شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مع أدب الشباب
في اللحظات التي تناولت فيها من رف في المكتبة، أجمع فيه وأخصصه لعطاء الفكر في المملكة، لم أكن أتصوّر أن الشباب قد أعطانا كل هذا الكم من أجناس الأدب المختلفة، ومنها القصة، والشعر، بل وحتى الرواية، ثم المقالة الناقدة، أو المعالجة لشؤون المجتمع.. وعندما عدتُ من مهرجان الجنادرية مساء يوم الأحد، وقد ازدحم ذهني بصور أولئك الذين رأيتهم يملأون ساحة الندوة الثقافية، كما يملأون بهو الفندق الذي اجتمعوا وتجمعوا فيه، كان أهم ما يدور في ذهني، هو هؤلاء الشبان، والكلمة التي أفضيت بها في مقال يوم الخميس الماضي وهي (إيماني بأن من حق الشباب علينا أن نعايش أفكارهم وأحلامهم، وحكاياهم وأن نقول ما ينبغي، أو ما ينتظرون هم أن يقال عنهم، وليس ثناء وتقريظاً، وإنما نقداً وتحليلاً ووقوفاً عند المنعطفات إذا وجدت.. وأضفت أقول: وأنا أتوقعها على كل حال..).
ولكن، يبدو أنه قد فاتني أن أتنبّه، وآخذ حذري، حين أواجه عطاء الشباب، أن هذا العطاء، بغض النظر عن أجناسه، بل وبغض النظر عن (مفهوم) كلمة ((شباب)) أن هذا العطاء يعيش ما لا بد أن يسمى (معركة) حامية الوطيس، هي معركة (الأصالة والحداثة).. معركة الأصالة ويقودها ويرفع علمها بعض الشيوخ من أعلام الأدب، من أمثال الأستاذ عبد الله بن إدريس، الذي يعيش معركته الأخرى، والأشد احتداماً، وهي الفصحى، والعامية التي يتقدم صفوفها أنصار الشعر الشعبي. وإلى جانب الأستاذ أو خلفه ذلك الفريق الكبير من (شعراء الشعر التقليدي المتمسك بالوزن والقافية والرَّوي).. كما يقودها ويرفع علمها من جانب (الحداثة) عدد كبير من القادة، لكل منهم وجهة نظره، أو فلأقل أسلوبه في فهم معنى الأصالة، ومعنى الحداثة.. ومع أن الأساليب تختلف، وقد تتباين إلا أنها تصب في النهاية، في مقولة - نلخّصها لتقريبها إلى الأذهان - أن قيود الوزن والقافية - ومعها مشكلة الروي - قد وَهَت ووَهَنتْ، وتجاوزها الزمن.. ومنطق العصر لم يعد يتقبل أن يتكسَّح المعنى، وأن لا يجد سبيله إلى الومض والإشعاع إلا إذا ارتفق (عربة) عجلاتها هذه القافية والوزن.. والمعنى، كما يراه أنصار الحداثة، أو كما يلتمسونه ويشعلون مضمونه في شعرهم، لم يعد تلك المعاني التي يزخر بها التراث، كما يزخر برصيد القوافي، والأوزان وإنما هو ((منظور)) ينبع من وجدان الشاعر، وفي الغالب من (لاوعيه) تتزاحم فيه عناصر التمرد، التي يرفضها كلُّ الرصيد الضخم من المعاني المكرورة، والقوافي المخزونة في ألوف القصائد التي تحتضنها الدواوين، والموسوعات، وما في حكمها من سفن التراث.
ومن هنا أود أن أبادر إلى التصريح بأني حريص على الابتعاد عن ساحة المعركة، والوقوف منها موقف المشاهد الراصد الذي يلتمس الرؤية المجرَّدة التي قد تحرص على الحيدة، ولكنها قد تنحاز أحياناً.. وليس ذلك بمنطق الناقد، بل بمنطق المتذوِّق الذي لا يحمد لنفسه ولا يحمد له القراء، أن يطمس أو يكبت انفعال ذائقة الجمال ودرجة الإبداع في القصيدة العمودية أو الحديثة على السواء.
* * *
بين يدي الآن ديوان، لم ألتقطه من ذلك الرف في المكتبة، وإنما وجدته في حقيبتي التي عدت بها مشحونة بالكثير من المطبوعات من رحلة الجنادرية. وهو ديوان للشاعر الذي أذكر أني شرفت بمعرفته في ندوة الأستاذ الصديق عبد العزيز الرفاعي في الرياض.. ديوان اختار له الشاعر أحمد سالم باعطب، عنواناً فيه قدرة على أن يغري من يراه في المكتبات، بشرائه. لأن هناك ظاهرة أفرزتها على الأرجح فترة الطفرة التي لا تزال ترامقنا من موقعها، وقد كادت تتوارى، مع فترة (ترشيد الإنفاق).. والظاهرة هي (السهر).. وهو سهر يختلف أو لا علاقة له على الأرجح بسهر التلاميذ وطلاب الجامعات على كتب الدراسة، أو سهر الأمهات على أبنائهن وبناتهن، أو سهر المرضى، على سررهم في المنازل أو المستشفيات.. سهر الطفرة هذا هو (سهر العشاق).. وسهر روّاد الملاهي وعلب الليل وفي أضيق الحدود عندنا سهر لاعبي (البلوت).. وما يجعلني أميل إلى هذا التفسير، هو أنه سهر (عيون تعشق السهر)، والذي يوحي أو يوهم بهذا هو الفعل (تعشق).. إذ العشق كلمة يندر أن تدور في غير أجواء مسارح الترفيه والمتعة..
والأستاذ باعطب، كما أذكر من حديث الصديق عبد العزيز الرفاعي عنه، شاعر عمودي أو تقليدي، وهذا يعني أنه من شعراء (الأصالة).. ومن هنا، أخشى أن أقول إنه من فرسان الحلبة.. أو فرسان المعركة دائرة الأرحاء بين الفريقين إياهما.. ولكن لعلّ ما يجنبه قعقعة الخناجر والسيوف - وميادينها الصحف والمجلات - أنه إنسان رقيق الحاشية، فأكاد أقول إني لم أره طوال الجلسة أو الجلستين اللتين قضيتهما في رحاب الأستاذ عبد العزيز الرفاعي إلا والابتسامة العريضة تملأ محياه. وأرجح أنه ليس من الفريق المتوتر، أو الذي سرعان ما يتوتر حين يدور نقاش يحوم حول هذه الحداثة، التي أجد أنها شغلت مجالسنا، وحتى شبه الرسمية منها، إضافة إلى ما اعتمر أذهان رجال الفكر والقلم من مشاكل الحوار حولها.
ولعلّ مما يؤكد تفضيله، جانب الدعة والهدوء والبعد عن الصخب، أنه تجنب الاعتداد بشعره، رغم أن (عيون تعشق السهر) هو ديوانه الرابع، فلم ينشره إلا بعد أن ضمن تصديره بمقدمة، بقلم الأستاذ (الدكتور محمد بن سعد بن حسين) رئيس قسم الأدب بكلية اللغة العربية بالرياض، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وأعرب الشاعر عن فرحته وامتنانه بهذا التصدير بقلم الأستاذ محمد بن سعد بن حسين، في (تمهيد للتقديم) نجد فيه أن الشاعر قد اختار لنفسه مكان (التلميذ) من الأستاذ، كما نجد الأستاذ محمد بن سعد بن حسين قد احتفظ لنفسه بموقع الأستاذ ومكانته المرموقة، فكتب المقدمة بلغة ومعالجة فيهما نبرةُ الأستاذية التي تجنّبت التواضع، كما تجنّبت (الدهدهة) و (تطييب الخاطر) بكلمات الثناء أو الإعجاب، إلاّ في حدود وبحساب.. ولا عجب فالشاعر نفسُه يكاد يلغي شخصيته، أمام الأستاذ الكبير، حين يقول في (تمهيد للتقديم): (ألقيت بين يديه مجموعتي ورجوتُه أن يمن عليها بالقراءة الفاحصة، وأن يقدم لي نصائحه وتوصياتها وإرشاداته بما يكفل طباعتها على وجه أستطيع أن أرضي به عشاق قراءة الشعر)، ثم يضيف: (تقبّل سعادته المجموعة قبولاً حسناً، ورعاها بعنايته، وغاص في أعماقها، وكشف عن مكنوناتها، وبيّن حسناتها من سيئاتها، ثم أعادها تحمل من سحر البيان، بعبارات ناطقة بغير لسان تصل إلى القلوب قبل الآذان).
ولم يقل لنا الشاعر شيئاً عن فحوى ومضامين (النصائح والتوصيات والإرشادات) التي قدّمها الأستاذ كاتب المقدمة، ولذلك، أصبح من المتعذّر أن نتوخّاها في أي قصيدة من قصائد الديوان، لنستفيد منها، وهي على الأرجح، جمة الفوائد لأنّها نصائح وتوصيات وإرشادات رئيس قسم الأدب بكلية اللغة العربية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. فلا أدري لم بخل بها الشاعر من جهة، والأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين من جهة أخرى..
ولذلك، فليس أمامنا إلا أن نتجه إلى مقدمة الأستاذ الدكتور نلتمس فيها أحكامه على شعر الشاعر، والحيثيات أو العناصر التي رجّحت الإيجاب أو السلب في هذه الأحكام.. ومنها يستاح لنا وللقراء أن ندرك ونستوعب آراء الدكتور في نقد النص والتعامل معه، خصوصاً وأن الأستاذ الدكتور يقول في تمهيده لمقدمته: (على الرغم من وفرة علمي بمواطن قوة هذا الشاعر وإعجابي بثمار إبداعه، إلا أني لن أتحدث عنه من منطلق إعجابي به) ويضيف: (لأني فرضت على نفسي ألاّ أقول في مثل هذا الموقف - أعني موقف الحكم على الأعمال الأدبية - إلا ما ينعكس على مرآة حسّي وفهمي عند القراءة متجرداً من كل ما يربطني من مودة أو نقيضها، لكي يكون حكمي على العمل أقرب إلى الصدق، لكونه نتيجة تعاملي مع النص نفسه).
ويشرع الأستاذ الدكتور في التحدث عن قصائد هذا الديوان فيقول ابتداء: قسّم الشاعر ديوانه هذا إلى أربع مجموعات، لكل مجموعة عنوان. ثم يذكر عناوين هذه المجموعات، ويذكر لنا أنها اشتملت على ثمانٍ وأربعين قصيدة. ويمارس الأستاذ نفس المعالجة - إذا صح أن نسميها كذلك - في مجموعة الباب الثاني وعنوانه (تحيات قلبية للشمس) فيذكر أن عدد قصائده ثلاث عشرة قصيدة اشتملت على أحاديث عن حب الوطن، ويمضي إلى الباب الثالث وعنوانه: (بسمات على شفاه دامية)، ليقول لنا إن عدد قصائده إحدى عشرة قصيدة. ويتجاوزا في الباب الرابع عن ذكر عدد قصائده كما فعل في الأبواب السابقة وعنوان هذا الباب: (قد يولد الحب من جديد). واكتفى بأن ذكر أنه اشتمل على عدة قصائد من الغزل الرقيق..
وقد يتساءل القارئ عن هدف الأستاذ في التعريف بمحتوى الديوان، والحرص على ذكر عدد قصائد كل مجموعة أو باب من أبوابه، إذ يَستبعدُ أن يشغل الناقدُ نفسه، وقراءه، بهذه المعلومات التي يكفيه أن يلقي نظرة على الفهرس، ليجد كل هذه المعلومات، وفيها الكفاية من التفصيل. وقد نطيل التفكير والتأمل ومحاولة الفهم، فلا نجد إلاَّ أن الأستاذ قد اتخذ من هذا السرد التعريفي سبيله إلى الوقوف عند ما استحق أن يقف عنده من القصائد في كل مجموعة.. ونجد هذا واضحاً عند حديثه ((المختصر جداً)) عن عدد قصائد القسم أو الباب الأول، إذ يقول: (وقصائده ذات طابع قومي.. فقد جال الشاعر في هذا القسم في القضايا العربية والوطنية وكانت عنايته بالقضية الفلسطينية متجلية في هذا الباب.. ثم إنه لم يهمل التاريخ القديم الذي تقرأ صداه في عدد من قصائده في هذا الباب مثل (الزباء تبيع برقعها). ويسلك السبيل نفسها في وقفته عند قصائد الباب الثاني التي يقول إنها اشتملت على (أحاديث) عن حب الوطن.. كقوله: (ويقتطف هنا عدداً من أبيات القصيدة) ولكن دون أن يعطينا رأيه الناقدَ وكأنّه يريد أن ندرك نحن أن هذه الأبيات قد حظيت باستحسانه. مع أن البيت الأول منها يستحق أن يقف عنده الناقد وأن يطيل الوقوف بنظرة الفنّان المحس، خصوصاً وأن القصيدة مهداة إلى الشاعر الكبير الأستاذ السيد محمد حسن فقي: (تحية حب ووفاء).
والبيت الذي اختاره الأستاذ الناقد مستشهداً به للأحاديث عن (حب الوطن) هو الثالث من هذه القصيدة الطويلة.. ونصه:
بالحب تهتف أطيارُ الحياة هنا.. روضٌ ضحوك، فلا شيب ولا هرم.
وكلمة (هنا) في البيت يفسّرها في البيت الذي يليه في قوله (في موطن يلثم التاريخ جبهته).. والذي يستوقفني، هو هذا الروض الضحوك، إذ ما علاقة (الشيب والهرم) بالروض الضحوك؟ أتراه يريد أن يقول إنه في الموطن الذي يلثم التاريخ جبهته، ولذلك فهو سرمدي الشباب؟.. فلا شيب ولا هرم؟ ثم كيف يمكن أن نتصور روضاً يشيب ويهرم؟ أو لا يشيب ولا يهرم. وإذ تتعقّد أو تلتوي الصورة بالنسبة للروض الضحوك، نجد حكم القافية صارخاً وحاسماً، إذ كانت في بيت المطلع: (بالحب تأتلق الدنيا وتبتسم.. وبالوفاء تساقي صفوها الأمم).. فما دامت (الأمم) هي القافية في المطلع فليس أمام الشاعر إلاّ أن يعتصر مخزونه من القوافي مضحياً بالإشراق في الشطر الأول من البيت (بالحب تهتف أطيار الحياة هنا)، ليأتينا بهذا الروض الذي لا نرفض أن نستعير له الضحك، فنصفه بأنه الضحوك.. ثم نخضع لحكم القافية، ليقول الشاعر (فلا شيب ولا هرم).
وأجد نفسي مضطراً للوقوف عند البيت الذي يقول فيه الشاعر:
جيل ترعرع إخلاصاً وتضحية
سمح العريكة إلا حين ينتقم
حيث نجد حكم القافية هنا أيضاً.. إذ ليس الانتقام من الشيم التي تليق بالنفوس الكبيرة الأبية (في الموطن الذي أنبتت للمجد تربته جيل البطولات جيلاً كله قمم..) والذي كان يريده الشاعر هو (الثأر).. وأن يثأر البطل قضية مقبولة ومعقولة، وتكاد تكون طبيعية في التكوين النفسي، ليس عند العرب فقط، وإنما عند كل الشعوب.. أما الانتقام، فأرجح أنه مرفوض مع خصيصة السماحة والإباء والأصالة.
وبعد:
فهل أطاوع رغبتي في معالجة النظر في أدب الشباب، فأمضي مع ديوان هذا الشاعر ناقداً وأمضي مع ناقده ومقدمه الأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين محاوراً.. أم أعزف عن هذه الرغبة، التي يتراءى لي ما سوف تجرّه من جلبة وضجيج، يحسن بي أن أتجنبّهما؟
ذلك ما أرجو أن أصل فيه إلى قرارٍ في الخميس القادم إن شاء الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :913  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 19
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج