شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (11)
خلال الفترة التي قضتها ضحى حول مائدة الطعام، ثم بعد ذلك، وهي تساعد ضرّتها على رفع ونقل الأطباق، وبقايا أرغفة الخبز، إلى تلك الساحة الصغيرة بجانب الديوان، ويسمّونها (المطبخ) كان لا يشغل ذهنها شيء سوى المكان الذي ستنام فيه هذه الليلة، والليالي التالية، التي لا تدري متى تنتهي، وزوجها غائب عن البيت... لم يخطر لها أن تسأل ضرّتها إذ قدّرت أنها غاضبة متوتّرة، فلا سبيل إلى التحدث إليها في شيء أو شأن من هذه الشؤون... ولم يساورها شك في أن العجوز، وقد اتضح لها أنها أم زوجها وأخوانه، وأنها إلى ذلك قد أظهرت ما عبّر عن شيء من طيبة القلب والرقة في حديثها إليها، لم يساورها شك في أنها تنام حيث جلست بعد تناول العشاء... في هذا المكان الذي عرفت أن اسمه الديوان... ترى هل تنام إلى جانبها، على إحدى هذه المراتب المبسوطة على صدر الديوان وأحد جانبيه؟؟؟ أما النوم في تلك الغرفة العليا من الصفيح والخشب، فهو ما كانت تخشاه ضحى إلا إذا كانت ستنام معها فيها رقيّة أو حتى الضرة وأطفالها... استوقف ذهنها مع هذه الهواجس، إنها لم تشعر قط بالغيرة من هذه المرأة... لقد عرفت أنها ضرّتها منذ اللحظة التي سمعت فيها ذلك الرجل الذي أنذر زوجها بأن ابنته لن تسكن (مع الطبينة)... وطوال الوقت منذ تلك اللحظة، وحتى الآن وبعد أن رأتها، كان ما يدور في نفسها، إنها لا تملك أن تفعل شيئاً على الإطلاق، فهي زوجة رجل مسلم، له أن يتزوّج اثنتين أو حتى أكثر من زوجتين، فإذا كان لها أن تفعل شيئاً، أن ترفض الزواج، أو حتى أن تحتج، أو أن ترفض السفر معه مثلاً، فقد انتهى وقت مثل هذه التصرفات الآن... لم يعد يجدي أن تقول شيئاً من أي نوع... وأبوها،؟؟؟ هل كان يعلم أنه متزوج في بلاده، وهو أب لعدد من الأطفال؟؟؟ ولكن حتى إذا كان لا يعلم شيئاً من هذا، فما الذي يمكن أن يغيّر من الواقع بعد أن تم الزواج فعلاً، وها هي الآن هنا بعيدة عن أبيها، وعن كل قريب أو صديق يمكن أن تلجأ إليه أو تلوذ به...
كان عبد السميع قد ترك المكان، ولا تدري إلى أين... أمّا طاهر، فقد رأته يحمل لحافاً ومخدّة، ويخرج من الديوان... فقدّرت أنه سينام هناك... في (دكّة) الدهليز التي ربّما قام بتنظيفها كما طلب إليه زوجها. ولم يبق في المكان سواها، مع العجوز جالسة في مكانها ذلك في الركن، ورقيّة أخت زوجها، وقد جلست أمام مرآة صغيرة موضوعة على رف محفور في أصل الجدار، وهي تمشط شعرها، وتجمعه فيما يشبه الكرة خلف رأسها... لاحظت ضحى أنه شعر غزير طويل وخطه الشيب... وكان الأطفال بمن فيهم الرضيع الذي لا يرى إلا متشعلقاً على صدر أمه أو على خاصرتها... كلّهم كانوا نائمين هنا وهناك على هذه المراتب، وعلى وجوههم قطرات العرق تفصّدت من جباههم... وحانت منها التفاتة إلى الرضيع فرأت على صفحة وجهه أكثر من بعوضتين استقرّتا تمتصان الدم في نهم صامت... نهضت من مكانها، واقتربت منه، وبهشّة من يدها طارت البعوضتان... دخلت أمه في هذه اللحظة، وقد لفّت رأسها بفوطة أو منشفة كبيرة، وقطرات الماء على وجهها، يبدو أنها كانت تستحم... وقفت لحظات قبل أن تقول:
ـ الحر قتلنا... يعني متى رايحين ننام في السطوح؟؟؟
والتزمت العجوز الصمت بينما أجابتها رقيّة:
ـ ومين اللي مانعك تنامي في السطوح؟؟؟
ـ طيب يعني أنام والبزورة لوحدنا؟؟؟
ـ خلاص... تنتظريه الين يجي من الكراكون... وبدال ما تتركي الأطفال يرتع فيهم الناموس كان نصبتي لهم الناموسية، ودخّلتيهم فراشهم من بدري.
ـ يعني ما تبغيني أعشّيهم؟؟؟ دول قعدوا جيعانين طول النهار.
ـ أصله إنتي ما عاد أحد يعرف يكلّمك... كنتي تقدري تعشّيهم وتدخّليهم فراشهم ساعة طاهر ما جاب الفول والصالونة والعيش.
ـ يعني ما تدري إننا كنا نبغاهم يتعشّوا ((كباب ميرو))... من الصبح وهمّ نفسهم في الكباب.
ـ خلاص... اللي حصل... طاهر نسي... يعني ما هو عاجبك الفول والصالونة؟؟؟ شوفي طبينتك، أكلت اللي أكلناه، وما نطق لسانها بكلمة وحدة.
ـ وكيف ينطق لسانها بكلمة، وهيّه شايفة اللي معاها؟؟؟
ـ يعني إيه؟؟؟
ـ يعني الآدمية... إيش بدّي أقول؟؟؟
ـ لا... قولي... اللي تبغي تقوليه...
ـ اللي أبغا أقوله... إنها جاءت لبختها الأسود... ليومها اللي ما تدري عنه... ما تدري إنها رايحة تدوق الويل وويل الويل.
واحتدمت رقية... وكانت قد فرغت من عملية جمع شعرها كرة خلف رأسها... قذفت بالمشط أمام المرآة... وبالتفاتة حادة قالت:
ـ وبعدين معاكي... يعني ما تبغي تسكتي؟؟؟
والتفتت إلى العجوز وهي تقول:
ـ يعني عاجبك كده يا أمّي؟؟؟
ولم تلتفت العجوز إليها... كانت نظرتها على الرضيع، الذي اتجهت أمه إليه، واحتضنته وأخذت طريقها إلى الباب وهي تقول:
ـ أنا عارفة... ماني عاجبة أحد... لكن الخطا ما هو عليكم...
وازدحم صوتها كأنّها تهم بالبكاء... وخرجت من الباب المشرع أمامها ليبتلعها الظلام... والتفتت العجوز إلى رقية تقول:
ـ ما تخليها في حالها... يعني ما هو مكفيك اللي بتشوفه منّه... ما هو مكفّيك إنه جاب بنت الناس هادي، وهوّه على باب الله...
ولم تجب رقية بشيء... التزمت الصمت لحظات، ثم التفتت إلى ضحى تقول:
ـإنتي لمّا اتجوّزتي ما تدري أنو متجوز وأبو عيال؟؟؟
وسرعان ما تدخّلت العجوز تقول:
ـ سيبي بنت الناس هادي في حالها... شوفي فين رايحة تنام...
ـ فين رايحة تنام؟؟؟ تنام محل ما يعجبها...
ـ بس كيف تنام بلا ناموسية؟؟؟، دا الناموس هرانا...
ـ والله يا أمِّي، ما أحد قال له يجيب آدمية بدون ما يستعدلها بفراش وناموسية...
ـ وهوة كان يتأخّر لولا أنهم أخدوه
وهنا دخلت أم الأطفال... انحنت على الأصغر منهما وحملته واتجهت نحو الباب... وهي تقول:
ـ الله يخلّيكي يا ستي... قوميه خلّيه يلحقني... ما عاد فيّه حيل أشيله...
ـ دحّين أقومه ويجيكي... بس قوليلي... ما عندك الناموسية القديمة اللي كان ينام فيها قبل ما يتجوّزك؟؟؟
وقفت أم العيال، وهي تحمل الطفل... والتفتت إلى العجوز... ثم إلى ضحى... ثم إلى رقيّة وبلهجة لا تخلو من سخرية قالت:
ـ ما هو عند ستيته ناموسيتين... ما في بنت اتجوّزت وأخدت معاها ناموسيتها القديمة. وبدا كأن العجوز قد تذكّرت فقالت بارتياح:
ـ أيوه صحيح!! قومي يا رقيّة هاتي واحدة من الناموسيتين... شوفيهم أنا مطبّقتهم وحطّاهم في الخزانة... فوق السحّارة الكبيرة. وتعالي انصبيها هنا... تنام ضحى... موكدة اسمك ضحى يا بنتي؟؟؟ أيوه ضحى تنام معايا هنا...
ثم التفتت إلى حيث ينام الطفل... وقبل أن تقول شيئاً رأتها ضحى تحاول النهوض من مجلسها... أسرعت تساعدها... وهي ترى نظرات رقيّة تتابعها... ولم تنهض العجوز... استقرت حيث هي وقالت:
قوّميه يا رقيّة... الولد رقبته معووجة... قوّميه خلّيه يروح لأمه...
وتدخلت ضحى تقول:
ـ هوّه اسمه إيه؟؟؟ أنا أقوّمه...
ـ عبد الحي... اسمه عبد الحي يا بنتي... عساكي تسلمي...
ولكن رقيّة كانت أقرب إلى الطفل، فمدّت يدها إليه تخفق كتفه بلطف وهي تقول:
ـ عبد الحي... عبد الحي... يا عبد الحي... مسكين... دا توبه ينعصر من العرق.
ـ هو الحر والعرق بسْ؟؟؟ دا الناموس هراه...
وتقدمت ضحى من عبد الحي... وأخذت هي أيضاً تربّت كتفه وتناديه... فتح الطفل عينيه دار ببصره حوله... ودون أن يتكلّم، نهض واتجه نحو الباب بخطوات متأرجحة... وسمعت العجوز تقول:
ـ تقوم معاكي ضحى... تمسك لك الفانوس... تجيبي الناموسية يا رقيّة... خلاص لازم ننام... نحن طول النهار، الله يعلم بحالنا.
ونهضت رقيّة... وأخذت بيدها الفانوس ورفعت شعلته المخفضة... مشت وراءها ضحى، وهي تشعر ربّما لأول مرة منذ شغلها هاجس النوم في الغرفة العليا وحدها بأن مشكلة مستعصية قد حلّت... تنفست الصعداء... ولم يستغرق وصولها إلى الخزانة أكثر من لحظات... كانت وراء باب قميء... مغلق... لم تلتفت إليها رقيّة ولكنّها مدّت يدها إليها بالفانوس ثم دفعت الباب... تناولت ضحى الفانوس ومشت ربّما خطوة أو خطوتين لتفاجأ بشهقة عالية... شهقة رعب أرسلتها رقيّة ثم توقّفت عن المسير وهي تقول:
ـ طاهر؟؟؟ حسبي الله عليك.
وحين تقدّمت ضحى تقف إلى جانبها رأت طاهر... رأت رأسه ووجهه فقط... بينما قد لفّ جسمه بقماش أبيض رأت جزءاً طويلاً منه منسدلاً على الأرض بينما وقف هو محملقاً مرتبكاً يقول:
ـ الناموس هراني في الدكّة... والغنمة الكبيرة مع الجفرة والتيس بيزعّقه عند الباب.
رأسهم وألف سيف لازم يدخلوا الدكّة... طردتهم... لكن...
ـ طيب اطلع نام فوق... ضحى تنام مع أمي...
ـ كده؟؟؟ يا شيخة الله يبشّرك بالخير...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :669  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 19 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.