المها الوضيحي |
العناية (بالحياة الفطرية) - وهي التسمية التي يبدو أنها المقبولة أو المتفق عليها ترجمةً للتسمية الإنجليزية (Wild Life)، مَلْمَحٌ آخر، وجديد نسبياً في المملكة العربية السعودية، وهو ملمح حضاري قد يتعذر فهمه على كثير من الذين يقرأون أو يشاهدون، أو يسمعون عن المسؤولين يتقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز يرأس نشاطاً عن (الحياة الفطرية) في المملكة، وتعرض الشاشة الصغيرة سرباً من حيوان، فوجئت برؤيته بعد أن غاب - حتى عن ذاكرتي - طوال ما يقرب من ثلاثين عاماً. وهو الذي قد لا أخطئ إذا زعمت أن اسمه (الوضيحي).. كنت أراه، في قصر شبرا في الطائف وكان يقال إنه لا يتواجد إلا في بادية نجد. وكان التعليل لغيابه، ومعه الغزال أيضاً، أنه (الصيد) الذي لم يكن يسيطر عليه تنظيمٌ من أي نوع لسنوات طويلة، بحيث ذهب الظن إلى أن الحيوانين قد انقرضا تماماً وإلى الأبد. وكان ذلك مما يؤسف له حقاً، وإن كان البعض يعلل للغياب أو الانقراض بسنوات الجفاف التي تعاقبت على الصحراء طوال عقود دون انقطاع. |
والعناية (بالحياة البرية)، إذا كانت ملمحاً حضارياً جديداً في المملكة، فهي تعتبر جديدة حتى في البلدان الأكثر تقدماً، إذْ ما أكثر الحيوانات البرية التي انقرضت أو كادت تنقرض، في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أستراليا وكندا. والدول الكبرى في العالم أصبحت معنية الآن بالمحافظة على هذه الحياة الفطرية، حتى في البلدان التي لا سلطان لها عليها مثل إفريقيا، التي اغتال الجفاف، والصيد، الكثير من حيوانها. |
والسؤال الذي وجدته يتردد على ذهني، حين رأيت أسراب (الوضيحي) هو: (كيف يا ترى عرفت اللغة العربية، والشعر العربي، الكثير من الحيوانات التي لم يبق لها أثر في شبه الجزيرة العربية، ومنذ قرون؟ على سبيل المثال لا الحصر، أسماء (الأسد، والنمر والفيل، والفهد). ومن غير السباع، (حمار الوحش، وبقر الوحش)، ومن الطيور، (النعام والحمام الزاجل، والبط، والأوز،والغُرنوق).. إن وجود أسماء هذه الحيوانات في اللغة العربية يؤكد أنها كانت موجودة ومألوفة في شبه الجزيرة العربية.. فكيف يا ترى عرفتها اللغة العربية ولا نرى لها أثراً اليوم؟ ومما ذهب إليه بعضهم، أن الأسد والنمر والفيل، قد انقرضت بعد انفلاق شبه الجزيرة عن أفريقيا، واندفاع البحر العربي، ليكوِّن البحر الأحمر، الذي فصل بين اليابستين.. ولكني أشعر أن هذا التعليل ضعيف، إذ إن هذا الانفلاق قد حدث منذ ملايين السنين.. وأستبعد أن يكون (اللسان) العربي قد وجد، ووجدت معه اللغة منذ هذه الملايين من السنين. والتعليل الذي أجده مقبولاً أو معقولاً، هو أن شبه الجزيرة كانت تتمتع بمناخ أقرب إلى المناخ الذي يتميز بالأمطار الموسمية أو غير الموسمية، مما جعلها شبيهة بالمناطق التي تقع على خط الاستواء، وهي مواطن هذه الحيوانات، وعايشها الإنسان العربي عهداً طويلاً ربما بلغ ألوف السنين، نمت فيه اللغة التي أميل إلى الاعتقاد بأن فيها ما يؤكد أن الإنسان العربي قد بنى أو عايش ازدهاراً حضارياً، إذا كنا لا نجد له آثاراً ظاهرة لأنها لم تجد من ينقب عنها، فإن هذه اللغة الغنية، أعظم الغنى، بالمفردات، بل وبما يتزاحم ويحتشد في هذه المفردات من قدرة على الإيحاء بكنوز من المعاني استطاعت بقدرة الله عزّ وجل أن تحمل أعظم رسالات السماء في أعظم كتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، هو القرآن الكريم، الذي واجه، ولا يزال، وسوف يظل يواجه إلى الأبد أعقد تطوراتِ الفكر وأعظمَ متغيرات الحضارة في جميع العصور.. إنها اللغة التي نستطيع أن نجد في مفرداتها الشواهد على ذلك الازدهار الحضاري الذي لم يكشف عنه التنقيب ولكنا نجده في مفرداتها أو المرادفات العديدة لهذه المفردات. |
ويتردد على ذاكرتي، وأنا أكتب هذه السطور اليوم، الكثير مما حفظت ونسيت من الشعر الجاهلي، يختزن أروع الصور الفنية لمناخ يختلف تماماً عن المناخ الصحراوي الجاف الذي نعايشه اليوم.. فعلى سبيل المثال عندما نجد في معلقة امرئ القيس قوله: |
كأن ثبيراً في عرانين وبْله |
كبير أُناس في بِجادٍ مزمَّلِ |
|
فإن الصورة هنا عفوية المنطلق، وأرجحُ الظن أنها لم تكن فريدة أو نادرة في حياة امرئ القيس، بل كانت مما كان يعايشه وينعم به. ومثلها قوله: |
كأنَّ مكاكي الجواء غُديَّةً |
صُبحن سُلافاً من رحيق مفلفل |
|
فهذه أيضاً صورة مناخ ينعم فيه الشاعر بالدعة ومتعة التأمل الذي يجعله يصور أسراب (المكاكي) وهي تصدح بتغريدها أو هديلها في بكرة الصباح منتشية بسلاف من رحيق مفلفل. |
وأما عن الظباء وغيرها من حيوانات يصطادها وهو على جواده فما أروع قوله: |
كأن دماء الهادياتِ بنحره |
عصارةَ حِنّاءٍ بشيب مرجَّل |
|
فإذا بلغ من وفرة الهاديات - وهي قوادم الصيد - أن يبدو رذاذُ دمائها على عرف الجواد، كأنه عصارة حناءٍ بشيب مرجَّل، فإنها الصورة التي يعايشها الشاعر في مناخ لطيف، وبيئة غنية بالظباء وبقر الوحش وغيرهما مما تلاحقه أُلْهِيةُ الصيد والصياد. وذلك لعمري، يؤكد أن الصحراء الجافة القاحلة التي تحيط بنا اليوم كانت مرتعاً للظباء، وللطير، وللحياة الوادعة التي تلهم الفنان صورة يرسمها بهذه المفردات من اللغة التي لا أكتفي بأن توصف بأنها ((اللغة الشاعرة))، بل أفضل أن أضيف أنها ((اللغة الحضارية)) في أرفع مستوياتها.. ومنذ ألوف السنين. |
* * * |
وللقارئ أن يعجب، كما عجبت أنا، حين وجدت ملحق مجلة اليمامة أو (ملفها الشهري) الذي لا يزال يصدر منذ شهور، يفتتح (أصواته)، بقصائد وصفها بأنها (جديدة) للأستاذ سليمان الفليح، ومن هذه القصائد تلك التي حملت عنوان (أمير الوحوش)، وموجّهة إلى (ذئب حديقة الحيوان) وإلى الدوسري مسفر دندنة. وما حملني على العجب أو الدهشة أن يكون حصاد اليوم عن (الحياة البرية) أو (الفطرية)، في صحرائنا التي أخذت تستعيد بعض حيوانها المفقود أو المنقرض أو لعلّه الهائم في قفار وراء غابات الإسمنت التي شهقت في حواضرنا الكبرى فجفل عنها ولاذ بالفرار حيوانها.. وأن يتصدر أصوات (اليمامة) هذا الشعر والشاعر، عن الذئب في حديقة الحيوان، أو عن (أمير الوحوش) كمّا أراد الشاعر أن يسمّيه، ربّما ليعزّيه عن الحرية التي فقدها، والقفار التي كان يجوب مفاوزها، يسبقه عواؤه، توجعاً واحتجاجاً على شح الصحراء، بما كانت تجود به عليه من صغار الظباء، أو شوارد الضأن. |
ولا أستطيع أن أدرك العلاقة التي رآها الشاعر بين قلبه و (أمير الوحوش) و (الدوسري مسفر دندنة)، ولكني أحاول أن أستوعب، بإعجاب بالغ، هذه المشاعر التي يمكن أن توصف بأنها مشاعر (الحياة البريّة) أو (الفطرية)، لا تشتعل وتتوفّز، إلا في جوانح الابن البار لهذه الصحراء.. وأجد كلمة (البار) وصفاً هو الأصدق لشاعر استطاع أن يتجاوز بهذا البر في بُنيته جميع المتراكم والعتيق من حواجز وعقبات الأداء التقليدي في قصيدة الشعر، فيهز الوجدان المحس، برحلة التسكّع العتيدة يزور فيها صاحبين هما (الذئب في حديقة الحيوان) وصديقه (الدوسري في الشقة الوحيدة). |
ولا يكفي أن أقول: (رائع إلى حد الاشتعال الصاخب).. حين يقول لهذا الذئب: |
فلا تخجلن.. ولا تخفض الرأس لمّا تراني.. |
إذا كنت في قفص.. فكلنا في البلاء سواء |
فأنت أسير الزنازين.. عبدٌ لحملقة الآخرين |
.. تلوب طوال النهار بـ (مترين) صارا إليك جميع القفار.. |
وقلبي يلوب بهذي المدائن.. منذ انحدرت إليها. |
لُعنتُ.. طُعنتُ |
ولكنَّ روحي تظل تزمجر، مثل الرياح بذاك الخلاء |
|
ويستدرك، وهو يتعمّق مشاعر هذا الذئب في المترين اللذين صارا إليه جميع القفار، كأنه يشفق أن يجرح كبرياءه، أو يعمّق هذا الجرح فيقول: |
ليس هذا عزاء.. |
فروحي وروحك، مثل الرياح تهب بكل زمان |
فتهدأ حيناً.. وتصخب حيناً |
ولكنها لا تدجن، مهما استبيحت |
ولا تقبل الاحتواء |
أمّا عن الدوسري.. فهو (غراب) جميل يعيش على الشعر والحزن والانطواء |
يغرّد حيناً فيشجي.. ويقطر بؤساً إذا مسّه الاكتواء |
يكويه عصره.. يلويه دهره |
ولكنه كعصا الخيزران.. يرفض الالتواء |
عن الكل.. كلهم في البلاء سواء |
مسفر.. وأمير الوحوش.. وقلبي |
كائنات تباد، وتبدأ، مذ يبدأ الانتهاء |
|
وأعلم كم سيزمجر أصدقاؤنا الذين يصرّون على الالتزام بذلك المتراكم العتيق من هذه الحواجز التي استطاع الشاعر الفليح أن يتجاوزها، وأن يبلغ الأعماق البعيدة عن مكان الصدق الفني في الوجدان المحس.. ولا أملك إلاّ أن أرجوهم أن يقرأوا هذه القصائد، ولكم يسعدني أن أجد أمثال هذا الابن البار لهذه الأرض، صحرائها وجبالها، وقفارها، ومفاوزها، وحيوانها، وشيحها وقيصومها.. يعيدون إليها، ليس عمود الشعر وأوزانه وقوافيه، وإنما (روحه) التي لا يحزنني شيء، كما يحزنني غيابها وغياب الظباء وبقر الوحش، والنعام والغرانيق. |
* * * |
أرجو أن لا أكون مغالياً، إذا صارحت نفسي والقرّاء، بأن حملة الأقلام، وقد أصبحنا نطلق عليهم مسمى (رجال الفكر)، قد استطابوا ركوب موجةٍ، لا تزال تبحر بهم بعيداً عن واقع المتغيرات في حياتنا كمجتمع، أو حتى كدولة تواجه مسؤوليات فرضتها ولا تزال تفرضها المتغيرات المتلاحقة، عربياً، وإسلامياً ودولياً.. ومع أن الصحافة أو الصحفيين لا تفوتهم متابعة وملاحقة الأحداث، وقد لا تقل التغطية بالتحليل وطرح المعلومات وسرعة الوصول إليها وتزويد القارئ بها، عن مثيلاتها في أي صحيفة عربية أو غير عربية، فإن ما ظل يلفت نظري - وأرجو أن لا أكون مخطئاً أو مغالياً حين أزعم أن من أطلق عليهم مسمى (رجال الفكر) قلما عُنوا بتغيير اتجاههم الذي كاد يصبح تقليديًّا، وهو هذا الحوار، الذي يحتدم تارة، ويسترخي أو يهدأ تارة أخرى، حول قضاياهم الخاصة، أو هو قضيتهم الأولى والكبرى، وأعني (الأصالة) و (الحداثة)، ثم ما ينشر من شعر، وقصص قصيرة، وبحوث نقد.. ومنها للأسف اقتناص سرقات يندى لها جبين التأهيل العلمي الأكاديمي الكبير. وفيما ينشر من الشعر، هذا الإسراف في ارتفاق صرعة أصلح ما توصف به أنها: (الجينز اللصيق)، لتأكيد الحداثة والاستغراق فيها، أو من جانب آخر، الإصرار على ملازمة عمود الشعر، وأوتاده، وقوافيه وظلال الخيمة العربية، بكل المعروف من أصالتها ونكهة العراقة في جوها. أما ما ينشر من القصص - وهو كثير متدفق يكاد لا ينقطع - فهذا الانتهاز الذكي، لما يتناثر من أقلام النقاد، من الرمزية، والأسطورة، والخرافة والكثير مما ترجم إلى العربية، من أدب أميركا اللاتينية، أو من أدب مدارس العبث واللامعقول، فتواجهك هنا وهناك، في الملاحق الصحفية، أو في المجلات، أو حتى في الجريدة اليومية، مساحة يتوجها التحرير، بكلمة: (قصة) وتقرأ العمود أو العمودين، وتجد نفسك، تتساءل: (أين القصة؟ وماذا أراد الكاتب أن يقول؟) وما أسرع ما تجد الإجابة فيما تكون قد قرأت منذ زمن بعيد، لنقاد ومحللين لأدب ماركيز أوريلكه، أو بيكيت، أو آداموف الخ، ممن استطاعوا أن يفسحوا المجال للادعاء، وللأدعياء، أن يهبطوا الساحة، بهذا الكلام الهلام، وأن لا يجد (التحرير) ما يمنع أن يسميه (قصة). |
ولكن أين (رجال الفكر) هؤلاء، من واقع المتغيرات في حياتنا كدولة تواجه هذه المسؤوليات الضخمة بكل معيار؟ وهي مسؤوليات تفرضها الأحداث المتلاحقة، عربياً وإسلامياً ودولياً؟ ويعفيني القارئ من ذكر أسماء من أطلقنا عليهم مسمى (رجال الفكر) إذ يكفي أن نذكر - وباختصار - أن حملة الأقلام الذين يملأون صفحات بكاملها، في كل جريدة بكلام عن الأصالة والحداثة، مثلاً، لا يعجزهم أن يعايشوا واقع الأحداث، وأثرها في حياتنا، كدولة تواجه منذ أكثر من عقد من الزمن متغيّرات، ما أكثر ما سمعنا عاهلنا العظيم فهد بن عبد العزيز، والقيادات المسؤولة حوله، لا يتحدث عنها فقط، وإنما يعالجها ويلاحق تطوراتها، بأسلوب لا يغيب عن فطنة السامع المتابع، ما فيه من التلميح الذي يغني عن التصريح، وليس التلميح في أسلوب الفهد إيثاراً للعافية، وتجنباً للإثارة، كما قد يبدو للبعض، وإنما هو طبيعة المستوى الرفيع الذي لا بد أن تلتزمه القيادة في موقعها الأسمى ومع مسؤولياتها الدقيقة. |
ما أكثر ما سمعناه، حفظه الله، يتحدث إلى أبنائه طلاب الجامعات.. وفي الحديث مبادرةً، أو إجابةً لما يوجّه إليه من أسئلة، قضايا، محلية، وعربية ودولية، وتنشر الصحف هذه الأحاديث.. ولعلّها تنشرها كاملة بحذافيرها، وقد يعكف رئيس التحرير على كتابة افتتاحية أو تحليل عنها، ولكن (أين رجال الفكر) عنها؟ ما أقلّ، بل ما أندر أن تقرأ للأستاذ (فلان) مثلاً، وهو مَنْ هو مكانةً مرموقة في المجتمع، وفي الساحة الأدبية على السواء متابعةً، تستكنه ما أفضى به الفهد العظيم، وتحاول أن تقف، وتستوقف عند موضوع بذاته، لا شك أن العاهل لم يتطرق إليه عفواً، أو من فراغ.. وحتى إذا حدث أن كتب أحدهم، عن هذا الموضوع بذاته، فإن ثلثي المقال يضيع في مقدمة تزدحم بعبارات الإطراء والثناء والمديح، وفي وهم الكاتب أن ذلك هو سبيله إلى أن يرضى عنه الملك أو أن ذلك هو ما أراده، حفظه الله، من كل ما قاله وصرّح به. |
وهنا أبيح لنفسي أن أقول إن خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، كما عرفتُه منذ كان أول وزير للمعارف، ثم وزيراً للداخلية، لم يكن قط الحاكم أو (الأمير) الذي يستطيب عبارات الإطراء والمديح. فضلاً عن أن يستكثر منها أو يتوقّعها ممن يكتبون عنه. أعتقد أنه يعلم أنها مجرد (إنشاء وكليشيهات محفوظة) ينزفها قلم الكاتب لتوهّمه أنها هي المطلوبة، وهي التي تُرضي، وهي التي تفتح أبواب القبول والاستحسان. |
ولا أحتاج فيما أقوله إلى دليل أكثر من حقيقة سطعت، ولا تزال تسطع منذ توارت رايات شعر المديح، برحيل أعظم أعلامه في تاريخ المملكة الحديث، وهو الأستاذ أحمد إبراهيم الغزاوي رحمه الله.. ولم يكن السبب هو رحيل هذا الشاعر الكبير، بل هو التطور في بُنية العلاقة بين الحاكم والمواطنين.. لم تعد هذه البُنية تعتمد على هذا النوع التقليدي العتيق من التواصل بين الحاكم وجماهير الشعب، بل أصبح اعتمادها الأساسي والأقوى والمتماسك، على صيغةِ تلاحمٍ فريدة بين ما عرف من مضامين هذا التلاحم في أنظمة الحكم المعاصرة في العالم العربي على الأقل، وتفردها آتٍ، ويتميّز من أنه (عفوي)، لم تفرضه أنظمة أو قوانين مكتوبة، بل كان، ولا يزال، إحساساً متبادلاً، ومقرراً، بأن الحاكم والمواطن كلاهما (مواطن) له وعليه جميع الحقوق والواجبات، التي قررتها الشريعة الإسلامية وفرغت من تقرير وشرح مضامينها منذ نزل بها الوحي في كتاب الله وأضاءت بها سنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. ومن هنا، فإن ما كان يجب أن يجد صداه العميق في نفوس رجال الفكر عندنا ليس فقط استغناء الملك (أو الحاكم إطلاقاً) عن عبارات المديح التي أسميها، ويعرف الفهد العظيم أنها مجرد (إنشاء وكليشيهات)، بل ذلك الموقف التاريخي الذي اتخذه العاهل الحبيب، يوم أعلن في المدينة المنورة، وعلى رؤوس الأشهاد، أنه اختار لقب (خادم الحرمين الشريفين)، متخلياً، و (آمراً) بتجنّب لقب (صاحب الجلالة)، في كل ما يرفع إليه، وما يكتب عنه، وما يذاع من أخباره، وتصريحاته. |
ولقد تم تنفيذ أمره، وبدقّة بالغة في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة أيضاً، ومع أني أحاول أن أتصفّح مروراً أكثر ما يتراكم في مكتبي من الصحف والمجلات - وقد يفوتني أن أقرأ الكثير - ولكن أرجح أني لم أقرأ لأكابر كتّابنا وأعلامهم، تعليقاً أو مقالاً ضافياً، عن ذلك القرار التاريخي، فضلاً عن (البحث) الذي يفترض أن تتفرغ له الأقلام الأكاديمية، مع أن هذا القرار، بأثره المباشر والعميق في حياتنا، يتيح للكاتب الباحث أن يجد له العلاقة (السلبية) بمسيرة الحكم والحكّام في تاريخنا الإسلامي منذ العهد الأموي، مروراً بالعهد العباسي، ثم بالأموي في الأندلس، وباستثناء عهد (الخلاقة العثمانية).. وأعني بكلمة (سلبية)، أن الخلفاء والملوك، في جميع العهود التي ذكرت، لم يتخلّوا عن ألقاب (الخلافة) أو (إمارة المؤمنين)، ولم يفكر أحدٌ منهم في هذه العهود، أن يفخر ويزهو ويعدَّ من ألقاب الشرف والتشريف لقب (خادم الحرمين الشريفين).. وقد استثنيت (الخلافة العثمانية)، لأن ألقاب السلطان كانت طويلة، في الواقع، ولكن من أهم هذه الألقاب التي كان يحرص عليها الخليفة أو السلطان، لقب (خادم الحرمين الشريفين).. كان اللقب: (خاقان البرّين والبحرين، وخادم الحرمين الشريفين، السلطان ابن السلطان.. السلطان فلان..).. فالملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، هو أول ملك عربي في التاريخ تخلّى عن لقب (صاحب الجلالة) وارتضى بدلاً منه لقب (خادم الحرمين الشريفين)، معلناً ذلك على رؤوس الأشهاد، في كلمة موجزة تضمّنت الرغبة، من جهة، وإحساسه بشرف اللقب وتشريفه، وتواضعه لله سبحانه إذْ لا جلالة إلاّ لله عزّ شأنه من جهة أخرى.. وتلك هي روح المسلم التَّقي الورع، وروح المواطن الذي يترفّع بهذا التواضع عن الاستعلاء والفوقية المتشامخة عن المواطنين كافة. إذ كل مواطن شرّفه الله وأكرمه بالانتماء إلى هذه الأرض، يشرُفُ ويعتزُّ ويفخر بأنه (خادم الحرمين الشريفين).. خادم الأرض التي شرّفها الله بأن جعل فيها بيته المحرّم يتجّه إليه المسلمون في صلواتهم الخمس، ويحجون إليه مؤدين فريضة الركن الخامس من أركان الإسلام، وكان من فضله سبحانه عليها أن احتضن ثراها جثمان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. |
كان الحدث عظيماً رائعاً، بل كان نقطة تحول تاريخية، قالت لأنظمة الحكم كلمة حاسمة، وواضحة وبعيدة الغور، وهي إن شرط الحكم الإسلامي، هذا التلاحم. والأساس الذي ينهض عليه بناؤه الشامخ، هو الترفع عن الاستعلاء والفوقية، وترسيخ الانتماء إلى الأرض بخدمتها، والخدمة هنا أداءٌ للواجب دفاعاً عنها وذوْداً عن حياضها وتضحية في سبيل الذرة الواحدة من ترابها. |
وكان من تصريحات العاهل العظيم، في جلسة مجلس الوزراء التي عقدت منذ أسبوع في الطائف، ما أفضى به حفظه الله عن (ظاهرة وجود بعض الأدعياء الذين يتخذون من الدين وسيلة لزعزعة الأمن في بعض الأقطار الإسلامية.. بعضهم عن جهالة بحقيقة ما تحتوي عليه تعاليم العقيدة الإسلامية من أصول الدعوة إلى كل ما فيه صلاح البشرية وخير هذه الأمة.. وبعضهم عن انحراف وانجراف مع أهداف المخططين المناوئين للمضامين الواضحة لجوهر الإسلام).. وأضاف حفظه (إنَّ علينا جميعاً أن نكون على حذر تجاه كل من يحاول الإساءة إلى أمن البلاد باستغلال الدعوة إلى الدين). |
وحين يصرّح العاهل العظيم بأن (علينا جميعاً أن نكون على حذر تجاه كل من يحاول الإساءة إلى أمن البلاد باستغلال الدعوة إلى الدين)، فإن وراء التصريح والتحذير الكثير مما يجب أن يُفهم، وأن تتجه الأقلام، وأجهزة الإعلام، والقيادات الإسلامية من العلماء الأجلاء، إلى التنبيه إليه والتحذير منه من التصرفات التي تسيء إلى أمن البلاد، باستغلال الدعوة إلى الدين.. والإساءة إلى الأمن كلمةٌ تستوعب في الواقع الكثير من التصرفات التي تخرج عن مضمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصل إلى حد التجاوز بالألفاظ الشرسة الحادة، والتهم التي تبلغ أحياناً حد القذف بالكفر.. والتدخل بالغلظة البالغة في التنبيه إلى تخلّف عن أداء الصلاة في المسجد القريب من البيت مثلاً، وقد يكون التخلف لعذر قاهر.. بل والتجاوز بالألفاظ الجارحة على من حلق لحيته، أو شوهد يأكل بالملعقة والسكين والشوكة، إذ في ذلك من وجهة نظر الواعظ تقليد لغير المسلمين، الخ.. |
إن مجالسنا، رجالاً ونساء، تحفل دائماً بقصص من هذا النوع، وليس لدي ما أثبت به ما أسمع، ولكن لا أشك أبداً في أن المختصين، في وزارة الداخلية، يسمعون الكثير عن هذه التصرفات التي تتزايد يوماً بعد يوم، والتي أصبح مما يقال، إن الدافع إليها ما يشاهد، أو يسمع، من تصرفات الطوائف المتطرفة، في بلدان عربية وإسلامية شقيقة .. وبغض النظر عن الدوافع، وعمّن وراء هذه التصرفات، فإن تزايدها الملحوظ، والذي لا يخفى أبداً على المختصين، جدير بأن يراقب، وان تتبعَّه الأجهزة المختصة بعيون مفتوحة، ولا أحتاج أن أقول، إن القضاء على البوادر قبل استفحالها، وانتشارها هو السبيل إلى أن نظل متمتعين بما منَّ الله به علينا من الأمن والاستقرار. |
|