المخدرات في حياة البشر.. والفن.. |
والأطباء أو هم العلماء المتخصصون، ومنهم عندنا في المملكة الدكتور نبيل أبو خطوة، يستطيعون أن يضيئوا ساحة المعلومات، بالكثير الموسّع من تاريخ علاقة الإنسان بهذه المخدرات، مما قد يملأ مجلدات ضخمة.. ولذلك فإننا نترك لهم أن يقوموا بهذه الإضاءة إن لم يكونوا قد قاموا بها فعلاً.. ونكتفي بأن نلمح إلى أن (الحشيش) الذي يحمل اسم (القنّب الهندي).. ومثله ما يسمّى في أمريكا اللاتينية (الماريوانا) ويتدفق بالأطنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وأوراق الكوكا وهي من شجرة من فصيلة تعرف علمياً باسم (اريتروكسياون) ومنها يستخرج (الكوكائين) الذي يعرف علمياً باسم (كلوريدرات أوراق الكوكا) ويقول العلماء إن الطب استعمله بجرعات صغيرة، لإحداث نوع من التنبّه والنشاط الجسماني.. ولكن تعدد مرات استعماله يحدث خمولاً في الجهاز العصبي ويؤدي إلى الإدمان.. والإدمان في حد ذاته موضوع عالجه العلماء في بحوث طويلة، ليس في هذا المقال متسع لشرحها.. وحالة الإدمان هذه هي التي جعلت الطب يقلّل من الاعتماد عليه، ثم سنّت القوانين لتحريم تداوله. ولعلّ أشهر وأخطر مصادر المخدرات، (الأفيون) الذي عرفه المصريون القدماء واليونانيون، ثم العرب، الذين أدخلوه للعلاج إلى الهند فانتشرت زراعته، حتى أصبح من النباتات المستوطنة فيه، ومن الهند انتقل إلى الصين التي غرقت في أخطاره، وأصبحت من أهم البلدان التي تصدره، وانتشر استعماله بالتدخين والمضغ بين الصينيين ومنها انتقل إلى مسلمي آسيا الصغرى حيث كان استعماله شائعاً ومباحاً.. ومن هناك دخل إيران، وانتشر انتشاراً واسعاً، وأصبح يزرع علناً، وبالجوار انتقل إلى أفغانستان، وفيها انتشر استعماله على نطاق واسع، ومن أفغانستان، تسلّل إلى باكستان التي أصبحت معروفة بزراعته وتصديره، ثم بصناعة مشتقاته الخطيرة، ومنها (الهيروئين) وقد لا يجهل الكثيرون أنه يزرع في مواطن معينة في تركيا، وفي لبنان.. |
وأعجب ما في قصة هذه المخدرات أنها استعملت أصلاً للعلاج، وعلى الأخص (المورفين) لتسكين الألم، والتنويم الطويل، واشتقت منها أدوية التخدير في الجراحة.. ومن المعروف أن جميع العمليات الجراحية - والكبرى منها على الأخص - لا سبيل إلى إجرائها بدون التخدير التام أو الموضعي. وفي حالات آلام السرطان، التي لا تطاق والعياذ بالله، يعتمد الأطباء ليس على المسكّنات الخفيفة، وإنما على (المورفين).. والذي ينتهي بالمريض إلى الإدمان.. بحيث يصبح في حالة عصبية يرثى لها إذا لم يحقن بكمية من المورفين. |
إذا كانت الأسلحة الاستراتيجية واتفاقاتها، بين القوتين الأعظم، قد فتحت في نفق الرعب الذي يعيشه الناس منذ ذلك اليوم الذي دمّرت فيه الولايات المتحدة الحياة والعمران في هيروشيما وناجازاكي.. شبه نافذة صغيرة تهب منها نسمة يمكن أن تملأ جانباً من صدر الإنسان بأمل احتمال انعتاق البشر، أو العالم كلّه، من كابوس الدمار والفناء الأبدي.. وإذا كان ذلك هو ما تبحر فيه الصحف ووكالات الأنباء ومختلف وسائل الاتصال، فإن سلاح التدمير والتخريب الأخطر والأعظم، والقادر في نفس الوقت على معايشة الإنسان، وإقناعه الحاسم والصارم بهذه المعايشة، التي تختزن من الغرائب الكثيرة في تكوينها ومضمونها، أغرب ما عرفه تاريخ الإنسان من خطر، يعرف أنه قاضٍ عليه بالموت والدمار.. ومع ذلك يستقبله - بل ويجهد نفسه في البحث عنه والترحيب به والتلهّف عليه، وقد يحرم نفسه والجياع من أطفاله لقمة العيش، ليشتريه.. ليتناوله فينعم بفعّاليته المدمرّة التي تعرف طريقها إلى المخ والجملة العصبية.. وفيها تمارس عبثها القاتل الرهيب. |
هذا السلاح التدميري المخرّب، هو الذي اصطلحنا - وفي هذا العقد من السنين على الأخص - على تسميته بـ (المخدّرات) والذي كادت تتفق جميع دول العالم على مقاومة انتشاره بما كوّنته وقامت على تدريبه من شبكات الاصطياد والمنع والمصادرة، في وجه شبكات درّبت وأتقنت فنون الانفلات من كماشات الاصطياد، لتتسلّل إلى البلد الذي تجد فيه الطلب المتلهّف، المستعد دائماً لدفع الثمن، في أسواق الترويج بالجملة، التي تقوم بالترويج بالقطاعي، على اللاهثين خلف الجرام الواحد أو جزء من الجرام، بمئات الوسائل، وعلى أيدي الألوف من المروّجين وبينهم الأطفال الصغار، والفتيات، والشبان والشيوخ، يتواجدون في الشوارع، والدروب والأزقة، بل وحتى في المقابر، إلى جانب الحدائق وتحت أشجارها، وقد أعدت فيها المخابئ الخفية، يعرف أبالسة الترويج والتوزيع كيف يوفرّون فيها الحصص المقنّنة للذين يدفعون بسخاء. |
وهذه المخدرات التي تتعاون جميع دول العالم تقريباً على مقاومتها وتخليص مواطنيها من شرورها أو من خطرها، ليس فقط على الصحة بالنسبة لمن يتناولها، وإنما أيضاً بالنسبة للأبناء الجياع، والزوجة الشابة، والأخت الرعبوب، إذ يحرمون من لقمة العيش، لأن ثمن هذه اللقمة يذهب للجزء من الجرام من ذلك السم الزعاف. هذه المخدرات ليست شيئاً جديداً أو طارئاً في حياة البشر.. كل البشر، وليس منذ عهد أو فترة معينة من تاريخ حياة الإنسان، وإنما منذ ألوف السنين. |
ومع أن مقاومة جميع أنواع المخدرات والمسكرات، كانت القاعدة التي لم تتهاون فيها المملكة منذ تأسيسها، فإن ما أخذ يتفاقم من خطرها، دولياً، وما ظهر من حالات إدمان البعض عليها إلى حد يهدّد مستقبل الشباب، قد أدّى إلى تطوير المقاومة إلى الحد الذي أجمع فيه العلماء الأجلاء على فرض عقوبة القتل للمهرّب، والتعزيز للمروّج، وذلك ما أسفر - بحمد الله - عن تقلّص نشاط التهريب، والترويج، وكان من أبرز نتائج الحرص على تطبيق العقوبة أنها لحقت، وسوف تظل تلحق المتسترين بالسلك الديبلوماسي مما يضاعف من سطوة المقاومة، ولا شك في أنه سيكون له أثره الفعّال المباشر على تخليص المجتمع من هذه السموم، التي أصبح الهجوم عليها بالمقاومة والعقوبات الصارمة، ظاهرة تبشّر بأن تلك العلاقة الخطيرة التي قلنا إنها بدأت في حياة الإنسان منذ ألوف السنين يمكن أن تفتر، أو تنتهي، وإن كان ذلك سوف يستغرق زمناً أطول كثيراً مما يبدو لأول وهلة. |
وبين يدي اليوم، تحقيق موسّع في مجلة (فورتيون)، عن تجارة المخدرات في العالم أجد فيه ما يذهل عن (مافيا) هذه التجارة التي تجد أسواقها الجاهزة، في الولايات المتحدة الأمريكية، ربما أكثر من أي بلد آخر.. يكفي أن نعلم أن الذين يقبلون على شراء وتناول هذه المخدرات بمختلف أنواعها، قد بلغ عشرين مليوناً، وهو رقم متواضع إذ يقول التحقيق إن العدد أكبر من ذلك كثيراً.. أما الأموال التي تهدر لشراء هذه السموم في أمريكا وحدها فهي صاروخية الأرقام.. مليارات، وليس ملايين.. وكلّها تذهب إلى جيوب (أباطرة) هذه التجارة، التي يقول التحقيق إنها التجارة التي يبذل لترويجها، ليس المال فقط، وإنما الأرواح.. أرواح الذين يقتلون في المقاومة، أو في الامتناع عن الترويج. |
والمعلومات التي في هذا التحقيق، تعتبر من وجهة نظري معلومات قيّمة، قد تستحق أن تنشر على الجمهور، للتوعية، ولتفتيح العيون على (أباطرة المافيا) الذين يتمركزون في أمريكا الجنوبية، ولكن ليس هناك ما يمنع أن تكون لهم فروعهم في كل بلد.. |
بقي (الفن) والمخدرات.. أو هو (الأفيون) بالذات.. فقد عنيت كاتبة هي (آليثيا هافتر).. بتأليف كتاب بعنوان (الأفيون والخيال الرومانسي).. نشر منذ عام 1970، وهي تستعرض فيه علاقة (الأفيون) بالفكر الرومانسي عند ثمانية من أعلام الشعر الإنجليزي والفرنسي.. وتحاول في جهد متميّز أن تبدّد الوهم الذي يسيطر على أذهان بعض الفنانين، والشعراء وكتّاب الرواية والقصة، عن أثر الأفيون أو المخدر على الإبداع.. |
ويقع الكتاب في أكثر من ثلاثمائة صفحة، ويوم وجدته في لندن واشتريته، كان الذي شدّني أو أغراني بشرائه هو العنوان، وأذكر أني عكفت على قراءة بعض فصوله في (برلين).. ومع أن المؤلفة قد تجنّبت أسلوب الوعظ والنصائح، فإنها في النهاية تضع القارئ أمام الحقيقة التي تقول إن مزاعم الذين يروّجون لأثر المخدر على الخيال والإبداع في الشعر أو الرواية، واقعون تحت تأثير وهم كبير.. لعلّها استهدفت نوعاً من المقاومة الهادئة.. الحافلة بالنماذج الكثيرة لشعر وقصص أولئك الثمانية الذين عرفوا في تاريخ الآداب العالمية بأنهم كانوا من (آكلي الأفيون). |
|