شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (12)
الأصوات التي استيقظت ضحى مرعوبة على ضجيجها، في وقت قدّرت أنه الفجر، كانت ثغاء عدد من المعيز، وتيسين يتصاعد نبيب الكبير منهما بنوع من التجاوب المتلاحق مع نبيب الصغير... لم تصدق عينيها لأول وهلة، وهي ترى مجموعة منها تتحرّك في ساحة الديوان الصغيرة، ولكن سرعان ما تذكّرت، أنها تنام على فراش في داخل الناموسية التي جاءت بها مع رقية، إلى جانب فراش العجوز... ولم تستطع وهي في غمرة الدهشة من تواجد هذه الحيوانات هنا، في الديوان إلاّ أن تدور بيدها على جبهتها وعنقها وصدرها تتحسّس ما ظل يفرزه جسمها من العرق، إلى الحد الذي تبدو معه، وكأنّها قد خرجت لتوّها من البحر... تذكّرت أن (طاهر) حين فاجأها هي ورقية بوجوده في الخزانة، كان قد لجأ إلى ذلك المكان الذي لا منفذ فيه للهواء، هرباً من أصوات هذه المعيز التي قال إنها (راسها وألف سيف... لازم تدخل الدكّة)، التي كان أخوه - زوجها - قد أمره أن ينظفها وينام فيها.
ولم يتوقّف ضجيج الثغاء والنبيب، حين ارتفع صوت العجوز وهي في فراشها تنادي: (رقية...) كان صوتها لا يخلو من رعشة الشيخوخة، وتقطعها، ولكنه - مع ذلك - قوي لا بد أن يسمع، أو أن تسمعه (رقيّة...) حيثما تكون... ولكن بدا أن أحداً لم يكن يريد أن يسمع في ذلك الوقت المبكّر من سويعات الفجر... وتكرّر النداء... ليتكرر معه ثغاء ونبيب المعيز والتيسين اللعينين... فلم تجد ضحى بدّاً من أن تقول للعجوز وهي تهم بالخروج من الناموسية:
ـ أروح أنا أشوف هيّه فين؟؟؟
ـ هيه فين؟؟؟ هيّه يا بنتي في الأوضة اللي جنبنا... لو كانت تبغا تسمع... كانت سمعت...
وعادت ترفع صوتها بالنداء: (يا رقية... يعني ما بتسمعيني؟؟؟).
ولم تسمع رقيّة... فلم يظهر لها أثر... ولكن طاهر رفع صوته بسعلة مصطنعة...
أدركت ضحى أنه ينبّه إلى وجوده خلف الجدار عند مدخل الديوان... هتفت به العجوز:
ـ الله يرضى عليك يا طاهر يا ولدي... شوف لك دبرة مع الغنم والتيسين.
ـ يعني أدخل؟؟؟ ما في أحد قدّامي؟؟؟
ـ أنا وبنت الناس في الناموسية... أدخل يا ولدي... أنا ماني دارية مين اللي فلتهم على الديوان...
ـ أنا يا أمّي... أيوه أنا... أصلي نزلت... فتحت لهم الباب، عشان قال لي عقلي لازم عطشانين... دول عند الباب من أمس العصر... وما فتحت الباب، ورحت أملّي لهم السطل إلاّ وانفلتوا زي الجنود دخلوا الديوان... ما قدرت أجري وراهم...
ـ طيّب بس... خلاص... لا تطول الحكاية... خرّجهم وخلّصنا من زعيقهم.
ـ بس يعني... يعني أخلّيهم في دكّة الدهليز... ولاّ
ـ لأ... يا طاهر... يا طاهر لا تطوّل الكلام... أنت عارف أنّو أخوك يبغاك تنام في الدكة... والغنم في الزقاق...
ودخل طاهر، وشرع يطارد المعيز من الساحة الصغيرة... إحداها طاب لها أن تقفز إلى حيث تنام ضحى والعجوز... فكأنها قد أغرت الأخريات بالحركة نفسها... وطالت المعركة بينها وبين طاهر... إحداها اندفعت إلى فراش العجوز... مزّقت الناموسية... وكادت تتلاحم وأخيراً، وبعد ما يشبه مطاردة حامية، خلا الديوان من المعيز، وخرج طاهر خلفها يلاحقها وهو يلهث... ثم عاد وهو يقول:
ـ أنا لازم ألحق أودّي الفطور في الكراكون... تبغي شي من السوق؟؟؟
ـ لا... لا يا ولدي... روح أجري... وخد هادي ريالين... اشتري له كم بكت من الدخان اللي يشربه...
ـ بس عسى ما يكونوا نقلوه من الكراكون... عسى ما يكونوا ودّوه الفرن.
ـ وهوّه الفرن هادا بعيد يا طاهر؟؟؟
ـ أبداً... هادا أقرب من الكراكون... وراء الحميدية... يعني اللي يوصل الحميدية كأنّه وصل الفرن.
ـ طيب، وليه أنت خايف لا يكونوا نقلوه إلى الفرن؟؟
وهنا عاودت طاهر حالته العصبية، التي يظهرها الضحك... انفجر ضاحكاً... ضحكات عالية متواصلة... يحاول خلالها أن يتكلّم فيزحمه الضحك... فلا يستطيع أن يتم جملة واحدة... ومع ذلك استطاع أن يقول:
ـ اللي ينقلوه إلى الفرن، ما...
ما... ما... يندّروه إلاّ بعد... بعد... ما ينخبز.
ـ ينخبز...؟؟؟ كيف يا طاهر؟؟؟ كيف بني آدم وينخبز؟؟؟ ما تقول كلام غير هادا.
ـ أصلهم ما يودّوه الفرن إلاّ بعدما يخمر
وما كاد ينتهي من الجملة الأخيرة، حتى تلاحقت ضحكاته العالية... إلى حد أصبح يضطره أن يضع يده على بطنه... وقد دمعت عيناه... وهو يقول:
ـ بعد ما يخمر يا أمّي... يعني بعدما... إيش أبغا أقول؟؟؟ كيف أفهّمك؟؟؟
ورغم حرصها على ألاّ تتدخل في أي حوار بين اثنين من الأسرة، وظلت تلتزم ذلك منذ كانت في ذلك البيت الذي قضت فيه الفترة منذ وصولها إلى أن ركبت مع زوجها سيارة البريد من جدة... وجدت ضحى الآن، وفي زحمة الموقف الذي تشهده بين طاهر والعجوز، أنها تستطيع أن تتدخّل بكلمة تطمئن بها العجوز، أو تساعدها على أن تفهم ما يريد أن يقوله ابنها فقالت:
عندنا في مصر اللي بينقلوه من القسم اللي بتسموّه الكراكون، بيكونوا حكموا عليه بالحبس.
هوّه الحبس عندكم بتسمّوه (الفرن)؟؟؟
ولكن ما كادت تنتهي من هذه الكلمة، حتى رأت العجوز، وهي لا تزال قابعة في الناموسية تصفع وجهها بيدها وهي تقول مرعوبة ثائرة:
ـ حكموا عليه بالحبس؟؟؟ إنتي بتقولي حكموا عليه بالحبس يا ضحى يا بنتي؟؟؟
وارتبكت ضحى، وأحسّت أنها قد تورّطت في مشكلة لا تعرف كيف يمكن أن تحل... فاستجمعت أعصابها لتقول:
ـ أنا ما قلتش حكموا عليه بالحبس... أنا اللي عايزة أقوله... عندنا في مصر لمّا بحكموا على المجرم بينقلوه...
ولكن العجوز، في انفعال الرعب الذي سيطر عليها، عادت تصفع جبينها مرة... ثم مرة أخرى وهي تقول:
ـ مجرم؟؟؟ هوّه أخوك سار مجرم يا طاهر؟؟؟ ما تتكلم يا ولدي... ما تهرج...
وكان طاهر قد كفّ عن الضحك بعد تأزم الموقف، فأخذ يقول:
ـ يا أمّي طولي بالك شويّة... هيّه بتقول لك عندهم في مصر... عندهم في مصر بيسمّوا المكان اللي بينقلوا إليه المجرم...
ومرة أخرى أخذت العجوز تصفع جبينها... وتصرخ:
ـ مجرم؟؟؟ أنت كمان بتقول عن أخوك... حبيبك... أخوك اللي خرّجك من المرستان... أخوك اللي طول عمره بيحامي لك، ويدافع عنّك، ويتخاصم مع إخوانه عشانك... تقول عن أخوك... مجرم؟؟؟
واضطرت ضحى أن تتدخّل مرة أخرى لتقول:
ـ يا نينه محدّش قال عن... عن جوزي مجرم... أنا باقول عندنا في مصر... مش... وعقّب طاهر مقاطعاً:
ـ أيوه يا أمّي هادا الكلام عندهم... عندهم في مصر... أمّا عندنا وقاطعته ضحى:
ـ لو سمحت يا سي طاهر... عايزة أعرف، هوّه أنتو هنا بتسمو الحبس، فرن؟؟؟
ـ لأ... الحبس عندنا اسمه الحبس... بس الفرن حاجة تانية.
ـ يعني عندكم فيه حبس... واسمه حبس؟؟؟
ـ هوّه كدة عليكي نور... عندنا حبس واسمه حبس... ودا في الغزّة... وكمان فيه واحد يقولوا... يقولوا إنّه في القلعة... قلعة جياد... واللي في الغزّة اسمه (المحروق)
ـ المحروق.؟؟؟ يعني إيه؟؟؟ قصدي ليه بيسموه كده... ليه واحد فرن... والثاني المحروق؟؟؟
وسرعان ما عاودت طاهر نوبة الضحك... فأرسلها ضحكات عالية متلاحقة... واستطاع أن يقول بجهد ومعاناة، تقاطعها ضحكاته المتوالية:
ـ سمعت - والله أعلم - أنّو الفرن سمّوه (فرن) عشان كان في أيام الأتراك والشريف كان فرن يخبزو فيه عيش العسكر... وسمعت كمان... - والله أعلم - أن المحروق سمّوه كده علشان كان من زمان... في أيام الشريف عون... كان قصر كبير... وانحرق، ولكن الطبقة التحتانية سلمت... وهيّه اللي بيحبسوا فيها الناس.
وهنا تدخّلت العجوز، وقد هدأ روعها قليلاً... وأخذت تتحرك لتخرج من الناموسية: وهي تقول:
ـ يعني طاب لك الحال... قاعد تضحك وتهرج... ما تروح تودّي الفطور لأخوك
ـ طيب ما تنبشي...
ـ ما أنت آخد ريالين... إيش تبغا كمان؟؟؟
ـ الريالين لأربعة بكتات أبو جنيه... طب بأيه أشتري الفطور والشاهي؟؟؟
ـ طيّب... خد... هادا ريال... وجيب لنا معاك (تميز) وجبنة وفول... وتقدم طاهر منها وقد خرجت من الناموسية... وتناول الريال... ولاحظت ضحى أن نظراته متجهة إليها... نظرات قلقة، ولكنها تكاد لا تتحول عنها... فأدارت وجهها عنه... وهي تسدل على كتفيها وصدرها (الشرشف) الذي كانت تتغطى به.
وقبل أن يغيب بجسمه عبر الباب... كانت أم الأطفال، تدخل والرضيع كالعادة متشعلق على خاصرتها... وقالت:
ـ أبويا له ساعة بيدق الباب... وما أحد فتح له... يقول يبغا يتكلم معاكي يا ستي... وبيسأل عن عبد السميع... متى يجي هنا؟؟؟
وفي محاولتها الهبوط، إلى الساحة الصغيرة أمامها، قالت:
ـ طيب... يا بنتي يا ضحى... قومي اطلعي فوق وإنتي خلّي رقية تيجي ترفع الفراش والنموسيات... وبعدما تطلع ضحى فوق، خلّيه يدخل وينتظرني عبال ما أتوضّا لأن الشمس قرّبت تشرق وأنا ما صلّيت الصبح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :648  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 20 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج