شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثاني
حجرة الجلوس نفسها، ولكن باب الحجرة الداخلية ذا الضلفتين مفتوح هذه المرة عن آخره، والستائر الحمراء قد أزيحت عنه، وهكذا يمكن للمشاهد رؤية ما يجري في حجرة الجلوس كما يمكنه أن يرى أيضاً جانباً لا بأس به مما يجري في الحجرة الخلفية ومن أثاثها، وقد أضيئت الآن بأضواء قوية، وظهر جزء من البيانو كما ظهر أحد رفوف الزينة وفوقه صور فوتوغرافية وبعض الفازات، وظهرت أيضاً المدفأة، وفوق رفها ساعة رخامية أحدهم يلعب على البيانو وتبدو ليلى واقفة بالقرب منه (من البيانو) وهي تغني في صوت عذب ولكنه ضعيف بعض الشيء، أغنية ((غنِّني حتى أنام)). حجرة الجلوس خالية. يمكن مشاهدة شفيق مستنداً في الحجرة الداخلية إلى رف المدفأة. تبدو سناء، وهي فتاة جميلة شقراء كثيرة الضحك على كل شيء وأي شيء.. وقد جلس إليها، وعلى مقربة شديدة منها، بهاء، وهو شاب وسيم الطلعة ولكنه هزيل بعض الشيء، في الواحدة والعشرين تقريباً من عمره، بينما وقف شوقي بحذاء النافذة.
يدخل رفيق من الباب الأيمن في هدوء إلى حجرة الجلوس عبر الغناء، يشترك كل فرد في الغناء عندما تأتي ليلى إلى نهاية كل مقطع فيما عدا رفيق الذي يبقى في حجرة الجلوس الخافتة الضوء جالساً على المقاعد وقد أشعل غليونه، تنتهي من أغنيتها وتجلس وسط تصفيق حاد وسيل من كلمات الإعجاب.
سناء: إني أحب هذه الأغنية حقاً.
بهاء: والآن فلتغن أنت شيئاً.
سناء: (تقهقه ضاحكة) لا أستطيع.. لا أستطيع حقاً أنت تعرف أنني لا أستطيع.
بهاء: بل تستطيعين.. تلك الأغنية الصغيرة اللطيفة، الشبيهة بأغاني الزنوج التي غنيتها ليلة أن كنا في منزل أسرة ريتشارد.
سناء: إني مصابة ببرد.
ماجدة: (وهي تترك العزف على البيانو مبتعدة عنه) أجل إنك مصابة ببرد حقاً.
سناء: (ضاحكة) إنها الحقيقة.. مصابة ببرد فعلاً علاوة على أني لا يمكنني الغناء بعد مدام ليلى.
ليلى: سناء، أرجو أن تغني من فضلك.
شفيق: نحن جميعاً في الانتظار.. يا آنسة سناء.
سناء: أوه من فضلك.. لا يمكنني.. دعوا أحداً غيري يغني قبلي.
(ماجدة توليهم ظهرها وتقبل نحو حجرة الجلوس التي يجلس فيها رفيق فتلمحه، وتدخل إليه، بينما سناء ما زالت تمتنع عن الغناء، وليلى وشفيق وبهاء يرجونها).
ماجدة: أنت هنا.. بمفردك؟
رفيق: هه!
ماجدة: ماذا بك؟
رفيق: لا شيء.
ماجدة: لماذا لم تحضر إلى الحجرة الداخلية؟
رفيق: أستطيع أن أسمع جيداً من هنا. أشعر ببعض الصداع وأحاول أن أصرفه بالتدخين.
ماجدة: كلا، ليس الأمر أمر صداع.. وإنما هو رحيل شوقي.
رفيق: (متضايقاً) لست حزيناً من أجله.. إن كان هذا ما تقصدين إليه.
ماجدة: لم أقل هذا... هل ضقت بكل شيء؟؟
رفيق: ضقت؟؟ إن في وسعي أن أتخلص من كل هذه الحياة المضجرة منذ الغد إذا.. (يكف فجأة).
(يسمع صوت ليلى من الحجرة الأخرى بوضوح).
ليلى: حسناً.. سنطلب من الأستاذ شوقي أن يغني أولاً.
سناء: أوه.. لا أستطيع حقاً أن أغني.
رفيق (في مضض): لماذا لا تغني الفتاة ما داموا يطلبون منها ذلك؟
ماجدة: تقول إنها مصابة ببرد (تضحك ضحكة قصيرة).
رفيق: هراء! إني أسمي ذلك تصنيعاً.
ماجدة: إن بهاء غارق لأذنيه.. ألم تلاحظ؟
رفيق: (في دهشة) معها؟
ماجدة: طبعاً.. إن ليلى هي التي جمعت بينهما.
رفيق: ولكنه لم يزل صغيراً.
ماجدة: في الواحدة أو الثانية والعشرين.
رفيق: وهل هذه سن يتزوجون فيها؟
ماجدة: كثيرون من الرجال يتزوجون في هذه السن.
رفيق: إنهم حمقى، يكبلون أنفسهم وهم لم يروا شيئاً بعد في هذا العالم.
ماجدة: (وهي تفكر) لست أفهم.. ولن أفهم ما الذي يدعو أي رجل إلى الزواج؟ أليست الفرصة متاحة أمامه عن آخرها لكي يرى كل شيء في العالم.. ولكي يفعل ما يشاء؟.. ولكنه يترك كل ذلك ويتزوج، وينتهي كل شيء ويصبح رب أسرة قبل أن يبلغ الرابعة والعشرين..
رفيق: التقاليد.
ماجدة: لو كنت رجلاً.. ما بقيت في إنجلترا أسبوعاً واحداً. ولظللت أجوب العالم طوال حياتي.
(يتململ رفيق في مقعده، ثم يقوم فيذرع الحجرة ذهاباً وإياباً، وتمضي ماجي في حديثها) لو كنت رجلاً..
رفيق: (مقاطعاً إياها) الرجال لا يستطيعون أن يفعلوا كل شيء.
ماجدة: أقول.. أليس مما يدعو إلى الإعجاب ألا يلقي أستاذ شوقي بالا إلى شيء.. وأن يقوم بهذه المغامرة؟
رفيق: لو كنت مكانه.. لفعلت نفس..
ليلى: (تقترب من الباب الذي بين الحجرتين ويسمعان صوتها) أين رفيق؟ أراهن أنه قد أشعل مصباحاً وراح يبحث عن الحشرات والديدان التي تؤذي ما زرعه.. مستعد الآن للغناء يا أستاذ شوقي..؟
ماجدة: إني أتساءل.. عما قد تفعله ليلى.. لو أنك..
رفيق: (يعتريه الاضطراب ويمعن النظر في وجه ماجدة) لو أني ماذا؟ عما تتحدثين؟
ماجدة: ولماذا لا تفعل مثل شوقي؟
رفيق: أفعل مثل شوقي؟؟ أليست هناك آلاف الأسباب التي تمنعني؟
ماجدة: هناك ليلى بالطبع.. ولكن..
رفيق: إنها لن تفهم إذا ما حذوت حذو شوقي.. ستعتقد أنني هجرتها.
(فترة سكون)
ولكن.. ثمة أشياء أخرى.. إنني قد أستطيع إقناع ليلى.. غير أني أشغل وظيفة جيدة.. وظيفة تضمن لي الآمان حتى آخر العمر.. فهل ألقي بها ببساطة في البحر؟ ثم إن هناك أفراد أسرتك وما سوف يقولونه.. سيقولون إنني فررت من ليلى.. وسيبدو الأمر طبعاً كما لو كنت قد فررت منها فعلاً.. (يشرع شوقي في غناء أنشودة ((فلنرحل إلى الدار البيضاء))) (فترة سكون أخرى).
إنها مغامرة مستحيلة.. وقد لا أجد هناك عملاً.. فماذا يكون موقفي..؟ (تغطي على صوته أصوات الموجودين في الحجرة الأخرى وهم يرددون وراء شوقي مقطعاً يقول ((ومعي حقيبتي مشدودة إلى ظهري))).
(طرقات على الباب الخارجي للمنزل).
ماجدة: أظن أحدهم يطرق الباب (تخرج من الباب الأيمن، ويتوقف رفيق عن السير في الحجرة، ويجلس على حافة المائدة، منصتاً إلى الغناء. تعود ماجدة بعد أن فتحت الباب يتبعها كمال. وهو رجل متوسط العمر، قصير القامة ونحيف، ذو تصرفات هادئة، تنعكس عليه صورة من صراع الأيام فهزمته.
ماجدة: لم يكن أستاذ كمال يريد الدخول عندما سمع صوت الغناء.. لقد ظن أن لدينا حفلاً..
(تدخل الحجرة الأخرى).
رفيق: كلا.. ليس لدينا حفل أو شيء من هذا.. إن أفراد الأسرة ينشدون بعض الأغاني..
كمال: لقد أصرت آنسة ماجدة على أن أدخل.. والواقع أنني أفضل الحضور في وقت آخر..
رفيق: هراء! تفضل بالجلوس.. سوف أسدل الستائر إن كان ثمة شيء خاص قد جئت من أجله.. أرجح أنك جئت بشأن شتلات زهور الجيرانيوم.. حسناً.. سننتهي من هذا الأمر.. ثم ننضم إليهم بعد ذلك إن لمست في نفسك الرغبة في ذلك (يسدل الستائر ويشعل الضوء في الحجرة.. أليس كذلك؟ إنه سيرحل ليجرّب حظه في المستعمرات.
كمال: حقاً؟
رفيق: نعم.. ولسوف نشرب بعد قليل نخب صحته بمناسبة رحيله.. ماذا لديك من أنباء؟
كمال: لم أشاهدك اليوم في القطار.
رفيق: أجل، فقد تأخرت عن ميعادك، أنا ورضا عدنا سوياً.
كمال: لقد أرسل رئيس القسم في طلبي.
رفيق: بشأن العلاوة.. في؟
كمال: وهل تبدو علّي صورة من حصل على علاوة؟ إن الأمر على العكس من ذلك.
رفيق: هل أوقفوا العلاوات؟
كمال: (يومئ برأسه ويتحدث ببطء) قال لي إنه قد طلبني بصفتي أقدم موظفي القسم، وأوضح لي أن الشركة تعاني هذا العام مالياً.. وإنهم لا يستطيعون منح الموظفين علاواتهم الاعتيادية.
رفيق: أو سيحرمون الجميع؟
كمال: الجميع.. ألم يصلك خطاب من الشركة؟
رفيق: كلا.. لماذا؟ هل استغنوا عني؟
كمال: كلا.. لا شيء من ذلك، ولكنهم سيعرضون عليك نفس ما عرضوه علي.. أن تقبل البقاء في الشركة مع تخفيض مرتبك.. أو ترحل.
رفيق: (يعود إلى السير في الحجرة ذهاباً وإياباً) وماذا عساك أن تفعل؟
كمال: ماذا عساي أن أفعل؟! سأبقى طبعاً أهناك شيء غير ذلك؟
رفيق: أستخضع لهذا الإجحاف؟
كمال: وهل ثمة حل آخر؟
(يسمع صوت ساعي البريد وطرقاته).
رفيق: إنه ساعي البريد.. انتظرني لحظة.
(يخرج من الباب الأيمن ويعود بعد لحظات وفي يده خطاب. يغلق الباب).
رفيق: ها هو الخطاب (يفتحه وبقوة ثم يلقي به فوق المائدة).
كمال: إنها صدمة..؟
رفيق: إنني.. لم أكن أتوقع ذلك.. هل كنت تتوقعه؟
كمال: لم أكن أتوقع شيئاً كهذا.. لغاية الأسبوع الماضي. وعندما بدأ ممدوح أبحاثه في مراجعة المهايا والمرتبات.. أدركت أن في الأمر شيئاً.
رفيق: ألا نستطيع أن نفعل شيئاً؟
كمال: كلا بدون شك.
(يفتح الباب وتنفرج الستائر عن ليلى)
ليلى: رفيق أأنت هنا؟ هل ستبقى إلى الأبد بمفردك دون أن تنضم إلينا.. من؟ أستاذ كمال.
(ينهض كمال واقفاً ويتصافحان).
كمال: مساء الخير.. أخشى أن أكون قد ضايقتكم في وقت غير ملائم.. ولكنني أردت مقابلة زوجك لبعض أمور تتعلق بالعمل.
ليلى: سوف تبقى لتشاركنا طعام العشاء.. ويمكنك أنت ورفيق أن تتحدثا إلى ما شاء الله في العمل طوال الوقت.. إن رفيق لا يميل كثيراً إلى الموسيقى... أليس كذلك يا عزيزي..؟
رفيق: أميل أحياناً إليها.
ليلى: ليتكما سمعتما أستاذ شفيق وهو يزوّد أستاذ شوقي بنصائحه حول ما يفعله عندما يصبح وحيداً وأعزب في أستراليا.. لقد جعلنا جميعاً نقهقه ضاحكين.
(تعود إلى الحجرة الداخلية وهي تضحك)
رفيق: يا له من حمار غبي.
كمال: (مجفلاً) ماذا؟
رفيق: ذلك الرجل شفيق! لو أنه ذهب إلى أستراليا لفترة من الوقت لصلح شأنه.. إنه من النوع الذي يظل متشبثاً بوظيفته.. حتى لو خفضوا مرتبه إلى شلنات.. فهو لا يملك ذرّة من الأنفة أو الكبرياء.
كمال: حسناً.. إننا. أو أنا على الأقل سأقبل البقاء في الشركة.. وأنت أيضاً على ما أعتقد..
رفيق: (متحدياً) وما الذي يدعوني إلى البقاء؟ أو يحول دون تركي لهم. لماذا لا أذهب إلى ممدوح وأواجهه قائلاً: ((اصغ إلي! قل للمسؤولين في الشركة إنني، ببساطة، لن أخضع لهم! وإنني لن أقبل أن يرتفع مرتبي وينخفض، أو أن آخذ هذا أو ذاك.. طبقاً لمشيئتهم.. وبحسب أهوائهم)).
(تدوي أصوات ضحكات صاخبة في الحجرة الأخرى).
كمال: كل هذا جميل.. ولكن.. ألديك عمل آخر في انتظارك..؟
رفيق: (في حدة) كلا.. بل إنه ليست لدي أية فكرة عن عمل آخر.. ولكن هل يكون هذا مبرراً لكي أرضخ لهم وأبقى في الشركة..؟ أنظر إلى شوقي.. لقد ركل وظيفته بقدمه دون أن يخفض أحد مرتبه.
كمال: (في هدوء) شوقي؟ آه.. قلت لي إنه سيرحل إلى المستعمرات. مغامرة خطيرة. لقد أوشكت ذات مرة. أنا نفسي أن أذهب إليها.
رفيق: وما الذي منعك؟
كمال: أشياء عديدة.. وقد أبدى جميع أهلي ومعارفي معارضتهم للفكرة، ومع ذلك فأي فائدة كنت سوف أجنيها لو رحلت؟ لقد كانت نزوة عابرة على ما أعتقد. إن المرء إذا ترك عمله في هذه الأيام فإن الحظ لن يسعفه للحصول على عمل آخر.. فالناس قد زاد عددهم.
رفيق: لا شك أن البقاء أأمن.. وأنه عين الحكمة.. ومنتهى العقل.. إلى غير ذلك من تلك الألفاظ التقليدية.. ولكنني أراه جحيماً.
كمال: لقد انتابتك الفكرة فجأة، كما شعرت أنا من قبل (يضحك ضحكة صغيرة) ولكنك لن تلبث حتى تهدأ وتصرف النظر عنها.. تماماً كما حدث لي. إنك ما زلت صغيراً، وستدرك كل شيء بعد زمن قصير. (يتنهد) حسناً.. هكذا شاءت الظروف (فترة سكون) ولكنني كنت أنتظر العلاوة بفارغ الصبر.. فالأمر بدونها يختلف. (يشد قامته ويجمع شتات نفسه) ومع ذلك فإنه لا مفر من الرضوخ، فما زلنا نعمل ونحصل على مرتباتنا.. وما زلنا في مأمن من الفقر، وهما أمران يتمناهما كثيرون من الناس، يؤسفني أنني قمت الليلة بزيارتك يا رفيق..
(يسمع صوت شفيق وهو من يطلق حنجرته أغنية فكاهية فيبتسم) يبدو أنه لا يحمل للدنيا هماً.
رفيق: ألا تنوي البقاء لتناول العشاء؟
كمال: كلا.. شكراً لست الليلة في حالة تجعلني رجلاً اجتماعياً.
رفيق: (وهو يضحك ضحكة قصيرة) ولا أنا.. أيها الصديق.. والحقيقة أنني.. منذ قبل حضورك أعاني انخفاضاً في معنوياتي.
كمال: حالة بسيطة من القلق وستزول بعد قليل. طالما انتابني مثل هذا الشعور فيما مضى. (يخرجان).
(تنفرج الستائر عن آخرها ويدخل شفيق ومعه بهاء).
شفيق: عفواً إن كنا سنقاطعكم (يتلفت حوله فلا يجد أحداً).. الحجرة خاوية على عروشها (ويعود رفيق بعد تشييعه لكمال) أين من كنت تتحدث معهم في العمل؟
رفيق: إنه كمال.. كان هنا، وقد رحل لتوّه.
شفيق: كمال، إنه ليس بالرفيق المرح..
رفيق: (في غضب) لماذا؟ ما الذي يعيبه؟
شفيق: ليس رفيقاً مرحاً.. هذا كل ما في الأمر.
رفيق: إنه متواضع.. وليس كثير الصخب، لقد ذكر لي الآن أنه أوشك ذات مرة أن يهاجر. (يدخل شوقي ويسمع ما قاله رفيق).
شوقي: ولماذا لم يفعل؟
شفيق: ليست لديه الجرأة.. إن الكثيرين غيره طالما فكروا في الهجرة وأوشكوا أن يرحلوا.
رفيق: وأنت..؟ ألم تفكر؟
شفيق: (في حماس) إني مرتاح تماماً حيث أنا. ولقد كنت أقول لصاحبنا هذا (مومئاً إلى شوقي) منذ قليل إنه أحمق.. ولكنه لم يصدقني.. وذكر لي أنه يكون أحمق في المهجر عن أن يكون عاقل في هذه البلد.. ولست أفهم تماماً ما يقصد.. ولكن يبدو لي أن في رده شيئاً من البراعة (متحدثاً بطلاقة وهو يلوح بغليونه وهو يواجه الرجال الثلاثة الواقفين أمامه) ما أكثر ما صادفني من شبان أرادوا الرحيل.. فهذا أبوه يسيء معاملته، وآخر يشكو الفراغ، وثالث تنهش الغيرة قلبه لتصرفات فتاته وتوافه أخرى كثيرة من هذا القبيل.. إذن فينبغي أن يرحلوا وقد عرفت نفراً قليلاً رحلوا فعلاً.. وما أشد ما ندموا، أن أحداً لا يستطيع أن يجد في المستعمرات عملاً. اقرأوا كتب الهجرة.. اقرأوا ما تكتبه الصحف.. فشل على طول الخط والبطالة سائدة. والمستعمرات لا ترحب إلا بذوي رؤوس الأموال. أما أمثالكم.. فليسوا بمرغوبين هناك..
رفيق: ولا مرغوبين في هذه البلدة..
شفيق: طبعاً لا، ولكن (ملوحاً بذراعه في تأكيد).. ولكن.. ها أنت ذاهب.. ولديك عمل، وهذا هو بيت القصيد، إن شعاري هو ((تشبث بما بين يديك.. وأبت حيث أنت)) إن شوقي حمار كبير إذ يترك وظيفة راقية.. ويستحق الفشل الذي يصادفه.
شوقي: ألم تضق مرة بحياة المكتب يا شفيق؟
شفيق: أبداً.. ولكنني رأيت كثيرين ضاقوا. أؤكد لكم أن من نعم الدنيا أن يكون لدى المرء في هذه الأيام وظيفة مضمونة، وكم من أشخاص عديدين يثلج قلوبهم أن اختطفوا وظيفة يا شوقي.. أو وظيفتك يا رفيق. في الأسبوع الماضي أعلنت الشركة التي أعمل بها عن حاجتها إلى شخص يؤدي عملاً مؤقتاً بمرتب بسيط، فتقدم خمسمائة وخمسة عشر رجلاً.. خمسمائة وخمسة عشر تصوروا يؤسفني أن أقول ما لا يرضيكما.. ولكنها الحقيقة..
شوقي: ولكن مجال الزراعة مفتوح هناك على مصراعيه.
شفيق: زراعة؟ وما الذي يستطيع موظف محدود أن يفعله بحق الشيطان في مجال الزراعة؟ إنه إذا ما أمسك بفأس سيظنه قلماً.. ويحاول أن يضعه خلف أذنه.. (ينفجر بهاء ضاحكاً) وهو عديم العضلات، إذا ما انحنى انقضم ظهره.
رفيق: كفاك تهريجاً يا شفيق.. من يقول إن شوقي رجل ضعيف؟ ثم انظر هنا (يخلع سترته ويشمر عن ذراعيه مستعرضاً عضلاته) ما رأيك في هذا؟
(ينظر شوقي بإعجاب إلى عضلات رفيق. ويقترب شفيق متحسساً عضلات رفيق بينما ينظر بهاء إلى ما يجري أمامه وهو يبتسم).
شفيق: إنها عضلات صالحة لزراعة حديقة منزلية صغيرة.. أو تظن نفسك خبيراً ضالعاً في الزراعة، لأنك تزرع بعض نباتات البسلة؟
رفيق: (يضع يديه في جيوبه دون أن يعيد، أكمامه إلى ما كانت عليه) لست أظن إطلاقاً أنك اخترت لنفسك شيئاً.. إن أباك هو الذي اختار لك.
بهاء: (لرفيق) أقول.. ما الذي يعيب العمل المكتبي..؟
رفيق: ستعرف بعد أن يزيد عمرك بضع سنوات.
شفيق: إن حمى الأرض والزراعة قد أصابت رفيق. (لرفيق) ابحث لك عن رقعة كبيرة من الأرض فتشفى.. إن حديقتك أضأل من أن تلائمك.. أمعك تلك الخريطة يا شوقي؟
شوقي: إنها في حجرتي.. هيا نصعد إلى الطابق الأعلى.
شفيق: أتوجد مدفأة في حجرتك؟
شوقي: كلا.
شفيق: اصعد إذن إذا سمحت واحضرها وسأنتظر عودتك هنا.
(يخرج شوقي وينهض شفيق فيدخل الغرفة الأخرى).
بهاء: أقول يا رفيق..
رفيق: نعم؟
بهاء: لقد حصلت على ترقية.
رفيق: أهنئك.. ما أحوجني إلى مثلها.
بهاء:أسند فريد إليّ وظيفة كرم.
رفيق: كرم؟
بهاء: استغنوا عنه.. لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة له.. ولكن ما حيلتي؟ أكان في استطاعتي أن أرفض؟
رفيق: أظنهم أسندوا الوظيفة إليك بمرتب أقل مما كان يتناوله؟
بهاء: تقريباً.. ولكنني حزين جداً من أجل كرم، فقد تخطى سن الشباب، ومن العسير جداً أن يحصل المرء على عمل وهو في منتصف العمر.
رفيق: أعتقد ذلك.. أنت على أية حال محظوظ.
بهاء: نعم.. لقد تمت ترقيتي بأسرع مما كنت أتوقع.
(يجلسان في سكون ويعود شوقي ويتجه إلى الغرفة الداخلية).
أقول يا رفيق.. كيف بدأتما حياتكما..؟
رفيق: هه! ماذا تعني؟
بهاء: أنت وليلى..
رفيق: (متمعناً في وجه بهاء) آه... هذا إذن ما تقصد؟ أنت تعرف مثلي أننا نقيم في هذا المنزل المكون من ثلاث حجرات.
بهاء: وهل الحياة الزوجية مكلفة؟
رفيق: إن عليك أن تراعي الحرص في اختيار شريكة حياتك.. إذ ينبغي أن تكون مدبرة..
بهاء: إذا كنت ستحوّل الأمر إلى مزاح.. فلنكف عن الحديث..
رفيق: لا تكن أحمق.. أنت تتقاضى غالباً بعد ترقيتك تسعين جنيهاً.. وهو مبلغ يساعد على الزواج.
بهاء: أتعتقد ذلك حقاً؟
رفيق: أعتقد هذا من واقع تجربتي.
بهاء: ولكنك لم تسألني عن الزوجة المنتظرة.
رفيق: إنها سناء، وهي فتاة صغيرة جميلة.
بهاء: إنك تجيد التخمين.
رفيق: أنا لم أخمن شيئاً.. لقد قامت كل من ماجدة وليلى بترتيب الأمر..
بهاء: ترتيب الأمر؟
رفيق: عملتا على الجمع بينكما.. قالت ماجدة لي ذلك.
بهاء: (محنقاً) إنهما لم تفعلا شيئاً.. لقد قابلت سناء هنا.. وتعارفنا وارتاح كل منا إلى الآخر.
رفيق: إنها جميلة.
بهاء: نعم.. لها جاذبية غير عادية..
رفيق: كذلك الأخريات.
بهاء: .. ولكن.
رفيق: حسناً ألسن جميعاً جميلات؟ يبدو أنك لن تصغي إلى نصيحة ما.
بهاء: حول ماذا؟
رفيق: أنك أصغر من أن تتزوج الآن.
بهاء: أنا مشرف على الثالثة والعشرين، وقد كنت أنت في تلك السن عندما تزوجت.
رفيق: أجل.. كنت في سن لا ينبغي أن يتزوج فيها المرء.
بهاء: هل تقصد..؟
رفيق: (وقد نفد صبره) أوه لا تبدو هكذا مرتاعاً.. كلا.. أنا لست متضايقاً من ليلى على الإطلاق، والأمر ليس على هذه الصورة بالمرة.. ولكن هل يرضيك أن تبقى موظفاً كتابياً طول حياتك؟
بهاء: أستطيع أن أجزم بأنك متأثر بشوقي..
طبعاً يرضيني أن أبقى موظفاً كتابياً.
رفيق: هل يرضيك ذلك؟
بهاء: قلت إنه يرضيني.
رفيق: ألم تشعر ذات مرة برغبة في أن تركل قبعة العمل السوداء بقدمك.. وتلقي بها في نار المدفأة؟
بهاء: لم يحدث بعد.
رفيق: لم يحدث (بعد).. ها أنت قد فهمتني.. وعرفت أنه سيحدث مستقبلاً، ألم تشعر ذات مرة برغبة في مشاهدة العالم.. ألم يخالجك قط هذا الشعور؟
بهاء: (وهو يفكر قليلاً) مرة واحدة، أردت فيها أن أرحل إلى الخارج مع رأفت.. ولكن أبي لم يوافق. فقد كانت مغامرة لا تطمئن.. ثم حصلت على وظيفتي الراهنة.. وهكذا لم أرحل.
رفيق: وهل عاد رأفت بعد سفره؟
بهاء: كلا... فقد وجد عملاً لائقاً مريحاً.
رفيق: إنهم لا يفشلون إذن جميعاً؟
بهاء: كلا بالطبع.. ولكن عدداً كبيراً منهم يفشل. ربما كنت أحدهم لو رحلت.
رفيق: من رأيي.. لو كنت تفكر في شيء من هذا، أن تبادر بعمله، فالآن هو الوقت المناسب، ولن تستطيع أن تفعل شيئاً بعد، واقبل نصيحتي فلا تفكر في الزواج الآن، لأنك أصغر من أن تحكم في مسألة هامة كهذه.
بهاء: لست أصغر منك وقت أن تزوجت..
رفيق: لا تكن حساساً هكذا.. ألا ترى أنني إن كنت أتحدث إليك فإنما ذلك لمصلحتك.
بهاء: أظنك قد جننت.
رفيق: (في حدة) لماذا..؟ هل جننت لأن لدي فكرة عما سوف تكون عليه حياتك؟ إني لم أنقطع منذ كنت في السادسة عشرة من عمري عن التردد على عملي في المدينة ذهاباً وإياباً يومياً.. فهل أكون قد جننت إذا ما ألمحت أنها حياة رتيبة نوعاً ما؟ يتقدم نحوه ويضع يده فوق كتفه محدِّثاً إياه في لهجة جدية) أنا لا أجزم بأنها ليست الفتاة التي تلائمك.. ولكني أبدي فقط رأياً بأنها قد تكون كذلك.. إنها جميلة ولكنها في رأيي من النوع السهل المنال...
بهاء: (مقاطعاً إياه) لا أقبل منك هذا الكلام.
رفيق: لا تقبله إذن.. واعتبر نفسك لم تسمعه.. وكل ما في الأمر أن عليك أن تفكر.. وألا تتزوج.. أول فتاة جميلة تصادفك وتعيش في ثلاث حجرات لمجرد أن زوج شقيقتك قد فعل ذلك.
بهاء: لم تكن أول فتاة جميلة صادفتني..
سناء: (تظهر بالباب وعلى فمها ابتسامة محتشمة ولكنها متصنعة) إن مدام ليلى تقول لكما.. ما هذا يا أستاذ رفيق هل تتشاجران؟
رفيق: (يتذكر فجأة أنه لا يرتدي سترته وأن أكمامه مرفوعة) أستميحك العذر (يختطف سترته ويرتديها بسرعة) (مخاطباً بهاء) تذكر ما قلته لك.
بهاء: (وعيناه على وجه سناء) هراء (يخرج معهما إلى الحجرة الأخرى).
ليلى: (مقبلة من الحجرة الأخرى نحو رفيق) سمعت أحداً يتحدث عن ((مشاجرة)) ما لي أراك هذه الأيام تكثر من الجدال مع كل الناس وتصيح في وجوههم؟ الحق أنك تستسلم للغضب كلما ناقشت أحداً يا عزيزي... ألا تشعر بذلك؟ إن العشاء معدّ وقد أرسلت سناء لتخبرك بذلك.
رفيق: إن سناء تطعم بهاء.. وتبذل كل ما لديها من حيل وحركات متصنعة.
ليلى: يا لك من فظ ألا تعلم أنني غاضبة تماماً منك؟
إنك لم تدخل إلينا في الحجرة الأخرى مرة حتى الآن.
رفيق: كنت مع كمال.
ليلى: نعم رأيته.. إنه خائر تماماً كمن لا حياة فيه ألم تلاحظ ذلك؟
رفيق: قال إنني سأصير مثله بعد سنوات.
ليلى: أية فكرة سخيفة هذه...؟ كيف تتيح لنفسك أن تقول هذا؟
(يتحرك الموجودون وينتشرون في الحجرتين، ويقدم الرجال المشروبات إلى النساء ثم يتقدمون جميعاً إلى الحجرة الأمامية).
ليلى: إنك لم تغنِّ لنا شيئاً يا عزيزي رفيق.
ماجدة: إنه متعب.
ليلى: ليس إلى حد عدم استطاعته الغناء.
سناء: أوه! أرجو أن تفعل يا أستاذ رفيق.. أعرف أن غناءك رائع.. فقد قال لي بهاء.. أقصد أستاذ بهاء ذلك.
بهاء: صه، لا تكشفي أمري.. إنه زوج أختي.
رفيق: ليس الليلة، فحنجرتي ليست على ما يرام.
ليلى: ذلك لأنك تمضي كل الوقت في الحديقة.
شفيق: لا تقولي له هذا يا مدام ليلى، فهو يريد أن يرحل إلى المستعمرات ليمارس الزراعة... وقد يفت قولك هذا في عضده.
ليلى: يا لحماقتك يا أستاذ شفيق (لرفيق) ينبغي أن تتناول شيئاً حاراً عند ذهابك للفراش يا عزيزي.
شفيق: إني أحب دائماً أن أصاب بوعكة خفيفة من المرض لأن زوجتي تحنو علي وقتذاك وتصبح ممرضة رائعة.
سناء: أظن من أجل ذلك تتصنع المرض أحياناً أيها الأستاذ شفيق؟
شفيق: كيف عرفت ذلك؟ حسناً إن النساء لا يتحسسن أزواجهن بأناملهن الرقيقة في أي وقت وبدون سبب.. ولكن إذا أصيب الزوج ببرد خفيف أو سعال، فإن الحياة وقتذاك بهيجة.. إنني كثيراً ما أردد - بيني وبين نفسي، هذه الأبيات:
لي زوجة إذا رأتني معافى
أشبعتني هجرانا وإجحافا
فإن أصبحت يوماً سقيماً
ضحكت وصارت ملاكاً رحيما
سناء: لقد حان موعد انصرافي يا أستاذ رفيق.
ليلى: هل تريدين الرحيل حقاً؟ تعالي إذن لأعطيك حاجياتك.
(تخرجان)
(تسمع صوت طرقات آتية من خارج باب الحديقة فتبادر ماجدة بفتحه)
صوت من الخارج: هل زوجي عندكم يا مدام ليلى؟
شفيق: نعم.. نعم يا حبيبتي.. ها أنذا قادم.
(سناء وليلى تعودان)
شفيق: إن زوجتي قد نادت علي لأعود إلى المنزل.
ماجدة: وهل ستعود قفزاً من فوق السياج؟
سناء: أوه! افعل ذلك يا أستاذ شفيق.. أرجوك. أحب أن أراك وأنت تقفز.
شفيق: ما دام هذا يسرّك فسوف أفعله.. مع أنني لست بارعاً تماماً في القفز من فوق الأسيجة.
(يتزاحمون من حوله، ويصافحهم جميعاً وعلى فمه ابتسامة واسعة ثم يختفي داخلاً إلى الحديقة).
صوت من الخارج: احترس... أمامك أصيص للزهور.. من هنا..
شفيق: (هاتفاً من الخارج) وصلت بسلامة الله!
سناء: أعتقد أنه شخص ظريف.
ليلى: ظريف فعلاً.. هل ستعودين في الأوتوبيس؟
بهاء: إن طريقي هو نفس طريق آنسة سناء.
سناء: (في دهشة متصنعة) حقاً؟
ماجدة: يا لها من مصادفة عجيبة.
(تتبادل سناء القبلات مع ليلى وماجدة وتخرج مع بهاء).
ليلى: إنها لطيبة.. وبهاء غارق لأذنيه.
ماجدة: (وقد بدأتا ترفعان الصحون من فوق المائدة).
.. كما كان مع عايدة وشكرية و.. ما اسم تلك الفتاة ذات الشعر..؟
ليلى: شعر، ماذا تعنين؟
ماجدة: تلك الفتاة ذات الشعر المدلى فوق كل وجهها ويحجب عينها... وهو شعر جميل.
ليلى: آه! فايزة... يا بهاء المسكين! يؤسفني أنه مغرم بعض الشيء بمغازلة الفتيات.
ماجدة: إنه يكرس كل أمسياته لهذه الهواية.
ليلى: ثم يقول الناس من أمثال شوقي إن الحياة هنا مملّة.
ماجدة: حسناً.. أسعدتم جميعاً مساء.. كلا لا تأتي لتوصيلي يا أستاذ شوقي..
شوقي: ولكني مصرّ.. إذا سمحت لي..
ماجدة: أفضّل ألا تفعل.. ومع ذلك فأنت حر إن أردت.. (يخرجان مع ليلى).
(يتلفت رفيق وهو بمفرده حوله ويتنهد في ارتياح. يسير في الحجرة. وينظر إلى الحديقة من الباب الزجاجي، ثم يتناول الصحيفة... ولكنه بعد أن يحاول القراءة عبثاً يلقي بها على الأرض ويحشو غليونه بالتبغ ويشعله).
(يعود شوقي).
شوقي: أقول.. (يتوقف ولكن رفيق لا يتحرك) أقول يا رفيق أنه لم يخطر ببالي أنك ستفكر هذه الفكرة. لقد أعتقدت أنك ستعتبرني غبياً إذا رحلت إلى أستراليا، أجل، ظننتك أنت أيضاً ستراني مجنوناً. والحقيقة أنني كنت أشعر بشيء من الخجل من أن أذكر لك شيئاً عن الموضوع في أول الأمر. ولا لأي شخص آخر. فمعظم الناس لا يعجبهم هذا التصرف كما تعرف. إنني يا رفيق في موقف يبيح لي ما أفعله.. وهم مع ذلك يسمونني حماراً... ثم إنني أمتلك مبلغاً بسيطاً من المال.
رفيق: (بسرعة) إن لدي أنا أيضاً مبلغاً من المال.
شوقي: نعم.. ولكن ظروفي أنا وأنت مختلفة.. فأنا أستطيع مواجهة الصعاب.
رفيق: فلتأت هذه الصعاب وسوف أواجهها.
شوقي: أنت رجل متزوج (رفيق لا يجيب) أنت مستقر، وحولك أقاربك وأصدقاؤك.. أما أنا فليس لدي شيء من ذلك (فترة صمت يدخن كل منهما خلالها غليونه) لا تظل ساهراً وترهق ذهنك في التفكير.. انهض واذهب لفراشك.
رفيق: سأذهب بعد قليل.. قم أنت ولا تنتظرني..
(شوقي يخرج).
(تدخل ليلى وتسدل الستائر وتتأكد من أن مقبض الباب الزجاجي محكم الغلق).
ليلى: إني صاعدة إلى حجرة النوم، لا تسهر كثيراً فالإرهاق بادٍ على وجهك.
رفيق: (متضايقاً) لا تشغلي نفسك بي.. إنني مشغول البال قليلاً.. هذا كل ما في الأمر.
ليلى: (في صوت وديع) هل حمل أستاذ كمال إليك أنباء سيئة؟ كان الحزن عندما رأيته بادياً عليه.
رفيق: (محدقاً في عينيها) نعم.. لن أنال تلك الزيادة التي كنا ننتظرها في مرتبي.
ليلى: يا إلهي! يا لها من خسارة، لماذا يا عزيزي؟
رفيق: لأسباب كثيرة.. وهذا كل ما في الأمر.
ليلى: لك حق فيما يبدو عليك من ضيق. ومع هذا فلنحمد الله أن الأمر ليس أسوأ من ذلك.. كأن استغنوا عنك مثلاً.
رفيق: نعم.
ليلى: أمر محزن.. بعد كل ما خططناه للإفادة من هذه الزيادة. ولكننا سنستطيع أن ندبر أمورنا على أحسن وجه.. أتذكر ما قلته لك هذا الصباح حول المستأجر؟
رفيق: كفّي عن هذا بحق السماء.. ليست النقود هي التي تهمني.. ولكنه الاستسلام هكذا للأمر الواقع.. أريد أن أذهب إليهم وأقول، افعلوا ما شئتم.. ولكن ابحثوا عن أحد غيري.
ليلى: ولكن يا عزيزي.. قد يؤدي ذلك إلى أن تفقد وظيفتك.
رفيق: وسأفقدها.
ليلى: وكيف نعيش إذن؟ نحن الآن نعيش عيشة راضية... وأستطيع أن أدبر كل شيء..
رفيق: لقد ضقت ذرعاً بأن تظل أمورنا على ما هي عليه.
ليلى: وماذا تريد أن تفعل؟
رفيق: أريد الرحيل.. (فترة سكون)
ليلى: وتتركني..؟ إنه ذلك الرجل الفظيع.. أستاذ شوقي.
رفيق: هذا أمر لا دخل له فيه.
ليلى: بل له دخل فيه.. يريدك أن تذهب معه، وأن تريد الذهاب.. هل سئمتني؟
رفيق: (يقترب منها محاولاً أن يتحدث بلطف، ولكن نظراً لأنه في حالة معنوية سيئة فإن صوته يخرج حاداً) يا إلهي! كفّي عن البكاء.. أنت لا تفهمين الموقف.. أصغ إلي يا ليلى.. ما رأيك أن رحلت ثم لحقت بي؟
ليلى: أتريد أن ترحل بدوني؟
رفيق: لا أستطيع أن أصحبك معي يا عزيزتي.. ولكني سوف أرسل في طلبك بعد قليل.. بعد فترة لن تطول.
ليلى: تريد أن ترحل بدوني، لقد مللت الحياة معي..
رفيق: أبداً يا عزيزتي.. كفّي عن البكاء (يحاول أن يحتويها بين ذراعيه).
ليلى: (تشيح عنه وهي تنتحب) لقد كرهتني.
رفيق: إن كنت لا أود الرحيل فذلك لأني لا أرغب في أن أتركك.
ليلى: ولكنك قلت..
رفيق: دعك مما قلته (يقبّلها ويدلّلها كطفلة) هيا اذهبي للفراش.. إنها الأنباء السيئة التي حملها كمال وكل ذلك الصخب حول رحيل شوقي.. تعالي.. اذهبي إلى الفراش وسألحق بك بعد دقائق.
(يقودها نحو الباب وهو يداعبها.. ويظل بعد خروجها واقفاً عند الباب ثم يعود بعد لحظات إلى وسط الحجرة ليقف ساكناً وهو يفكر.. ثم يتلفت حوله كأنما يبحث عن شيء. يتجه إلى الحجرة الداخلية، ونراه وهو يبحث فيها هنا وهناك.. فوق المقاعد والبيانو، وأخيراً نراه وهو يلتقط ورقة من على الأرض ويحملها إلى المائدة.. إنها خريطة أستراليا التي يفردها فوق المائدة وينحني فوقها وغليونه المطفأ في يده اليسرى).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :866  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.