عناقيد الحقد (8) |
لفت نظرها وهي تتأمّل العجوز ومعها المرأة الهزيلة والطفل المتشعلق على صدرها، وتلك التي أيقنت أنها أخت زوجها، أنه كان يقف يتحدث بتلك اللغة التي لا تفهمها إلى شاب لم تشك أيضاً في أنه أخ آخر، غير الذين رأتهم معه في الميناء... نفس اللون حاد السمرة، والعينين الجاحظتين ولكنه أقرب إلى الهزال... لم تفهم ما الذي يجعله يضحك وهو يصغي إلى حديث زوجها... بينما كان هذا يبدو جاداً، أو حتى محتدماً غاضباً... أتراه يكايده ويغيظه بهذه الضحكات تعليقاً على ما يسمع... تقدمت العجوز منها بخطواتها المرتعشة وفي يدها كأس من النحاس طويلة منقوشة كانت ضحى رأت مثلها عند قريبة زارتها مع أمها بمناسبة عودتها من الحج... قدّمت العجوز الكأس إليها دون أن تنطق بكلمة واحدة... لم تملك ضحى أن ترفض تناولها، ولكنها توقفت عن شرب ما فيها... وارتفع صوت العجوز تقول: |
ـ اشربي... يفكك اللبطة |
ـ سأشربه على مهل... شكراً. |
ـ لا... لا لا... اشربيه الآن... هذا ورد وكتيّرة... اشربيه قبل أن يبرد. |
ووجدت ضحى نفسها تشرب الورد والكتيرة، وإن كانت لم تفهم شيئاً ذا بال... استراحت لعناية العجوز بها... أحسّت أنها تعامل بلمسة رفق وحنان لأول مرة منذ فارقت بيتها في مصر... كانت رائحة الشراب مقبولة، فيها من عبق الورد فعلاً... لم تكمل كل ما في الكأس... وضعته إلى جانبها على الأرض... وعادت تلاحق زوجها وهو لا يزال يتحدث إلى من قدَّرت أنه أخوه، وهذا لا يكاد يتماسك من زحمة الضحك... وفجأة... رأت زوجها يرفع يده وقبل أن ينهال بصفعة على وجه الشاب، كان هذا يبتعد... خائفاً مرعوباً... المرأة الهزيل أم الطفل المتشعلق على صدرها التفتت مذعورة... ثم سمعتها تقول: |
ـ دايماً هوة كده... ما يرجّع له عقله غير الكف... |
والتفت زوجها، وصاح منتهراً غاضباً: |
ـ أنتي تنكتمي بالمرة... فاهمة؟؟؟ |
ولكن هذه لم تنكتم... وقفت والطفل متشعلق على خاصرتها... وأخذت طريقها إلى الباب وهي تقول: |
ـ ولمتى أنكتم واصبر على هادا الحال... دا مجنون، ورايح يجنّن الكل. |
تركها زوجها تخرج، ثم التفت إلى أخيه يقول في نبرة تهديد مرعدة |
ـ فتّح عينك... ترى المرستان والحج حسين ما هو بعيد. |
فإذا بالشاب، يتقدم من زوجها وينحني على يده يقبّلها... بل كاد يركع ليقبل قدميه... فلم يزد زوجها على أن قال: |
ـ خلاص... أنت ما تعتّب المحل اللي يجلسوا فيه أبداً... عندك دكّة الدهليز نضفها واجلس فيها... الغنم أكلها عند الباب، وخلّيهم يسرحوا في الزقاق... فاهم... ونهض الشاب... وقف مضطرباً وهو يقول: |
ـ خلاص... أنضف دكّة الدهليز وأجلس فيها... بس اقرع عني العيال... |
ـ أبشر... أقرعهم عنّك... بس أنت كمان لا تأخذ وتعطي معاهم... |
وما كاد الشاب يخرج من الغرفة، حتى اندفع داخلاً وهو يقول: |
ـ وكيل العمدة وواحد عسكري عند الباب. |
ورأت وجه زوجها يمتقع... كأن الدم قد انسحب منه، فبدأ مصفرّاً وتلجلج، واضطربت شفتاه وهو يقول: |
ـ قول له... أنا... أنا جي حالاً. |
ورأته ضحى يسرع إلى ارتفاق غطاء رأسه على الكوفية البيضاء... والتفت إلى العجوز وإلى أخته يقول: |
ـ لا تخافوا... ما في شي... كلمتين مع المدير... لا تخافوا... |
وخرج من الغرفة مسرعاً... بينما ظهر على وجه العجوز أنها لم تقتنع بما قال... وقالت أخته: |
ـ ما دام العسكري مع العمدة... لازم... |
وقبل أن تكمل جملتها قالت الأم العجوز |
ـ أيوه... ما دام العسكري مع العمدة... لازم مسألة كبيرة |
وكان الشاب قد خرج خلف زوجها، فعاد وهو يلهث ويقول: |
ـ أخدوه... العمدة والعسكري ماشي جنبه على طول... سمعت العمدة بيقول: مهدي بك... ولم يكد يذكر هذا الاسم حتى انتفضت العجوز ووجهها قد ازداد شحوباً... وقفت، وهي تلتفت إلى أخته وهي تقول: |
ـ مهدي؟؟؟ يعني إيه؟؟؟ هادا المنام اللي شفته قبل كم يوم... |
وقالت أخته: |
ـ طيب، هادا غايب عن البلد... يعني حصل منه شي في مصر؟؟؟ |
وكانت هذه المرة الأولى التي توجّه فيها الحديث إلى ضحى... وأردفت تقول: وتابعت العجوز تقول: |
ـ أيوه يا بنتي... إن كان تدري عن شي قولي لنا... |
لم تنسَ ضحى، الحوار الذي دار بين زوجها وأخيه تحت النافذة باللغة التي لا تفهمها في جدة وكلمات (الشرطة... والمدير... والكفيل)... ولم تنس أيضاً أنه سمّاها (وجه النحس) وتفكر كيف تسمّر في موقفه حينما رأى ذلك العسكري واقفاً مع الواقفين حول سيارة البريد... كل هذا ارتبط في ذهنها بما يقع اليوم... ولكن لا تدري شيئاً عن هذا الذي حصل منه في مصر... عن هذا الذي تتساءل عنه أخته وهذه العجوز... وحين طال صمتها عادت العجوز تقول: |
ـ يا بنتي قولي... إيش اللي حصل منه في مصر؟؟؟ |
وقالت ضحى بعد صمت لحظات بدا على العجوز وعلى أخته خلالها أنهما تتلهفان على أي معلومة: |
ـ لا أدري عن أي شيء... منذ تزوجنا وهو يستعد للسفر إلى هنا... وقد سافرنا ووصلنا مكة والحمد لله. |
ـ ولكن متى تزوجتم؟؟؟ |
ـ كتب الكتاب قبل شهرين... لكن الفرح... أقصد |
قالت أخته ملاحقة: |
ـ الفرح؟؟؟ يعني إيه؟؟ |
وقاطعتها العجوز تقول: |
ـ الفرح عندهم في مصر... يعني (الدخلة)... أيوه متى حصلت الدخلة...؟؟؟ قالت ضحى: |
ـ قبل ما نسافر بعشرة أيام. |
قالت أخته: |
ـ يعني كان مقرر يسافر... قصدي يرجع مكة، قبل الدخلة، ولا قبل كتب الكتاب... |
قالت ضحى، وهي تحاول أن تتذكر مسلسل أحداث خطبته، والعقد، ثم الدخلة كما سمعتهم يسمونها: |
ـ لا.. قرر يسافر.. نسافر أنا وهوّه بعد كتب الكتاب. |
قالت العجوز: |
ـ طيّب يعني ما تعرفي يا بنتي، ليه قرر يسافر؟؟ |
ـ هوّه دا.. اللي أنا باسأل عنه... ليه يسافر وهوّه بيدرس؟؟ يمكن أنتو عارفين. |
ـ وانتي يا بنتي كنتي معاه في المدرسة؟؟؟ |
ـ أبداً... أنا سمعت من بابا بيدرس عندنا... لكن... ماني متأكدة وتابعت أخته تقول: |
بس يعني ما حصل منه شي بعدما اتجوّزتو؟؟ |
ـ أبدا... ما سمعت أنّو حصل منه شي أبداً... |
وأفرغت العجوز من صدرها زفرة طويلة وهي تقول: |
ـ ما دام مهدي هوة اللي طالبه، لازم حصل شي... شي... ربّنا يستر واستطاعت ضحى أن تستجمع شجاعتها لتتساءل: |
ـ لكن مين مهدي دا؟؟ |
وقبل أن تجيبها العجوز، انبرت أخته تقول: |
ـ مهدي؟؟؟ هوّه إنتي عمرك ما سمعتي بمهدي؟؟؟ |
ـ لا... عمري ما سمعت عنه مين هوّه |
وتدخلت العجوز تقول: |
ـ هادا يا بنتي... قولي... الله يكفينا شرّه... دا |
وقاطعتها أخته تقول: |
ـ دا... لكن... إنتي إيش اسمك... |
ـ اسمي أنا؟؟؟ اسمي ضحى. |
ـ دا يا ضحى اللي بيسمّوه مدير الشرطة... المصايب كلها ما تيجي إلا منه. |
وقطع الحوار أخوه الذي دخل مندفعاً وهو يلهث ويقول: |
ـ العمدة وضابط يقولوا... عندهم أمر يفتشوا... |
|