عناقيد الحقد (6) |
لم تستطع ضحى أن تصدق أن هذه السيارة اللوري هي التي تسافر فيها معه إلى مكة. لم يسبق قط أن رأت أو ارتفقت مثلها ولكن هذا الذي حدث فعلاً، إذ انتهى تردده وجدله حول العسكري الواقف هناك إلى أن يعود أخوه إلى حمل الحقيبتين، ويستأنف هو حمل لفة البطانيتين، ثم يمشي. وتمشى خلفهما إلى أن وقفوا مع الواقفين حول السيارة... فهمت من الحوار القلق بين هؤلاء أن السائق (والمعاون) لم يظهرا بعد، ولذلك لا يسمح لأحد بأن يضع قدمه أو حاجياته في السيارة إلى أن يجيئا... ولكن لم يطل الانتظار، فقد سمعت من حولها يبشر بأن السائق قد جاء ولكن ما كاد يفتح باب سيارته، حتى بدأت بين الركاب معركة سباق رهيبة لتحميل الحقائب، على سطح السيارة، وللركوب أيضاً... زوجها وقف وقد بدت عليه الحيرة والترقب لأن العسكري الذي كان لا يزال واقفاً لم يبد منه أن له أي علاقة به... استطاع أخوه أن يقذف بالحقيبتين ولفة البطانيتين إلى السطح... وأن يصعد بعد ذلك لربطها بحبل في يده... واستغرقت العملية كلها بضع دقائق... وكان زوجها لا يزال واقفاً في مكانه، عندما رأت السيارة تزدحم بالركاب بحيث بدا لها أنه لم يبق فيها مكان لهما أو لغيرهما ومع ذلك سمعت السائق يصيح - ما تركب يا أخينا، وأنتي كمان يللي معاه - ... وكانت عملية دخولهما، ثم العثور على ما يجلسان عليه في داخل السيارة بالنسبة لها عذاباً ليس فقط بسبب الازدحام بالركاب، وإنما الأهم من ذلك هو الحرج الذي ملأ مشاعرها وهي بقميص النوم هذا الذي لم يكن يليق قط أن تظهر به، وهذه الطرحة السوداء التي لا فرق بين شكلها وبين أي ممسحة بلاط... ثم كانت المشكلة في المكان الذي يمكن أن تجلس فيه وهي امرأة، وجميع من حولها رجال... وصاح أحدهم بزوجها. |
ـ أنت يا أخينا... شوف للولية مكان ورا... ما يسير توقف بها بين الرجال، ولم يجب زوجها بشيء... كان المكان (ورا) يستلزم أن يجد كل منهما طريقه بين الأجسام المتزاحمة وما لا يعد ولا يحصى من اللفائف والصفائح الصغيرة في أيدي وبين أرجل هذه الأجساد. |
وأخيراً استطاعا أن يصلا إلى مؤخرة السيارة حيث جلس وجلست هي إلى جانبه بحيث فصلت بينها وبين عجوز جالس، صفيحة ثقيلة مغلقة، اتضح فيما بعد أن فيها ثقباً ظل يتسرب منه على قميصها عسل أو شيء يشبه العسل... أما زوجها فقد جلس ملاصقاً لها يلاصقه بدوره من الجانب الآخر رجل ضخم... يحتل مكاناً قد يكفي ثلاثة أشخاص... وكان الحر واحتباس الهواء مع الرطوبة اللزجة مع أنفاس الركاب، في سيارة ليس فيها نوافذ كافية... حالة كرب، وخيل إليها أنها لا بد أن تنتهي بموتها... كانت الطرحة السميكة مسدلة على وجهها... وقد أخذت تلتصق بوجهها فتحبس قدرتها على التنفس... تساءلت بينها وبين نفسها ما الذي سوف يفعله يا ترى، لو أنها تخلصت منها؟؟؟ فليفعل ما يشاء... ورفعتها عن وجهها... أدهشها أنه التزم الصمت - ربما تظاهر بأنه لم يرها... ولكن لم تمض لحظات حتى لكزها بكوعه لكزة أحست كأنها تهشم أضلاعها... فهمت أنه يطلب منها أن تسدل الطرحة على وجهها... ولكن... كيف مع هذا الكرب. |
فجأة ارتفع صوت تحرك السيارة وانطلقت تخترق الشوارع... ولم تمض دقائق حتى كانوا يستقبلون طريق مكة... أو هذا ما استطاعت أن تفهمه من همهمة الركاب، حين أخذوا يحمدون الله... وأخذ يبدو بعضهم وكأنه يفرغ صدره من ذلك الهواء الرطب اللزج، الذي امتلأت به رئته ليستنشق هواء الصحراء... |
* * * |
طوال الوقت الذي ظلت فيه السيارة تنطلق إلى غايتها لم ينبس زوجها بكلمة... كان غارقاً في دوامة من التفكير دون شك... ولكن فيماذا كان يفكر؟؟ |
ما هي المشكلة التي جعلته يتهيب وجود العسكري عندما رآه مع الواقفين حول سيارة البريد؟؟ |
استطاعت مع هذا الهواء الذي أصبح يملأ السيارة جافاً منعشاً... استطاعت أن تتذكر أن أخاه ليس معهما... وأن العسكري أيضاً لا وجود له... ترى هل بقيا في جدة؟؟ |
المهم الآن أنها معه وفي الطريق إلى مكة... إلى ذلك البيت الكبير الذي ستجد فيه الغرفة، بالأثاث الذي قال (أين منه تلك الموبيليا التعبانة) التي رفض هو ومعه أبوها أن تفكر فيها حتى مجرد تفكير... لاحظت أن بعض الركاب في أردية الإحرام... وهناك في أحد مقاعد المقدمة رجل لفت نظرها أنه لم يكف عن سواك أسنانه، فإذا انقضت فترة يخرج فيها المسواك من فمه ثم يدير رأسه إلى النافذة، ويبصق... تكررت هذه العملية منه مرات تناثر مع إحداها رذاذ البصقة على وجه جاره ومن يليه من الجالسين... تقزّزوا بالطبع، ولكنهم التزموا الصمت... سمعت صوت زوجها يرتفع عالياً وهو يقول: (يا أخينا... عيب عليك...) ولكن (أخينا) هذا بدا كأنّه لم يسمع... أو لا يريد أن يسمع... فإذا بالرجل الضخم بجانب زوجها يضحك في قهقهة عالية بصوت لا يتناسب مع حجمه... صوت امرأة... التفت إليه زوجها وهو ينتزع نظارته السميكة عن عينيه ويأخذ في مسحها... لا شك أن رذاذ البصقة قد استقر على وجهه... ثم عقب يقول في صوت هامس: (يعني عاجبك؟؟)، فإذا بالرجل الضخم يرسلها قهقهة عالية أخرى بذلك الصوت الرفيع المسلوخ ويقول: (أصلها عادته... ما يقدر يستغني عن المسواك ولا عن...) ثم يضيف: (ولو تشوفه معانا في البيت... جاب لنا الأوا) ثم نفس الضحكة العالية، بذلك الصوت الأنثوي المسلوخ. وقبل أن تستقر النظارة على عيني زوجها فوجىء الجميع بزلزال ظلّت ضحى تستغرب أنه لم ينقطع قط منذ خرجوا من منطقة العمران... ارتطمت رؤوسهم بسقف السيارة ارتطاماً شديداً، وفي محاولتها التماسك، انزاحت الطرحة عن وجهها... وقبل أن يلكزها بكوعه تلك اللكزة اللعينة، أسرعت تثبتها... واستمرت حركة الزلزال، تكاد لا تنقطع، ولكن دون أن يبدو على الركاب أو حتى على زوجها أنهم يتأذّون أو يتضايقون... أدركت أن الحالة مألوفة عندهم... وفي نفسها قالت: (يا بابا... أنت فين يا ترى)... وزحم صدرها التحسر والأسى، وطافت بنظراتها حولها، لتشعر بحرقة الغربة والضياع... ليس إلاّ زوجها الذي يستطيع أن يتصرف معها على هواه، وهذه الصحراء المترامية تحت شمس بدا لها كأنها تنتقم من الأرض كلها، فلا تترك فيها إلا تلال الرمل، وتلك الجبال تلوح عن بعد بزرقتها الداكنة وتكتلها المتلاحق المهيب. |
* * * |
لأول مرة منذ ركبوا هذه السيارة اللوري، التفت إليها وقال بصوت فيه نبرة ود: |
ـ خلاص هذه مكة... |
ـ وصلنا؟؟؟ |
ـ خلاص... هذه أبوابها... |
وأضاف: هذه المنطقة اسمها جرول |
ولم تتوقّف السيارة بهم، وإنما ظلت تنطلق، وظل هو بين فينة وأخرى، يذكر لها أسماء المعالم والشوارع التي يمرون بها... (القشلة... بيت الوزير... ريع الرسّان... حارة الباب... الخ... الخ... |
وأخيراً وقفت السيارة أمام مبنى سمعته يقول... وهذا هو البريد... وهذه الحارة اسمها (القشاشية). |
كان يخيّل إليها أن هناك سيارة... أو حتى حنطور ينقلهم إلى (البيت الكبير)... ولكن خاب ظنّها... فقد أسرع يستنزل الحقيبتين ولفة البطّانيتين... ألقاهما من سطح السيارة على الأرض... وعندما هبط، التفت إلى عدد من الأشخاص وهو يقول: (هيا يا بويمن... شيل...) وأسرع أبويمن هذا، يرفع ويضع على رأسه إحدى الحقيبتين، وتقدَّم آخر حمل الحقيبة الثانية... أمّا لفة البطانيتين، فقد حملها هو... وتقدَّم يمشي أمامها... أدركت أن أمامهما مشواراً كذلك الذي مشياه في جدة من الزريبة إلى سيارة البريد. |
لاحظت وهي تمشي خلفه، أن بعضهم من المارة، كان يلتفت إليه... ربّما كانوا من معارفه... يكتفون بهز رؤوسهم... أو برفع أيديهم، دون أن يستوقفوه... ولم يطل عجبها فقد أدركت أنهم يتحرّجون الكلام معه، وهو يتقدم امرأة ربّما كانت من أقاربه... |
التفت إليها، وقال: (تعالي... أمشي معي...) فتقدمت وأخذت تمشي إلى جانبه... سمعته يقول لها... (انظري إلى يمينك... هذه أبواب الحرم...)... تمنّت أن تقف وأن تدخل الحرم، وأن ترى الكعبة... ولكنه كان يمشي... وكان عليها أن لا تتوقف... فجأة قال لها بصوت هامس مرعوب: (وهذا المبنى على يسارك التكية المصرية... والآن هذا المبنى الذي يقف فيه الجنود... و...) واحتبس صوته تماماً... فالتزم الصمت. |
طوال مشوارها إلى جانبه كانت تحاول أن تتصوّر (بيته الكبير)... خيّل إليها أنه كهذه البيوت التي رأتها شاهقة مهيبة بمشربياتها العريضة التي تكسو البيت بطوله... خالجها شيء من الاطمئنان... طافت بذهنها (الغرفة) التي قال عنها إنها أفضل غرفة في بيته الكبير. |
وطال المشوار... وظلّت تمشي إلى جانبه... وهي تفكّر كيف تقابل أسرته، وهي بقميص النوم. |
|