شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المخدرات في حياة البشر.. والفن
أستبعد أن يكون الأسبوع الذي لم أواصل فيه الكتابة عن هذا الموضوع الذي أراه يغمر ويتفاعل، بل يكاد يفور ويتأجج، في جميع الصحف والمجلات، إضافة إلى الإذاعة والتلفزيون.. أستبعد أن يكون الانقطاع أسبوعاً قد جرفه من الأذهان،خصوصاً وأن العنوان واضح الدلالة على أن هذه المخدرات أو السموم اللعينة، لها نوع من الصلة (بالفن).. والفن في حياتنا ومسيرتنا الفكرية قد أصبح عنصراً متمكناً إلى حد التعمق في حياتنا.. وقد يكفي للدلالة على ذلك، أنك لا تقلب صفحات أي جريدة أو مجلة، أو ما في حكمهما من المطبوعات، إلا وتجد (الفن) يملأ صفحة أو صفحات، يحررها من كادوا يصبحون متخصصين في أخباره.. ونقده.. والرد على من ينقد مطرباً أو عازفاً، ويا ويل من يجرؤ على أن يوجه كلمة نقد إلى (الأباطرة الكبار) من المطربين.. إنه يورّط نفسه في ما يسميه إخواننا في مصر (وقعة سودة).. ربما لا يكفي فيها غير صيحات من نوع (يا لَهْوي.. يا لَهْوي).. واجتماع الجيران، والمشاة في الشارع.. ولا يتردد بعضهم في التبرع بعشرات من هذه (الْيالَهوي)..
وأستعيذ بالله من أن يجول في ذهني أن (الفن) عندنا قد اقترب من هذه السموم، أو أني أتسلّل إلى إيحاء من هذا النوع، حين أضع هذا العنوان عن علاقة المخدرات بـ (الفن)، ولكن نفي مثل هذه العلاقة بالفن والفنانين في المملكة لا يعني نفيها عن فريق كبير، ومنتشر، من الفنانين في العالم، وابتداء من أجواء (هوليود)، مروراً بمنطقة (بروكلين)، في نيويورك، والمناطق المماثلة في إنجلترا، وفرنسا وإيطاليا. وما أكثر ما يقال عن أن المروجين لهذه السموم يعتبرون شرائحَ من الفنانين في هذه البلدان أهم العملاء والزباين. وبينهم يجدون من يتعهد أعمال الترويج بين رفاقهم أو زملائهم، وعلى الأخص من هؤلاء أولئك الشداة أو البراعم، التي يوهمونها أنها بتناول هذه السموم، (تتفتَّح) وتجد طريقها إلى النبوغ والشهرة واستوديوهات التصوير والتسجيل.
وقبل أن نمضي في التنويه عن كتاب (اليثياهايتر)، بعنوانه (الأفيون والخيال الرومانسي)، لا بد أن نقف لحظات عند هذا التحقيق الذي نشرته مجلة (فورتشيون).. لنرى الحقائق المذهلة عن المعركة الدائرة بين (مافيا) المخدرات التي تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية قبل أي بلد آخر وبين قوات المقاومة والتحقيق بعنوان (تجارة المخدرات).
من هذه الحقائق - وباختصار شديد:
إن المخدرات تجارة لسلعة دولية، بإدارة سريعة الحركة، عبر شبكةِ توزيع بين عملاء، لا يقيمون وزناً لأسعارها. بمعنى أنهم يتهافتون على شرائها مهما كان السعر. ولذلك فهي أسرع الصناعات نمواً، وبالتالي فهي الأكثر ربحاً. ومن هنا فإن هذه التجارة العالمية تصل إلى ما يقل عن 500 مليار دولار في السنة.. أي ضعف قيمة المتداول من النقد الأمريكي.. والسوق الأمريكية هي أعظم الأسواق لهذه السلعة. وتحقق دخلاً سنوياً لا يقل عن 100 مليار دولار، في البيع بالتفرقة.. وهذا المبلغ يعادل ضعف ما يدفعه الأمريكان لشراء البترول. وقد أتاحت هذه التجارة ظهور جيل ضخم (خفي) من أصحاب المليارات. ولهؤلاء بطبيعة الملاحقة والمقاومة الدائمة، وسائلهم وطرقهم في الترويج، وكلّما اشتدت هذه المقاومة كلّما ارتفع سعر السلعة بحيث ارتفع سعر الجرعة من الكوكايين من 5 - 15 دولاراً، إلى 100 دولار للجرام الواحد. أما الهيروئين الذي كان رائجاً في بلدان آسيا، فقد وجد طريقه إلى أمريكا، بحيث يكاد يكون الأكبر، أو الأوسع انتشاراً. وتكمن طريقة الإغراء بالإقبال عليه في أمريكا اللاتينية، بمزج كميات زهيدة منه في طباق السجاير، والماريوانا.. مما ينتهي بالإقبال عليه إلى إدمانه، وبالتالي طلبه وشراء الجرعة منه بأي سعر يفرضه الموزّعون الذين لا يتعذر تواجدهم في الشوارع، والأزقة الخلفية، ومن المفروغ منه أن قوى المقاومة البوليسية لا تستطيع أن تكتشف هؤلاء الذين قد يكونون من الأطفال الصغار، أو الفتيان والفتيات في عمر المراهقة. ويقول التجار إن الذي يتحكم في توسّع حركة الانتشار، هو الطلب المتزايد، والذي يتزايد بنسبة طردية مع نشاط المقاومة والملاحقة وأحكام السجن، إذ أصبح يقدر عدد الذين يتهافتون على الماريوانا وحدها عشرين مليون أمريكي. وما يقرب من ستة ملايين أمريكي يتعاطون الكوكايين بانتظام، وهناك ما لا يقل عن نصف مليون أمريكي قد أدمنوا تعاطي الهيروئين..
ويضيف التحقيق أن تجار المخدرات أبعد ما يكونون عن أجناس المجرمين المألوفة، إذْ استطاعوا أن يقلقوا ويتسببوا في عدم استقرار بلدانٍ بكاملها في أمريكا اللاتينية بالرشوة - وهي ظاهرة مألوفة.. والذين يحتكرون هذه التجارة، ذوو ثراء فاحش، ولذلك فهم يدفعون بسخاء كبير، ولكنهم - في نفس الوقت - يلجأون إلى العنف والقتل، وكان عدد الذين تم اغتيالهم خلال السنوات القليلة الماضية في كولومبيا، سبعة وخمسين شخصاً من القضاة، واثنين من الوزراء.
وتعتبر بلدان آسيا مصدر معظم كميات الهيروئين التي تصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ في هذه البلدان تتواجد مزارع الأفيون، وعلى الأخص في شمال بورما التي تسيطر عليها عصابات الثوار الذين يجندون قواتهم الخاصة التي يتم تمويلها والإنفاق على ما تملكه من معدات وأسلحة وذخائر من أرباح مبيعات المخدرات وتصديرها، ولكن لا يوجد بلد في العالم أكثر انغماساً في مباءة المخدرات من كولومبيا - التي تعتبر في نفس الوقت أقدم بلد ديموقراطي في أمريكا اللاتينية - إذ إن أباطرة المخدرات فيها. يقدمون لرجال البوليس، والقضاة واحداً من بديلين.. هما (الرصاص أو الفضة).. والرصاص هو الذي يطلق في الجمجمة.. أما الفضة فهي (الرشوة..) ومع أن البلد يتمتع بنوع من الاستقرار الاقتصادي المشروع، فإن (الكوكايين) هو أعظم صادراته، إذ يقدّر الدخل من هذه المادة بأربعة مليارات، بسعر الجملة في السنة.. وأباطرة التجارة يتمتعون بمستوى بالغ الرفعة من الرفاه والرغد، ولا يخفى ذلك على الدولة، إذ قصورهم الفخمة، في أجمل المواقع مشهودة ومعروفة، وعلى كل منها أطباق الأقمار الصناعية المقامة على هذه القصور، لجذب أبعد محطات التلفزيون وقنواتها، مما لا يتوافر لغيرهم، ومع ذلك فلا سبيل إلى السيطرة عليهم.. ولا يجد أحدُ المسؤولين ما يمنع أن يقول إن نسبة البطالة ستتضاعف لولا (الكوكايين).. إننا نحتاج إلى استثمارات خارجية، تغني الذين عن الاعتماد على تجارة المخدرات.
والتحقيق فيه من المعلومات المفصّلة والموسّعة ما يستحق أن ينقل إلى العربية كاملاً وعلى الأخص ذلك الجزء الذي كتب بمانشيت كبير يقول ماذا يجب أن نفعل مع المخدرات؟ (What to do about drugs?). فيه مجموعة من الآراء التي تعبّر في حد ذاتها عن ظاهرة (العجز) التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية.. إذ هناك رأي أو آراء، تدعو إلى إباحة تداول واستعمال (الماريوانا).. وهو في الواقع رأي قديم سبق أن ظهر منذ أكثر من خمس عشرة سنة.. وأرجو ألا تخونني الذاكرة، إذا قلت إن أكثر من عالم متخصص في مصر قد أيد نفس الدعوة بالنسبة للحشيش.
ونعود، بعد هذه الإلمامة القصيرة عن التحقيق الموسّع، إلى كتاب (الأفيون والخيال الرومانسي).. الذي عنيت الكاتبة فيه بدراسة موسّعة، وليس بغرض الوعظ أو التحذير، وإنما بغرض إلقاء الأضواء على قصة (الأفيون) مع الفن والفنّانين.. ولا نحتاج أن ننبّه إلى أن الفن، في كتاب (اليثيا) لا يعني الموسيقى والطرب، ولعلّها لم تلتفت إلى هذه الشريحة ممن تحتويهم كلمة (فن) و (فنانين). مع أن أوروبا وعلى الأخص (إنجلترا وفرنسا)، قد عرفت شرائح من الفنّانين التشكيليين، والمطربين - ومنهم مؤلّفو الأعمال الموسيقية الكبيرة - قد انغمسوا في بؤرة الوهم القائل إن الأفيون والحشيش، يشعل مكامن الخيال، ويتيح فنوناً من الإبداع. عنيت الكاتبة بدراسة علاقة الأفيون بالخيال، ولم يفتها أن تنتبه إلى أن (التعوّد) على أكل الأفيون، ثم إدمانه قد نتج أصلاً من جرعات وصفها طبيب لعلاج آلام الصداع، والعمود الفقري، ولا يصف الطبيب (الأفيون)، وإنما (اللودانوم)، وهو من مركبات الأفيون.. وله تأثير التسكين من جهة، والتنويم من جهة أخرى.. ومع النوم (أحلام) تقول الكاتبة إنها مما يكمن في الذهن، موروثاً من سلسلة طويلة من أحداث عاشها الأجداد.
وتدرس الكاتبة أعمال الذين أدمنوا (أكل الأفيون) من أعلام الأدب الإنجليزي والفرنسي، وهم (دي كينسي.. وإدرجار الن بو.. وبودلير ثم كولريدج و كولينسي، وفرانسيس تومبسون) ومن الذين كانوا يتناولون الأفيون من وقت لآخر، كعامل مساعد على الإبداع الشاعر (كيتس).
وتقف الكاتبة عند الكثير من أعمال هؤلاء الأعلام، وتحاول أن تقع على أثر الأفيون في العمل الفني.. وتسجّل في نفس الوقت ما يعتبر اعترافات لبعض هؤلاء الذين أدمنوا (أكل الأفيون) وأحاديثهم عن الأعمال التي كتبوها، تحت تأثير الأفيون، ونصيب الخيال الذي لم يخطر لهم ببال، لولا جرعات الأفيون أو حتى (اللودانوم).
وليس من يجهل في النهاية أن الأفيون لم يكن ممنوعاً من التداول استيراداً وبيعاً وشراء في المتاجر المتخصصة في بيع العطارة.. ولعلّ من أعجب ما تذكره الجدات عندنا أنهن كن يشترين (بزر الخشخاش) من العطار.. ويمزجنه بنسبة قليلة مع اللبن الذي يرضعه الأطفال، من (البزازة)، وذلك ليستغرق الطفل في النوم الساعات التي تفرغ فيها الأمهات إما لأعمال المنزل، أو لقضاء وقت مع الجيران بدون إزعاج بكاء الطفل.
فالعلاقة بين هذه المخدرات التي تطورت من خام الأفيون، والحشيش، إلى الكوكايين والهيروئين، وأصبحت سموماً قاتلة مدمّرة، كانت أصلاً علاقة (علاج) لتسكين الآلام وقد لا يستغرب القراء أن نقول إن كثيراً جداً من الأدوية (السائلة) التي تشرب للسعال أو آلام الروماتيزم، أو الصداع، كلّها يدخل في تركيبها منتجات الأفيون بالذات، ومن هنا أصبحت هذه الأدوية لا تصرف في الصيدليات إلا بوصفة موقّعة من طبيب معروف ومسؤول لأن الكثيرين اكتشفوا وجود المادة المخدرة في العلاج، فأخذوا يشربون الزجاجة بكاملها ليتحقق لهم (السطال).
بقي أن الدكتور نبيل أبو خطوة، وزملاءه من المتخصصين عندنا، مطالبون بأن يسهموا في مقاومة الإقبال على المخدرات، بدرس الحالة النفسية التي تجعل إنساناً ما يلهث وراء الأدوية التي تعالج هذه الحالة، ومنها فيما أظن (الاكتئاب) الذي أصبح للأسف من الأمراض الشائعة، والمنتشرة كالوباء تقريباً بين الشباب في الغالب وعند المسنين الذين أحيلوا إلى التقاعد وأصبحوا يعانون الفراغ، والوحدة والإحباط.
الأطباء المتخصصون في الأمراض النفسية مطالبون بأن يفتحوا أبواب عياداتهم ليس لجمع المال من المصابين بهذا الوباء، وإنما لمقاومة حالة الاكتئاب، والدولة من جانبها لن تبخل عليهم بالرواتب المجزية التي تغنيهم عن استغلال الحالة، كما أسمع أنه يحدث، منذ عهد طويل.
والفراغ عندنا يعتبر في مقدمة أسباب الاكتئاب.. ورغم الأنشطة الموسّعة التي تنظمها وتديرها رعاية الشباب، بل ورغم الأندية الرياضية، التي يفترض أنها تملأ هذا الفراغ في حياة الشباب، فإن الإحساس به في (أعماق النفس) هو المشكلة الكبرى التي تحتاج إلى بحوث متعمقة وموسّعة..، يشترك فيها كبار المتخصصين، إلى جانب أصحاب الفضيلة العلماء، وكبار رجال الفكر، والأدب، وليس من المملكة فقط، وإنما من أي بلد عربي أو غربي، يعاني من مشكلة المخدرات، ومن مشكلة هذا الفراغ الذي لا أتردد في أن أعزو إليه جانباً كبيراً من المشكلة..
وبعد..
فإني حين أفرغ من كتابة هذا المقال، أتساءل بصدق، وإخلاص، عن الطريقة التي أستطيع أن أعبّر بها عن عرفاني وامتناني للكثير الذي يغمرني به المحبون من الاحترام والتقدير.. ومن ذلك هذا المقال الطويل العريض الذي كتبه الأستاذ سعد الحميدين في يوم الخميس الذي انقطعت فيه عن الكتابة في موضوع المخدرات والبشر.. وبقدر ما أتوخى الصدق في قولي إني لا أستحق حتى أقل القليل من هذا الذي يضفيه عليّ الأستاذ سعد الحميدين، بقدر ما أجل من يؤكد لي هذه المشاعر الحميمة.. ولعلّ أفضل ما ينبغي أن أقوله هو الحمد لله والشكر عاطراً، ومن القلب، لكل محب.. والاعتذار عن الوفاء، للكثيرين الذين يتصلون بي هاتفياً، معلّقين، مع الإعجاب بما أكتب.. مقترحين المزيد.. والله أسأل أن يوفقني لتقديم المزيد إن شاء الله.
* * *
لا أدري كم من المرات ينبغي أن أكرر أني لا أتواضع، ولا أستزيد من تدفّق عبارات الثناء والإطراء بأسلوب معروف، ظاهره التواضع، وحقيقته الهَشُّ والبَش، والارتياح في أعماق النفس.. وأن الحقيقة الراسخة في وجداني، أن كل ما نزَفَه القلم طوال هذه السنين من العمر ووجد من يعنى بقراءته، فيما يقرأ ممّا تنشره الصحف - بحكم العادة، أو بطبيعة فراغ الحياة من حولنا - لم يكن هو الذي أريد فعلاً أن أقوله، أو ينبغي أن يقال.. وهذا لا يعني أقل من أني عجزت عن أن أكون صادقاً مع نفسي!! ويسألني القارئ - وذلك حقه - عن الأسباب.. وكيف استطعت أن أطوّع كل الكامن من الجموح، والتطلع إلى الأكثر صدقاً، وهو الأكثر جدوى.. أو هو الجدوى نفسها، بالنسبة للقضايا التي عالجتها؟ وتلك ربّما كانت القصة التي لا أستطيع أن أكتبها، وأستبعد أن يكون قد وجد، أو يمكن أن يوجد في المستقبل المنظور، من يستطيع أن يكتبها، ليس فقط عندنا، وإنما في كل هذا العالم العربي، الذي نعلم أن ما يحسن أن نسمّيه (ظروفه السياسية الخاصة) لا تزال تُحتّم أن يكون لها موقفها من (الكلمة). ويتلخص هذا الموقف في أن يدرك الكاتب، وأن يعي، أن هناك (مصلحة)، هي التي يجب أن توضع في الاعتبار الأهمّ.. وأن المساس السلبي بها مكشوفاً، أو حتى مستوراً متوارياًٍ، يتعارض مع هذه (المصلحة) التي لا تُرى، أو لا يراها الكاتب، إلاّ إذا اكتشف الزوايا التي تتيح له الرؤية، والإدراك، وبالتالي (التعامل) على ضوئها وإشعاعها.
وصدق الكاتب مع نفسه، وبالتالي مع قرائه (بطولة).. ولا أنكر، كما قد لا ينكر غيري أني كنت أحلم بأن أصلَ إليها، وكان مما يغذي معايشةَ هذا الحلم، هذه الشلاّلات من الضوء تدفقت على أذهاننا، وغمرت مشاعرنا، وألهبت وجداننا، من بطون هذه الكتب التي كان قدرُنا أن تقع في أيدينا في مرحلة الصبا والشباب، وهي مرحلة التكوين.. وأن نعكف على التهامها على ضوء الفانوس، ندخله في الناموسية التي نتقي بها لسعات ذلك البعوض المتوحّش، الذي ما أكثر ما يحتال فيتسلّل، ليقوم باللسْع وامتصاص الدم، حتى يمتلئ فيطير متثاقلاً، لنراه يقع على نسيج الناموسية، يكايدنا، ويتحدّانا، بأن نخفقه بالكتاب، لينفجر ويموت، ويلوث الكتاب بالدم وقد أريق، أو أُهدر رخيصاً في سبيل قراءة كتاب.. بطولة، ربما تكون أسخف أنواع البطولات ولكننا لم نكتشف وهمَنا، وسُخفَ التعلق بها، إلاّ بعد أن أدركنا أن أهم ما يتيح الوصول إليها هو ما لن نستطيع المغامرة بالإقدام عليه.. هو نسيان الأهل والولد، بل ونسيان الذات نفسها.. لقد قالت تلك الكتب، التي عكفنا على قراءتها في الناموسية وعلى ضوء الفانوس ومع الناموس والحر الذي يخنق الأنفاس.. قالت الكثير عن هذه البطولات.. وقدّمت النماذج المذهلة منها، في مسيرة الشعوب نحو تحقيق طموحاتها، أو هي انتفاضة هذه الشعوب على الكوابيس التي جعلت الأنفاق وظلمات المجاري، وخنادق الحروب وذُل العوز والحاجة، والجوع، طبيعة حياة هذه الشعوب وقَدَرَها المحتوم.. وكان لهذه النماذج من البطولات جَوُّها ووقفتها الساحرة الأخاذة حتى، ورؤوسها تسقط تحت سيفِ الجلاّد. أو ساطور المقصلة.. كنا، ونحن نشعر بقلوبنا تكاد تشق صدورنا إعجاباً بها، نتساءل: كيف استطاعوا أن ينسوا الأهل والولد.. والأم التي تنتظر عودتهم طوال ليالٍ وأيام؟.. أن ينسوا علاقتهم بالحياة كلها، في سبيل قضايا آمنوا بحقهم، أو بواجبهم في التضحية في سبيلها؟
ولم نجد إجابة مقنعة، عن أي تساؤل من هذا النوع.. سوى أنهم قد خلقوا من طينة مختلفة، هي طينةُ البطولة، بكل قَدَرها، ومقدَّراتها، صَنعت، وتَصنع هذا الذي يبهرنا من واقع القوة، في مختلف مفاهيمها ومضامينها، ومنها السلطان والعنفوان.
أراني قد استطردت، أو أعطيت نفسي هواها في أن أعلل لعجزي، وأمثالي عن أن نكون صادقين مع أنفسنا.. ومن هنا، كان ما قلته من أن ما يُغدَق علينا، أو يغدقه بعضنا على بعض من الثناء والإطراء، لا يوجد فيما قدمناه ونقدمه ما يستحق بعضه أو حتى القليل منه كلَّ هذا الطنين والرنين.. وبالتالي انتفاخ الأوداج، والتبختر والتيه.. إذ ماذا نحن وأين مكاننا، من بطولات الصدق مع النفس؟ من بطولات أولئك الذين عايشناهم في الناموسية على ضوء الفانوس، ومع الحر ولسعات الناموس؟
ما علينا.. لقد حصل الذي حصل، وقام نادي جدة الثقافي الأدبي بتكريمي في تلك الأمسية، التي لم أشعر قط بضآلة حقيقتي كما شعرت بها وأنا أسمع ما يصفني به أو يسبغه عليّ من ملأوا القاعة أحاديثَ، عن مخلوقٍ ظل يذهله أن يكون هذا رأي الزملاء والرصفاء والأبناء فيمن عجز أن يكون صادقاً مع نفسه.. فإذا قيل العكسُ فلا بد أن يكون ذلك لواحد من سببين: أولهما، أنهم بالغوا في حسنِ الظن به.. وثانيهما، هو أنّه قد استطاع أن (يخدع) الجميع عن حقيقته.. وتلك جريمة، قد يتيح لي أن أغفرها لنفسي أني لم أتعمّدها، ولم أستهدفها قط.
والعجيب بعد ذلك أن بعض الصحف لم تكتفِ بما قيل في النادي، وهو كثير جداً، وإنما ذهبت تستزيد من كلام من تكلم وأفاض، ومنهم الأستاذ الصديق محمد حسين زيدان، فقد أضاف فيما نشره الأستاذ شاكر عبد العزيز، في جريدة البلاد، ما زادني انحداراً إلى هاوية بعيدة القرار حين قال معلقاً على كلمة الابنة الدكتور فاتنة أمين شاكر: (ارتفعت بها إلى فوق.. ورفعت الأستاذ عزيز إلى فوق.. وبدأتُ بذلك أنا أتسلّق السلَّم لعلّي أصل إلى ما وصل إليه الأستاذ عزيز).وتلك خصيصة الزيدان التي لا تزال تسمق، وتشمخ، وتتوهّج.. خصيصة قدرته على أن يبعث في الكلمة الروح، التي تستطيع أن تحلّق، ليس في أجواز الفضاء، وإنما في أجواء القلوب ومسارح النفوس. ومكامن الوجدان.
ولا أخفي أني افتقدت في طليعة الحضور، أو من كنت أتوقع أن يكونا في الطليعة منهم الصديقين الأستاذين الكبيرين السيد محمد حسن فقي.. والشيخ عبد الله عمر بلخير.. ولعلّي كنت في تلك اللحظات كمن يلتمس بعض الاعتزاز والرضى عن النفس بأن أراهما، والسيد محمد حسن فقي هو ذلك الصديق الكبير الذي لن أنسى صدق وفائه، في أكثر من مناسبة، منها تلك الأيام التي قضيتها سجيناً في المستشفى اللبناني.. كان هو الوحيد الذي يزورني كل صباح ويقضي معي وقتاً طويلاً، نتبادل خلاله أحاديثنا عن واقع الحياة والمجتمع، وعن فنون الشعر والشعراء.. والأستاذ عبد الله عمر بلخير هو الصديق الذي لا أستطيع إلاّ أن أحبّه، وأن أتشوق إلى رؤيته، إذ كيف يمكن أن أنسى تلك الفترة التي عايشتها معه أيام انكبابه مع المرحوم محمد سعيد عبد المقصود خوجه على تأليف كتاب وحي الصحراء، والليالي التي كنا نقضيها مع أعضاء لجنة الاختيار، في منزل الأخ محمد سعيد، وأصواتنا تتعالى لتملأ تلك الساحة التي يطل عليها المنزل في شعب عامر.. ثم تلك الفترة التي قضيناها في غرفة واحدة، في الجامعة الأمريكية في بيروت، وما أكثر ما شهدته من شجار، وجدل، لا يوقفه إلاّ إطلالة المراقب، الذي يأمرنا بالتزام الصمت لأن الطلاب في الغرف المجاورة نائمون..
وكانت لرئيس تحرير جريدة البلاد الدكتور النهاري، مبادرته المشكورة في تغطية أخبار حفل التكريم، وكان مما عوّضني عن حضور الأستاذ محمد حسن فقي، وملأ قلبي امتناناً، ودفئاً وحباً، ووفاء، هذه التحية (من قلب.. لقلب..) وفيها يقول:
نصف قرن يمر والعيش يحلو
بفمي منه والنسيم رخاء
ربمّا فاقت الصداقةُ أحياناً
دماً لا يموج في الوفاء
وفي القصيدة هذه اللمحة العاتبة الرقيقة، التي تشعرني بالذنب، وتجعلني ألتمس عنده ما أعرف أنه مطبوع عليه من العفو والغفران.. إذ يقول:
ولقد يؤنس اعتزالي حديث
منك أفضى به إليّ الهواء
ربّما مرت الشهور وما نحظى
بلقيا ولكننا الخلصاء
وأتمنى لو يتسع مجال هذا المقال، للتوقف عند أكثر من بيت من هذه القصيدة التي أحسست أن الشاعر الكبير عاش معها عاصفةً من مشاعر الحب، يتدفّق ليشمل مواكبَ رفاقِ الدرب، فيؤكد ما طُبع عليه من خصالِ الوفاء، وسجايا الحرص على وشائج الحب، نمَّتها رفقة الدرب بكل ما مكان فيه من عطاء وإبداع.
وبعد.. فهل أنسى، وأنا أكتب عن هذه الأمسية التي أحياها الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين بناتي من الآنسات والسيدات، اللائي لا أدري كيف أصف فرحتي بحضورهن، وبما أبدعته الآنسة مريم عبد الرحمن الغامدي، من دراسة تحليلية، تجنّبت فيها إِمطاري بعبارات الثناء والإطراء حريصة على أن تكون لكلامها خصيصة البحث الذي يتعمّق خصوصاً وأنها هي التي تولّت مسؤولية أو مهمة افتتاح الأمسية، على غير ما جرت به العادة، وهي أن يتولاّها أحد الدارسين. ثم الابنة الدكتور فاتنة أمين شاكر.. التي لا أشك أبداً في أنها قد أثارت إعجاب المستمعين إليها بما بدا للجميع تحليقاً رائعاً في آفاق موضوع قلَّ أن يوفَّق فيه من يكتب في مثله كما وفقت هي، إلى جانب ذلك الأداء الدقيق، والجريء، وقد كان تعليق الأستاذ محمد حسين زيدان عليه في جريدة البلاد واحداً من روائعه وما أكثرها، وأمتعها، وكم هو قدير على أن يبدع الكثير في أقل القليل من الكلام. وهل يتسّع المجال، لأن أتقدم بالشكر لهن جميعاً، إذ أشعرنني بأبوتي، وبقيمة هذه الأبوة في نفسي كما هي في نفوسهن.. ولعلّ السيدة نورة خالد السعد هي التي كادت تستذرف الدمع من عيني، بحديثها المفعم بمشاعر البنوة، نحوي، فأحسست بالزهو حقاً وتمنيّت لو أن الله سبحانه قد رزقني أبوة جميع البنات.. أما الآنسة ازدهار ميشل، التي طالما أدهشتنا، بفصاحتها، وعمق تفكيرها، التي تكشفها أسئلتها وتعليقاتها في حواراتها في أكثر من أمسية من الأمسيات، التي كنا نعجب بها كما أعجبنا بها في تلك الأمسية.. وها نحن نجد أنفسنا نعترف بأن الفتاة عندنا قد أصبحت تسبق الفتى، وتبشر بأن المستقبل سوف يكون لها إذا ما استمر ظهور هذه النماذج الممتازة من الدارسات.
وعوداً على بدء.. فإني لا أملُّ أن أكرر أن كل ما ينزفه هذا القلم،ليس هو الذي أريد أن أقوله فعلاً، أو هو الذي ينبغي أن يقال.. وذلك لا يعني أقل من أني عجزت عن أن أكون صادقاً مع نفسي.. وصدق الكاتب مع نفسه بطولة.. حلمنا بها.. ولكن لم يبق في العمر أو في الأحلام ما يتسع لتحقيقها.
* * *
لم أنسَ أني وعدت أدباء الشباب بأن أعايش عطاءهم، وأن أكفّر عن صمتي الطويل عن هذا العطاء، بأن أنوه عنه،وأذكّر به القراء، وليس ذلك لحثهم على اقتناء نسخ من الكتب التي نشرت هذا العطاء، فكل منهم مستغنٍ - والحمد لله - عن تلك المبالغ الضئيلة التي تتجمَّع خلال عام أو عامين من قيمة المبيع من هذه الكتب، وإنما لتشعر الساحة الأدبية بأن هذا الشباب قد أخذ يعطي ويضيف إلى المتراكم من عطاء من أصبحوا يسمون (الرواد) ما يصلح، ليس للقراءة العابرة المتعجّلة فقط، وإنما للتأمّل، وتتبُّع مسيرة التطور في الفكر والفن ونبض الإبداع.
والعقدة، من جانبي، تتأزّم، إلى حد أشعر بتعذر تجاوزها أو حلها، حين تواجهني كلمة (يضيف) أو (إضافة) وما يشتق منهما، ويترادف لمعناهما.. لأنّي مولع - ومنذ دهر طويل - بأن أتوخّى هذه الإضافة في ما تتدفق به دور النشر، والمطابع من كتب ومؤلفات.. آخذ بين يدي كتاباً.. أو ديوان شعر، من عطاء الشباب، أو الشيوخ، وأول هاجس يتصايح في ذهني هو: (ما الذي يمكن أن يضيفه هذا الكاتب أو الشعر في هذا الكتاب؟).. ولا أدري، فقد أظلم الكثيرين جداً من الكتّاب، شباناً وشيوخاً، في المملكة أو حتى في غيرها من أقطار العالم العربي حين أجد نفسي أردد - بعد أن أفرغ من تصفح المطبوعة - أن الكاتب، أو الكِتَابَ برمّته لم يضف شيئاً.. وقد انتهيت مع هذا الهاجس، أو هي العقدة، إلى مواجهة ما يبدو لي واقعاً أو حقيقة وهي أن مشكلة العطاء - وأعني عطاء الفكر والفن والإبداع - أنه كان كثيراً جداً طوال ما لا يقل عن عقدين من السنين، ولكنه لا يضيف إلا أقل القليل.. بل قد أذهب إلى أنه لا يضيف حتى هذا القليل.
ومن حق القارئ - أي قارئ - أن يفرقع ضحكة صاخبة، وهو يقول: (كيف استطعت أن تصدر مثل هذا الحكم؟ أتراك تزعم أنك قرأت كل العطاء الذي ازدحمت به المكتبات، والذي فاضت به قرائح الكتّاب والشعراء؟). وذلك سؤال أبادر إلى التسليم بأنه (وارد) بل ويحمل شرارة الشك في توازن منطقي وصحة إدراكي.. ولكني لا أجد ما أجيب به إلاّ أن أطلب من هذا القارئ أن يضعني في مواجهة ما قرأ هو، ووجد فيه هذه الإضافة، ولا أشترط أبداً أن تكون إيجابية نرضى عنها، بما فيها من توافق مع خلفيات ثقافية معيّنة.. بل أرحب بالسلبية التي تتوافر فيها القدرة على إثارة الغبار، أو تحريك السطوح الراكدة، إذ في ذلك باعث التفاعل مع الفكر، قد يصل إلى حد الصراع، ولكنه يظل - رغم ذلك - إضافة تعبّر عن أن هذا الفكر يرتفع عن مستوى السطحية الشاملة، والخالية من عنصر الابتكار، الذي نعلم أنه كان وسوف يظل محرك عجلة التطور والنمو في حياة الأمم أو الشعوب، التي اتفقنا على تسميتها الشعوب (المتقدمة) في عالم اليوم. ومع هذه العقدة المتجذّرة في ذهني ألتمس سبيلي للاعتذار إلى أدباء الشباب وشعرائهم عن موقفين:
أولهما: ذلك الصمت الطويل الذي سبق أن تحدثت عنه في حصاد سابق نشرته هذه الجريدة الغرّاء عن عطائهم.
ثانيهما: العودة إلى ذلك الصمت، ليس بالنسبة لجميع من أجد في أرفف مكتبتي أعمالهم، وإنما بالنسبة للبعض، الذي أدركت، أني أتورط في ممارسة ما يعتبره قسوة وغلظة إذا اضطررت إلى مصارحته برأي أحسبه من جانبي آخذاً بيده إلى الأفضل في درب انطلاقته نحو الإبداع الذي يتوخّاه. ومن المفروغ منه أني مستغنٍ في هذه المرحلة من العمر، أن أمارس القسوة والغلظة مع من هم في عمر أبنائي.. وأنا أحبهم وأستثقل أن أمس مشاعرهم بهذه القسوة.
وكما سبق أن قلت في آخر مقال لي، عن أدباء الشباب وأدبهم، أن بين يدي دواوين الشاعر عبد الله جبر، وهي: (هتاف الحياة) الذي حظي بتلك المقدمة التي كتبها الأستاذ الشاعر حسين بن سرحان، وقال فيها: (أمامي شعر فوق المتوسط، فهناك ديباجة جزلة، ومعانٍ رقراقة، وإصرار في صاحبه أن يبلغ المستوى المروم). ثم ديوان (أريد عمراً رائعاً) الذي أصدره النادي الأدبي الثقافي بجدة، وتصدرته ((كلمة النادي)) التي قال كاتبها - ولا أظنه الأستاذ عبد الفتاح أبو مدين: (هذه مجموعة شعرية لشاعر شاب نقدمها اليوم إلى ((القارئ العربي))، وهذا الشعر فيه نبض وحياة). ثم يضيف كاتب الكلمة ما يزايد به على ما قاله السرحان في مقدمة الديوان الأول: (ولعلّ مثل هذا العمل الذي تؤديه أنديتنا الأدبية يستطيع أن يبرهن للجاحدين الذين ما برحوا يرددون - ليل نهار - بأن الشبان، أدبهم ومشاركتهم ليس لهما وجود، إذا كان الأمر يتطلب دليلاً).. ونفهم من هذا الكلام أن النادي يواجه الذين ينكرون وجود أدب للشبان بهذا الديوان كنموذج يستحق أن يعنى النادي بطباعته وإصداره، ليثبت لهؤلاء المنكرين لوجود أدب الشباب، أن أدب الشبان موجود، وبرهان وجوده الذي لا يُجحد، هو هذا الديوان. ولا أدري لِمَ تستوقفني المقدمات في هذه الدواوين، كما سبق أن استوقفتني مقدمة السرحان وقبلها مقدمة الأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين.. وما يستوقفني في كلمة نادي جدة الأدبي الثقافي، هو ما يشعر القارئ أنه نوع من التحدي، سلاحه هذا الديوان للشاعر عبد الله جبر. وذلك ما حملني على أن أقرأ معظم قصائد الديوان، وأن ألتمس بينها القصيدة أو القصائد التي وجد فيها النادي سلاحه لتحدي الذين ينكرون وجود أدب الشباب. وهنا لا أجد حرجاً في أن أقول إن كاتب الكلمة قد أسرف على نفسه، وعلى الشاعر، وعلى القراء - وأنا منهم - حين ذهب في التقدير إلى هذا الحد. ولعلّها مناسبة لا يحسن أن نتجاهلها، لتقدير نادي الطائف الذي أصدر للشاعر ديوانه الأول، إذ كان الدكتور علي العبادي لا يبخل بالتنبيه الرقيق والدقيق، على ما وقع فيه الشاعر من ((اضطراب في الوزن))، مع بيان الأسباب، كقوله مثلاً في الصفحة (47) من الديوان (قصيدة مكية في منبر الشعر): (لم تسلم هذه القصيدة - مع جمالها - من اضطراب في الوزن في كثير من أبياتها، ويعود السبب إلى أن ((بحر الخفيف)) الذي اختاره شاعرنا لقصيدته هذه كثير الزِّحاف، لا يقدر على خوضه إلا من أتقن علم العروض، وكان عارفاً بجوانبه، ملماً بأصوله وكتبه). ونستطيع أن نرى نوعاً من أبوة العلماء وحدبهم على أبنائهم من الشبان، حين نجد الدكتور العبادي، يقف عند أمثال هذا الخطأ في العديد من القصائد، فينبه قائلاً: (في الشطر الأول من البيت خطأ في الوزن، والقصيدة من بحر البسيط).. وأنا أصف هذه الوقفات من الدكتور العبادي بأنها أبوة العلماء، لأنّها تعبّر عن الرغبة في وصول الشاب إلى الأجود والأصح والأفضل، بتنبيهه إلى الخطأ، على أمل أن يتجنّبه في المقبل من أعماله وعطائه.
قلت إني قرأت قصائد هذا الديوان: (أريد عمراً رائعاً)، والذي أغراني بقراءتها كاتب كلمة النادي، وعسى أن يغفر لي الشاعر عبد الله جبر، أن أقول له ولكاتب كلمة النادي أن مواضيع هذه القصائد لا تختلف في شيء عن المقالات الصحفية التي ينشرها كتاب (الأعمدة) من أبنائنا.. عن الشؤون الاجتماعية الكثيرة التي يعالجونها بالتنبه ((الحذر)) فيما يشعرون أنه يستحق هذا التنبيه، أو بالثناء المسرف، في ما يرون أنه فرصة لاسترضاء مَنْ أو ما يثنون عليه. فعلى سبيل المثال هذه القصيدة التي سمّاها الشاعر (مسرحية شعرية من منظر واحد) وبعنوان: (لا حصانة للمرتشين).. كل ما فيها أنها كلام منظوم.. (موزون ومقفى).. كل ما أراد أن يقوله فيها أن علينا، أن نتربّص بالمرتشين والرشوة، وأن الدولة ليست نائمة عن هؤلاء، فهي تعرف كيف تصل إليهم وتنتزعهم عن مقاعدهم الوثيرة المترفة إلى السجون.. فلو قلت للشاعر إنه لو كتب هذه المسرحية مقالاً، أو لو كتبها (نثراً).. لبلغ من غرضه ما لم تبلغه القصيدة، التي سمّاها مسرحية.. ومثلها قصيدة (ستائر) التي يهاجم فيها حملة المؤهّلات (الشهادات)، إذ يتهمهم أو هو يتناولهم بأبشع ما في حصيلته من (قذف) إذ يقول:
قد فخمته شهادة
ختمت بشمع أحمر
اسكت فإنك أبله
عن ظاهر أو مضمر
ثم يقول بعد عدة أبيات:
ماذا وراء الانقبا
ض على الجبين المصعر
هذي حماقة جاهل
في حلية المتكبّر
هذي انتفاضات الحظو
ظ على بساط الأعصر
لا تكشفي هذا الحجا
ب عن الجهول الأصغر
لا تطلبي خلف الثيا
ب سوى الخلاء المقفر
ويطول بنا سبيل القول إذا وقفنا عند كل قصيدة من هذه القصائد التي لا أجد فرقاً بينها وبين تلك المقالات الصحفية التي تزخر بها صحفنا صباح مساء. وأستكثر على القراء أن أقول شيئاً عن الشعر، يعرفونه ويستغنون تماماً عن الرأي فيه.. وهو أنه الإبداع، وليس النظم حتى لو سلم من عيوب أو اضطراب الوزن، ومن حق المواضيع التي نظم الشاعر عنها قصائده أن يعالجها بمقالات نثرية، ترحب بها صحفنا، كما ترحب بالكثير مما تزدحم به اليوم.
ثم في دواوين الشاعر، الديوان الثالث، الذي سمّاه (للحضارة ثمن).. ونشره نادي مكة الثقافي، وهو يقع في حجم وعدد صفحات الديوان الثاني (أريد عمراً رائعاً).. ولا أدري كيف يستقبل نادي مكة الثقافي ملاحظتي التي لا بد أن أصارحه بها، وهي أن هذا الديوان، في معظمه، الذي أعطاه هذا الحجم، إعادةٌ لما نشر في الديوان الذي أصدره نادي جدة الأدبي الثقافي.. ولا أجد الوقت لذكر القصائد التي أعيد نشرها في هذا الديوان.. ولكن أتيحت لي فرصة التحدث إلى الشاعر، فلم أجد عنده تعليلاً، وأنا واثق أني لا أجد هذا التعليل عند نادي مكة.. إذ الأرجح أن الشاعر تقدم بهذه القصائد إليه، ولم يجد النادي بداً من إصداره، اقتداء بنادي الطائف ثم بنادي جدة وكل منهما قد نشر له ما نشر.
بقي أن الشاعر يقف من حملة المؤهلات الجامعية موقفاً ظاهر العداء.. وقد سبق له أن كتب إلي مزهواً بأن تعليمه في حدود المرحلة الابتدائية فقط.. كأنه أراد أن يقول: هذا مستوى تعليمي، ومع ذلك فها أنذا شاعر يقول عنه السرحان ما قال..) ولقد سألته عمّا إذا كان قد استأنف الدراسة والتعليم، فحمَلَ مؤهلات أكبر.. فإذا به يؤكد أنه لم يفعل شيئاً من ذلك وأنه قد قرأ ما لم يقرأه الجامعيون.. وعنده مكتبة فيها مئات أو ألوف الكتب..
ولعلّي كنت غبياً حين أخذت أنصحه بأن يبدأ الدراسة من جديد.. وأن هناك من بلغ الستين من العمر ولم يستنكف أن يبدأ الدراسة من المرحلة الابتدائية إلى أن حصل على مؤهل الماجستير.. كان مقتنعاً تماماً بأن ما قرأه من الكتب، في التراث، وفي غيره، لم ولن يقرأ مثله الجامعيون.
قلت له: أنا نفسي لست من حملة المؤهلات.. ولكن حسرتي لا تنقضي.. ولو كان في العمر متسع بعد السبعين، لما ترددت في الدراسة ابتداءً من (الابتدائية) وانطلاقاً إلى ما بعدها فسمعت منه ضحكة مكتومة.. ولا أستبعد أنها ساخرة.. ربما بي شخصياً.. وبجميع حملة المؤهلات.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :886  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 19
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج