج مع أن أدب الرحلات - كما يسمونه - قد تميز به رعيل من الكتّاب والأدباء في هذا العصر، كما تميز به كبار الرحالة العرب، وربما كان الأقرب منهم إلى الذاكرة: (ابن بطوطة) و (ابن جبير) وذلك الملاح من أوائل علماء البحر ودليل فاسكودي جاما ومفخرة سلطنة عمان (شهاب الدين أحمد بن ماجد).. ولا أخفي عن الصديق الأستاذ محمد عمر توفيق، أني كلما وقعت على ما يكتبه في مجلة الخطوط (أهلاً وسهلاً) عن الرحلات التي ما زال يقوم بها منذ استقال من وزارة المواصلات، أسأل نفسي سؤالين أحدهما: (ما الذي منعني أنا أن أكتب عن رحلاتي؟) والآخر (ما الذي يجعل الصديق الأستاذ يكتفي بسرد مشاهدته العابرة أو العاجلة، دون محاولة التوقف عند الكثير الذي يستحق التعليق، وربما الدراسة من هذه المشاهدات؟ وليس محمد عمر مَنْ يتعذر عليه التعليق، والاستيعاب، الدارس المتأني، بل والمتأنق أيضاً؟).
من جانبي، لا بد أن أقول إني فوجئت بتردد هذا العنوان (صدى الترحال) عندما كنت في غرفتي في (بروكسل)، وأمامي التلفزيون، الذي اقتنعت أن إغلاقه هو أفضل ما يجب أن أفعله، لأخلص من أنواع البرامج التي تعرض على عدة قنوات، ولكن بلغات، ليس بينها أي لغة أفهمها، باستثناء الفرنسية، التي لم يبق في ذهني منها إلا مفردات ما أسرع ما تتطاير قبل أن أذكر معناها، وهنا أسمع أم (ضياء) تقترح أن تشاهد البرامج ولا أهمية للغة عندها، لأنها (كما تقول) تفهم أحداث المسلسل من تتابعها. وبالأخص منها مسلسلات معينة فيها عنصر الدراما المحزنة التي يكون من أبطالها أحياناً أطفال يتعرضون لقسوة وعنف الكبار، كالأم التي تتركهم للأب، والأب الذي يغلق عليهم الباب ويجري وراء الأم الغاضبة الخ.. ولا يسعني إلا أن أخضع.. وأترك الشاشة لها، لأعكف أنا على القراءة.. ولكن ماذا أقرأ؟ كنت قد اصطحبت معي كتابين لم أقرأهما رغم أنهما في مكتبتي منذ سنين. أحدهما: (20 قصيدة حب وأغنية اليأس لبابلونيرودا)، والآخر (خمس مسرحيات، كوميدية وتراجيكوميدية (لفريدريكو جارسيا لوركا)).. وعنّ لي أن أنقل إلى العربية شيئاً من (أغنية اليأس) هذه (لبابلونيرودا). ولا أدري في الواقع لِمَ شدّتني هذه القصيدة أو الأغنية كما سمّاها الشاعر، فأخذت أقرأها، مرة وثانية، ثم شرعت أنقل أبيات البداية فيها، لأجدها تقول:
ذكراك، تفترّ مع الليل الذي يلفّني
والنهر عنيد الإصرار، يهدر، ويدفق مراثيه وأحزانه في البحر
مهجور.. كالأرصفة عند الفجر
إيه.. أيها المهجور.. إنها لحظة الرحيل
* * *
تويجات الزهور الذهبية تجود برحيقها على قلبي
أوه.. يا سراديب الأطلال.. يا توحّش كهف في حطام سفينة
فيك تراكمت الحروب.. ومنك انطلقت أجنحة الطيور
منك انطلقت، ورفرفت أجنحة بأغاريدها
* * *
لقد التهمت كل شيء.. المسافات.. والبحار.. والزمن
كل شيء.. كل شيء غاص في أعماقك
* * *
لقد كانت لحظة السعادة.. عناقاً عاصفاً.. وقبلة
لحظة الطلسم.. توهّجت كضوء فنار، في ظلمات البحر
* * *
رعب الربّان.. هياج غواص أعمى
ترنّح النشوة المتمرد.. للحب..
الكل غريق.. في أعماقك
* * *
تجنّحت روحي الجريحة في الضباب الغرير
ضاع جهد الاكتشاف
فيك.. فيك كان الغرق كل شيء:
وكانت أم ضياء، وبقية أفراد الأسرة على موعد لجولة تسوُّق، أو هو استطلاع ما في أسواق هذا البلد الأوروبي، الذي نزوره لأول مرة.. وخرجوا لأقبع في غرفتي وقد سادها الصمت المطبق لأني أوقفت جهاز التلفزيون وفي ظني أني أستطيع البقاء مع (بابلونيرودا وأغنية يأسه).. ولكن سرعان ما وجدت نفسي أتساءل: (ترى ما الذي جعلني أقتني كتاباً لهذا الشاعر الذي لا يرضى عنه اليمين السياسي في العالم، إذ هو كما تقول المراجع الكثيرة التي عنيت بترجمة حياته، من أعظم شعراء أمريكا اللاتينية، بل ومن أشهر أدباء العالم، ولكنه مرفوض من اليمين السياسي، ومع أنه كان سعيد الحظ، غزير الإنتاج، في بداية حياته، إذ نشر أول أعماله في التاسعة عشرة من عمره، ولم تمض ثلاث سنوات، حتى كانت دور النشر قد أصدرت له خمسة دواوين، وكان هذا نبوغاً، لفت إليه الأنظار، فاختير قنصلاً لتشيلي في (رانجون)، ثم في كولومبو، ثم في باتافيا، وسنغافورة، ثم في بوينس إيريس، ثم في برشلونة، ومنها إلى مكسيكو سيتي، ومع هذا الحظ السعيد، والمناصب المتميزة، وهو ما يزال في عنفوان الشباب، ما الذي جعله يتحول إلى هذا الكاتب الذي يرفضه اليمين، بل قد يرفضه الكثيرون في كل بلد ينحاز لليمين السياسي الذي وقف من الاشتراكية أو الشيوعية، كما عرفنا في الاتحاد السوفيتي والدول الدائرة في فلكه موقف المقاومة والرفض؟
ولا تقول لنا المراجع التي عالجت سيرة حياته كيف وجد نفسه في إسبانيا في فترة الحرب الأهلية.. وما هي المشاهد والأحداث التي عايشها في هذه الحرب الطاحنة ولكنها تقول إنه - كتب قصائده المشتعلة ثورة على فرانكو وجيشه والقوى التي كانت تناصره ومنها ألمانيا (النازية). ومع ذلك فقد عاد إلى تشيلي عن طريق (بيرو) تسبقه شهرته كشاعر ثائر، لينضم إلى الحزب الشيوعي - تشيلي في عام 1945 وينتخب نائباً في البرلمان في نفس العام، ولكن سرعان ما تغيرت الأوضاع فاتهم بالشيوعية، مما اضطره إلى الاختفاء عن الأنظار في عام 1948، ليبدأ ترحالاً طويلاً، إلى الاتحاد السوفياتي، وأوروبا الشرقية ثم إلى الصين الشيوعية. وفي كل انتقال إلى هذه المناطق كان يجد الترحاب وكرم الضيافة، مع إعادة طبع وإصدار أعماله، وعلى الأخص منها قصيدته الكبرى (كانتوجنرال) التي باع الناشرون منها أكثر من مليون ونصف المليون نسخة في بضعة أسابيع. وقد شارك الفنانَ (بيكاسو) جائزةَ السلام في موسكو.. ثم عندما عاد إلى تشيلي منح جائزة (ستالين).
والترحيب به في دول المعسكر الشرقي، أو الدائرة في فلكه، يعني مطاردته، واحتمال إلقاء القبض عليه وسجنه، في الكثير من دول المعسكر الآخر، وعلى الأخص دول أمريكا اللاتينية التي كانت ولا تزال تتقاذف انحيازها ساحة اللعبة بين العملاقين. ولكن، يبدو أن (ساحة الأدب والفن) تختلف ولا تعترف أو تعبأ بما يتحسَّب له أو يحذره هذا المعسكر أو ذاك.. يمكن القول إنها لا تتحسّب ولا تحذر شيئاً، ولذلك فالمداخل إليها مفتوحة، والأضواء فيها ساطعة ترفع المئات من أمثال المشعل الذي يحمله تمثال الحرية في نيويورك.. والترحيب لا ينقطع أو يتوقّف، بعطاء الفكر للفكر.. إذ هو العطاء الذي كان ولا يزال الأقدر على التقدم نحو حلم الإنسان في عالم يسوده العدل، وينتصر فيه الحق، ويحتويه الحب والسلام. فما أكثر ما استقبلت هذه الساحة - ساحة الأدب والفن - من الطيور المهاجرة، أو الشاردة وما أكثر ما أفسحت لها من مجال الحركة والانتشار، لتصل إلى كل ركن في المعمورة، وقد يتعذر أن نحصي المئات أو حتى الألوف من الأعمال الأدبية.. من دواوين الشعراء وروايات عمالقة القصة والرواية، ولوحات الفنون التشكيلية، التي طوّقتها الأسوار الفولاذية في هذا البلد أو ذاك، ولكن ساحة الأدب والفن.. ولنسمّها (ساحة الفكر) - عرفت كيف تصهر الفولاذ، وكيف تفسح الطريق فلا يقف أمام العطاء باب أو سد أو قيد من أي نوع.
وقد لا ننسى (بيكاسو)، المواطن الإسباني الذي طارده فرانكو، لأنه ناصر الثوار في الحرب الأهلية، ورسم لوحته التي دفق فيها روح النضال بين الحق كما يراه وبين قوات فرانكو والمحور.. من ينسى أن الولايات المتحدة الأمريكية ظلّت تحتفظ بها وعندما تقرر نقلها إلى مدريد منذ سنتين، نقلت في طائرة خاصة، وتحت حراسة مشدّدة لتوضع في متحف مدريد، في غرفة من زجاج لا يخترقه الرصاص، مع استمرار الحراسة المشدّدة دون توقف.. كان بيكاسو علماً من أعلام الفن التشكيلي، ولكن (جرونيكا) كانت اللوحة التي استطاعت (ساحة الفكر) أن ترفعها مشعلاً أين منه مشعل تمثال الحرية في نيويورك؟
ولا يختلف الشاعر (بابلونيرودا) عن بيكاسو، في ترحيب (ساحة الفكر) به، حيث لم يبق في العالم من يجهل نيرودا، أو يقرأ له مترجماً إلى كثير من اللغات الحية، بل وإلى لغات ما يسمّى العالم الثالث.. وأعجب ما يبهرنا من قدرة (ساحة الفكر) على تجاوز السدود والقيود، ذلك الترحيب الذي قوبل به في لندن، إذ اختير أستاذاً، ومحاضر شرف لأدب أمريكا اللاتينية، كما منح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكسفورد.
ولعلّ ممّا يفتح العيون، على رحابة صدر (ساحة الفكر العالمي)، أن (لندن الكبرى) حين أقامت مهرجاناً للشعر، استضافت بابلونيرودا، ليقرأ ما يطيب له من شعره.. وكانت إحدى دور النشر في لندن قد أصدرت أعماله الكاملة، في مجلد من 1800 صفحة.
والكتاب الذي أصدرته إحدى دور النشر في إنجلترا، بعنوان (عشرون قصيدة حب وأغنية اليأس) مترجماً إلى اللغة الإنجليزية، ووجدته في حقيبتي في بروكسل كتاب صغير الحجم، ولكنه يتميّز بأن الذي نقله إلى الإنجليزية قد أثبت فيه نصوص القصائد بلغة نيرودا.. كأنّه أراد أن يثبت شيئاً من قدرته على ترجمة النص.. ومن جانبي، فقد توقفت عن الاستمرار في ترجمة (أغنية اليأس)، لأنّ تجربتي الشخصية في نقل الشعر من اللغة الإنجليزية إلى العربية، أقنعتني - منذ زمن طويل - أن النص الشعري يستحيل أن ينقل إلى لغة أخرى، دون أن يفقد الكثير من جماله وروحه وجرس ألفاظ اللغة التي كتب بها أصلاً.. ولا يشذ ما نقلته من (أغنية اليأس).. إذ لا أشك في أن ما قدمته للقارئ العربي، من هذه الأغنية لا يخلو من أحد أمرين: أحدهما أن يكون النص العربي قد أضاف إلى التعبير جمالاً، هو أريج اللغة العربية وجرس ألفاظها، أو أن الجمال في النص الإنجليزي تعذّر أن يخضع للذوق العربي.. أو للذائقة الشعرية في اللغة العربية.. وفي الحالين يظل النص مفتقراً إلى عنصري الأمانة والصدق.
وبعد.. فحصاد الترحال قد يطول في هذا المقال، فإلى بقية، عسى أن يجدها القارئ في الأسبوع القادم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1113  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 19

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج