شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (‍13)
سبقته (نحنحته) وسعاله المصطنع بغرض التنبيه إلى وجوده ومجيئه، كما سبقته ابنته أم العيال والرضيع على خاصرتها، ولم يطل وقوفه في الساحة الصغيرة من الديوان، إذ سرعان ما اتجه إلى الصدر، ولملم أطراف معطفه الطويل، وجلس وهو يصلح وضع عمامته على رأسه... ثم مد يديه وذراعيه وهو يقول:
ـ هاتيه...
ـ بس زي ما أنت شايف يا بويا... مدهمل، ولسّه ما غسلت له وجهه ويدّينه.
ـ هاتيه... تعال يا حبيبي... تعال
وأخذ الطفل بين ذراعيه، وأجلسه في حضنه... ولكن الطفل سرعان ما زعق، وأخذ يتخلّص منه متجهاً إلى أمّه... فلم يملك جدّه إلا أن يتركه لها... فعادت تحمله على خاصرتها وابتعدت قليلاً... لتقول:
ـ قبل ما تيجي ستّي، يا ريت يا بويا ما تقول لها، من اللي سمعته عنّه... يعني... إذا كنت سمعت شي.
ـ ما هو اللي سمعته هو اللي خلاّني أجي في هادي الصبحية... هرج الناس كتير، ويخوّف يا زينب.
ـ يخوّف يا بويا؟؟؟
ـ أيوه يا بنتي... دول بيقولوا أنّو كتب كلام مو طيّب، في جريدة واحد نصراني في مصر.
ـ نصراني... قلت نصراني يا بويا؟؟؟
ـ أيوه واحد نصراني... من الأقباط في مصر...
ـ أعوذ بالله... يعني ما لقي جريدة يكتب فيها إلاّ جريدة النصراني.
ـ لأ... والمصيبة... يا بنتي يا زينب، الكلام اللي كتبه... يقولوا كلام موطيّب...
ـ لا بد أنّه كلام نصارى... صاحب الجريدة النصراني، ما يكتب في جريدته إلا كلام النصارى يعني يا بويا تظن أنّه أبو دحماني... سار نصراني؟؟؟
ـ أعوذ بالله... إيش هادا الكلام...؟؟؟ يا بنتي قولي خير... أبو دحماني عمره ما يترك فرضه... حتى ليلة دخلتك... صلّى بنا العشا جماعة... يعني كان هوّه الإمام...
ـ لكن يا بويا... أنا سمعته يقول لمّا يروح مصر، رايح يتعلّم إنجليزي...
ـ طيب وفيها إيه... أنا بنفسي باتمنّى لو أتعلّم الإنجليزي... واللي بيشتغل عندي الصبي الجديد في الدكان... عشان يعرف إنجليزي، بيقدر يقرأ الكلام المكتوب على علب مربّة الجنزبيل اللي بيورّدوها من الهند.
ـ بس برضه يا بويا، لا تقول لستي شي... دي تتجنّن... وتجنّنا معاها.
ـ يعني عبد السميع، ما قال لها شي؟؟؟
ـ أبداً... كل اللي قاله عبد السميع وحتى طاهر... أنّو في الكراكون...
ـ لأ... دا كان في الكراكون... لكن فيه ناس شافوه، وهمّا آخدينه على الفرن.
ـ وإيش يسوّو في اللي ياخدوه على الفرن.
ـ ولا شي... سليمان الخليفي رجّال طيّب... وابن حلال... بس ما أحد يدري عاد متى يخرج من الفرن... فيه ناس قاعدين من زمان...
وقبل أن يتم أبو زينب جملته، كان صوت العجوز يسبقها وهي تقول:
ـ يا رقية... الشاهي قوام لعمّك عبد الموجود.
ودخلت، وهي ترتعش في مشيتها، بحيث اضطرت زينب إلى أن تسرع إليها تساعدها إلى أن أجلستها في مكانها... في ذلك الركن الذي تلازمه دائماً، فلا يحتله أحد سواها... وقبل أن تتمكن من جلستها رحّبت بعبد الموجود، وهي تقول:
ـ عبد السميع قال لك أبو دحماني فين... موكده؟؟؟
ـ وإنتي الصادقة... عبد السميع ما شفته من ساعة ما وصلنا من جدة... أنا نزلت وتركته في السيارة مع صاحبه اللي ركبنا معاه... بس أنا سمعت أنو أبو دحماني في الكراكون وبعدين... جارنا البخاري، جاني بعد صلاة الصبح اليوم... وقال أنّو شافهم ودّوه الفرن وكعادتها في مثل هذه الظروف... صفعت جبهتها بكفّها وهي تقول:
ـ الفرن؟؟؟ جارك شافه وهمّ بيودّوه الفرن؟؟؟
ـ هادا اللي قاله... وعشان كده جيت أسمع منّكم... أبغا أعرف إيش الحكاية.
ـ الحكاية؟؟؟
ـ أيوه يعني... إن كان فهمتوا من أبو دحماني السبب اللي خلاّهم يطلبوه يودّوه الكراكون من ساعة ما وصل مكة... في الحقيقة عبد السميع، كان باين عليه وهوّه معايا في السيارة أنّو فاهم وعارف السبب اللي خلاّه يترك المدرسة في مصر، ويجي مكة لكن فضل ساكت... ما قال لي أي شي... يمكن عشان كان معانا صاحبه، اللي جابنا في سيارته.
ـ سار كده؟؟؟ عبد السميع يدري وما قال لنا شي...
وتدخّلت زينب تقول:
ـ يا ستي يمكن، أبو دحماني هوّه اللي قال له أنو ما يقول لنا شي.
ـ ولمّا يقول له كده... يعني الحكاية كبيرة... ما يبغانا ندري عشان لا نخاف...
طيب... يعني نفضل ساكتين؟؟؟ يعني... نخلّيه كده بدون ما نسوّي أي شيء؟؟؟
وعادت زينب تقول:
ـ بس يعني إيش نقدر نحن نسوّي يا ستي؟؟؟ لما تكون الحكاية كبيرة زي ما بتقولي ما يقدر أحد يسوّي شي...
ـ طيب... يعني نفضل ساكتين؟؟؟
وهنا تنحنح عبد الموجود، وهو يقول:
ـ أيوه... أيوه يا أختي... لازم نفضل ساكتين الين نعرف أصل الحكاية... الين نعرف إيش اللي حصل من أبو دحماني، لما كان في مصر... يعني إيش سوّا هوّه هناك.
وسكت لحظات ليضيف:
ـ هيّه اللي جايبها معاه... ما تدري عن شيء؟؟؟
ـ ضحى؟؟؟ يا عيني عليها... ما تدري عن شي... هيّه نفسها ما تدري إيش اللي حصل ولا إيش اللي رايح يسير... ما أدري إيش اللي خلاّه جابها معاه... ما كان أحسن يخليّها عند أهلها، ما دام عارف أنّو لمّا يوصل مكة رايح يروح الكراكون.
والتزم عبد الموجود الصمت، وشرع يلملم أطراف معطفه الطويل... وهي حركة تنبىء عن رغبته في إنهاء المقابلة... ولكنّه قبل أن ينهض من مكانه قال:
ـ على كل حال، أنا دحّين أروح الفرن... أحاول أشوفه وأتكلم...
وما كادت العجوز تسمع كلمة (الفرن) حتى قالت بصوت مرعوب:
ـ تروح الفرن؟؟؟ همّا ودّوه الفرن؟؟؟
ـ هوّه إنتى ما تدري؟؟؟ يا ريت ما غلطت وقلت... أيوه يا أختي... ودّوه الفرن... بس ليه إنتي خايفه من الفرن... دا... أحسن من الكراكون... على الأقل فيه ناس يهرج معاهم... ويمكن يسمحوا لنا نشوفه ونتكلم معاه. أما في الكراكون... بيكون لوحده... وما يسمحوا لأحد لا يتكلم معاه ولا يشوفه أبداً... عشان يستنطقوه... وقاطعته ابنته زينب تقول:
ـ يستنطقوه؟؟؟ يعي زي ما يستنطقوا الحرامية... والناس اللي يتهموهم بالقتل. ولم تملك العجوز وهي تسمع زينب تقول ما قالته إلاّ أن تخفق صدرها، وتصفع جبينها بالأخرى وبدا كأنها تتماسك، وتحاول أن تتكلم فلا تستطيع... وأشارت بيدها... تطلب شيئاً فهمت زينب أنه الدواء الذي يسعفونها به في مثل هذه الحالة... نهضت زينب مسرعة وجاءت بزجاجة الدواء، وضعتها أمامها... ثم أسرعت تجيئها بالماء...
وبدا على عبد الموجود أنه قد ارتبك، وخالجه الخوف من الموقف فقال:
ـ الله يهديك يا زينب... صحيح أنّو المنطق سعادة... أصلك ما تعرفي تهرجي... طول عمرك تدردبي الكلام اللي زي الآجور... الحكومة تستنطق كل واحد تبغا تعرف منه الحاجة اللي تبغا تعرفها... حتى اللي يتضاربوا مع بعض يستنطقوهم، عشان يعرفوا مين اللي ضرب التاني...
وبعد أن ابتلعت العجوز حبّة الدواء وشربت عليها جرعتين من الماء، بدا كأنها قد استروحت وعاودها شيء من الهدوء... فقالت...
ـ خلاص يا عبد الموجود يا خويا... ما دام أنت رايح تشوفه في الفرن... تقدر تتعدّى علينا وتقول لي اللي تسمعه منّه...
وكمن تنبّهت إلى أمر نسيته قالت:
ـ هو طاهر لسه ماجا؟؟؟ قومي شوفيه يا زينب...
وقبل أن تنهض زينب من مكانها، سمع الجميع سعلة طاهر المصطنعة خلف الجدار وهو يقول:
ـ ادخل؟؟؟ ما في أحد قدّامي.
وقالت العجوز، وعبد الموجود معاً بلهجة استعجال:
ـ أدخل... أدخل يا طاهر
وكان الرضيع وهو على خاصرة أمه، قد ملأ المكان عويلاً مزعجاً... فنهضت به تريد الخروج بينما دخل طاهر ووقف، وفي يده أرغفة التميز عليها (زبدية) الفول المدهونة، وجعل يدير نظراته بين أمّه، وبين عبد الموجود... ثم بشيء من التردد والتلعثم قال:
ـ ودّوه الفرن... ويقول لكم كلّكم... هوّه بخير... بس اصحو تسوّو شي واصحو تروحوا الحميدية إلاّ لمّا هوّه يقول لكم على اللي تسووه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :609  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.