شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (4)
تراءى لها، وهي مسمرة في مكانها. أن الشقوق في درف الشباك تسرِّب ضوءاً خافتاً قدَّرت أن مصدره في الشارع... أدارت نظرها لحظات فأيقنت أن في الشارع ضوءاً... وهذه الدرف المغلقة ما الذي يمنع أن تعالج فتحها لترى هذا الشارع... ليست إلا خطوة أو خطوتين، فتكون عند الشباك، نهضت مرعوبة مضطربة، وطال وقوفها حيث هي فوق المرتبة... كانت المشكلة التي واجهتها هي كيف تفتح هذه الدرف... لم يسبق قط أن رأت مثلها لا في شقتها في القاهرة، ولا في بعض بيوت أقاربها التي زارتها مع والدها في الريف... ولكن فتح هذه الدرف أصبح عندها مسألة حياة أو موت... ليس للضوء فقط وإنما ليسمع صوتها في الشارع إذا ما حدث ما يضطرها إلى الاستغاثة... ورجح في تقديرها الآن، أنها ستضطر إلى هذه الاستغاثة حتماً... قفزت من مكانها... وارتطمت بحرف مصطبة تتقدم موقع الشباك والدرف... وملأها صوت الخشب الذي ارتطمت به رعباً قاتلاً... ولكن لا بد من فتح الدرف... مدت يديها تتحسس سطح المصطبة... اطمأنت حين لمست عليها سطحاً ناعماً... قفزت وجلست حيث هي وأخذت تعالج فتح أي درفة من الدرف... لم يكن الأمر يستحق كل ما خامرها من خوف إذ ما كادت تتحسس أطراف إحدى هذه الدرف حتى وجدت ما يضبط إغلاقها... وما كادت تعالجه حتى طاوعها، فإذا بالدرفة لا تنفتح باستدارة في أحد الاتجاهين لجميع درف النوافذ وإنما بالسقوط العنيف إلى سطح المصطبة وربما إلى ما تحتها... المهم أن الدرفة قد انفتحت واستطاعت أن تبصر أمامها ما ظلت تتوهم أنه ذلك الشارع الذي يلهو فيه الصبية... لم يكن في الواقع إلا ممراً ضيقاً ترى الجدار الموازي لموقعها وحين دارت ببصرها يمنة ويسرة... رأت هناك في آخر الممر، مصدر الضوء الخافت الذي شجعها أو هو قد أغراها بأن تحاول فتح الدرفة... كان شيئاً يشبه فوانيس العيد، ولكنه كبير الحجم... مسود الزجاج... فيه مصباح هو الذي يضيء الممر... هناك أبواب صغيرة قصيرة... قدرت أنها أبواب زرايب أخرى كالزريبة التي وجدت نفسها فيها... وصوت النهيق البعيد، الذي سمعته... لا شك أنه لحمار آخر في واحدة من هذه الزرايب... ولكن أين يسكن أولئك الأطفال والصبية الذين كانت ضجتهم تملأ المكان... لا أثر لأي مخلوق... فاجأها مواء قطة يبدو أنها كانت هناك، فما كادت تشعر بوجودها حتى أخذت تتسول... جائعة بالطبع... مثلها تماماً... أحست كأن الجوع يتسلل إلى تفكيرها، لم تعد تستطيع أن تنسى أنها لم تأكل شيئاً... بل ولم تشرب ماء منذ الصباح في الباخرة... حسناً... إذا كان زوجها قد رضي لها المقام في هذه الزريبة، فهل عجز أيضاً عن أن يترك لها مع الحقيبتين، ولفّة البطانيتين، طعاماً تأكله عندما تفيق من إغمائها... وبعد أن خلعت ملابسها المبتلة، أخذت تشعر بالظمأ... حتى الماء لم يفكر في أنها يمكن أن تحتاج إليه... تذكّرت أن في المرحاض الذي قضت فيه حاجتها زيراً فيه ماء... ولكن حتى هذا كيف يمكن أن تصل إليه مع هذا الظلام المتربّص بها والمطبق عليها في هذا المكان.
فجأة أحست أن في الغرفة حركة... شيئاً يتحرّك... تحت هذه المصطبة حركة خافتة... تتوقّف لحظات ثم... لا تكاد تتبيّن الشيء أو المخلوق الذي يتحرك، حتى ترى القطة الجائعة تتسلّق متجهة إليها... بل ها هي تواجهها... كادت تصرخ... ولكن القطة كانت أسرع منها... اندفعت إلى داخل الغرفة كالصاروخ... وفي الظلام الحالك، كانت عينا القطة تتوهجان كمصباحين صغيرين وهي تتربّص لحظات، ثم تنقض... لم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء لتدرك أنها المعركة الخالدة بين القط والفأر... فالمكان مسرح للفئران إذن؟؟؟ أحست بالعرق البارد يتصبّب في ظهرها... والرعدة تهز جسمها... تجمّد حركتها كلياً... طوال حياتها كانت لا تطيق رؤية الفأر حتى في الصور... وحين كان يحدث أن تراه في المطبخ أحياناً، كانت تصرخ وتستنجد بمن يسمع صراخها في المنزل... بلغ بها الرعب مرة وهي في الثانية عشرة، أن أصيبت بإغماء، واحتاج الأمر إلى علاج بضعة أيام... والآن ها هي الفئران، وليس فأراً واحداً وتعيش في هذا المكان... ظلّت حيث هي... ومع أن المعتاد أن تصرخ في مثل هذا الموقف، فقد وجدت كأن صوتها يحتبس، وفي نفس الوقت شغلتها حركات القطة، التي كانت ترى منها عينيها وهي تطارد فريستها... وكادت تقفز من مكانها رعباً، وهي ترى نظرات القطّة كأنها مصوبة في اتجاهها... ماذا لو أن الفأر الذي تطارده لجأ إلى مكان حولها على المصطبة... كارثة... وحتى لو صرخت، فمن الذي يمكن أن يخف لنجدتها.
نبّهتها من انغماسها في مخاوفها، أصوات بشر... رجال يتكلمون ويقتربون فيما بدا وكأنه مدخل الزقاق... أنصتت بكل جوارحها... وألقت نظرة إلى حيث مصدر الأصوات... هناك رأت ثلاثة أشخاص... رجال دون شك، وعند مرورهم تحت الفانوس استطاعت أن تتبيّن بينهم زوجها... لا يزال في بذلته الإفرنجية... ومعه اثنان، لم تشك في أنهما من إخوانه الذين استقبلوها على رصيف الميناء... خطر لها أن ترفع عقيرتها بصرخة تستعجل بها إسراعه إليها. ولكنّها فضلت التزام الصمت، فهم يتحدثون بأصوات يغلب عليها الهمس، ولكن في انفعال ظاهر كأنهم يتناقضون حول موضوع هام... واقتربوا أخيرا بحيث استطاعت أن تسمع حتى الهمس الدائر بينهم... حاولت أن تلتقط أي كلمة من الكلمات التي كانت تتدفّق، وتتقاطع بين زوجها وبين الأخوين... ولكن... أي لغة هذه التي يتحدّثونها؟؟؟ كلا ليست اللغة العربية... وكذلك ليست الفرنسية أو الإنجليزية أو حتى اليونانية التي لا تفهمها، ولكن تستطيع أن تمايز بينها وبين غيرها، فالقاهرة وشوارعها لا تخلو في الغالب من الخواجات، الذين يتكلمون هذه اللغات واللغة الفرنسية بالذات، لا تخفى عليها، فقد كانت مقررة في جميع سنوات مرحلة الثقافة العامة... لم تسمع قط هذه اللغة التي يتحاور بها زوجها مع أخويه... ومع ذلك فحين اقتربوا من الشباك الذي تجلس خلفه، استطاعت أن تلتقط وأن تفهم ثلاث كلمات عربية، جعلت تتردد في الحديث الهامس... هي كلمات: (مدير... كفيل... شرطة)... تذكّرت أنه قال لها ذات مرة وهو يتحدّث عن المملكة أن الشرطة فيها تتمتع بهيبة، يتحسّب لها الكبير قبل الصغير... وحين سألته عن معنى الكلمة، قال: (إنها التي تسمونها ((البوليس))).
فالمسألة إذن مسألة بوليس... وغيابه طوال هذا الوقت لا بد أن تكون له علاقة بالبوليس ولكن أي علاقة، أو أي مشكلة يا ترى؟؟؟ لا بد أن تكون مشكلة معقدة، وإلا فكيف يمكن أن يغيب عنها، وهي ملقاة في هذه الزريبة، ودون أن يبعث من يتفقد أحوالها طوال النهار.؟؟؟ وانقطع الحوار لحظات، ثم سمعته يقول: (حتى النور لم يفكّر محجوب أن يتكرّم به... جالسة في الظلام...) وأجابه أحد أخويه: (كان المفروض أن نسافر إلى مكة قبل المغرب... لم يكن أحد يدري أننا نتعطل كل هذا الوقت وإلى الآن...) وقال زوجها: (وسيارة البريد لا تقوم) إلا بعد صلاة الصبح... يعني لا بد أن نقضي الليلة في جدة.)... وأجاب أحد أخويه: (الأمر لله... عسى خير...).
وكانت المعركة بين القطة والفئران لا تزال تدور... وحين ألقت نظرة إلى المكان، كانت القطة على مقربة منها... على المصطبة... وكان واضحاً من حركة تربّصها أنها تحاول أن تنقض على فريسة أمامها... ربّما في موقع بجانبها... لم تستطع أن تكتم صرخة خافتة، لفتت إليها نظر زوجها... فإذا به ينتفض منفعلاً وهو يقول: (أنت؟؟؟. والنافذة مفتوحة؟؟؟ هكذا بوجهك... وبدون شيء على رأسك؟؟؟).
وقبل أن تجيب بشيء... قبل أن تقول له إنها تكاد تموت من الخوف في هذا الظلام... بل قبل أن يرتفع صوتها بالصرخة الخافتة... رأته، يندفع إلى باب يبدو أنه كان أمامه... وفي لحظات كانت تسمع وقع خطواته، مع أخويه في الدهليز الطويل... يظهر أن أحدهم ارتطم في طريقه بدجاجة، أو ربّما بالديك، الذي ارتفع له صوت تابعته أصوات الدجاج في ضجة سرعان ما خفتت، عندما شعل أحدهم عود كبريت ظل ممسكاً به مشتعلاً وهو يتجه إلى المكان الذي تجلس فيه. رأت على ضوء عود الكبريت المشتعل زوجها في بذلته الإفرنجية، وعلى عينيه نظارته السميكة التي بدا لها أنها تراها لأول مرة... كان يتعثر في مشيته... كاد يسقط حين ارتطم بصفيحة ملقاة في طريقه... سمعته يلعن ويشتم... وانطفأ عود الكبريت ليشعل أخوه عوداً آخر وهو يقول: (انتظرني في المقعد... محجوب لا بد أن يكون فوق... عسى أن يكون عنده فانوس زايد...)
سمعت زوجها يدخل الغرفة وهو يهدر: (في الروشان؟؟؟ وبوجهك في الشارع؟؟؟ ورأسك هكذا مكشوف؟؟؟)... ماتت قصتها مع هذا المكان، في حلقها... لم تستطع أن تنطق بكلمة واحدة... فالمسألة عنده، أنها في الشباك المفتوح، بوجهها وبدون طرحة تغطي شعرها... ولا شيء غير ذلك على الإطلاق. لا شيء عن الظلام وبدون عود كبريت... ولا عن الجوع... ولا عن الظمأ... أما عن الفئران والقطة، فحكاية لا طعم لها مع الخطيئة التي ضبطها متلبسة بها...
ولم يطل غياب أخيه، فقد عاد وفي يده الفانوس يشعّ هذا الضوء الذي بدا وكأنه ضوء الشمس بالنسبة لها... وما كاد زوجها يراها في مكانها على المصطبة حتى صرخ: (وما تزالين في الروشان؟؟؟) ولم تكن ضحى تعرف الروشان؟؟؟ ولكنّها فهمت أن عليها أن تغادر مكانها وأن تقف له حيث وقف في وسط الغرفة، ويده تبحث في جيبه عن علبة السجاير... وما كاد يخرج واحدة ويمسكها بين أصبعيه حتى أسرع أخوه يشعلها له بعود الكبريت.
وارتمى بطوله على المرتبة المطروحة في وسط الغرفة... كان واضحاً أنه مرهق لعلّه لم يجد مكاناً للراحة أو الجلوس طوال فترة غيابه كلها... ورأته على ضوء الفانوس وقد وضعه أخوه حيثما اتفق... أكثر من حزمة من شعر رأسه تكاد تغطي نظارته السميكة ووراءها عيناه... وكان الهواء أو النسمة التي تهب من النافذة قد احتبس تماماً... فالحر والرطوبة الخانقة والعرق الذي يتفصّد من كل جسم بغزارة، يحبس الأنفاس إلى حد الإحساس باختناق تام...
جلست على الأرض، أو على هذا البساط المخطط الممزق، وهي تتوقع أن يقول شيئاً عن سبب غيابه وفي نفسها هاجس الكلمات الثلاث التي التقطتها من الحوار الهامس بتلك اللغة الغريبة... اعترفت في أعماق ضميرها أنها لم تشعر قط، حتى بالعطف عليه، فضلاً عن حبّه والقلق عليه... والآن وهو متمدد على المرتبة ببذلته وحتى بحذائه الذي لم يخلعه، أحسّت أنه مخلوق لا تربطه بها أي رابطة سوى عقد الزواج... ولكن الأهم هو مستقبلها معه، وقد اتضح لها الآن، أنه طريق لا يختلف الظلام فيه عن الظلام، الذي عاشت فيه منذ الغروب، ولا يختلف الضيق به، عن هذا الضيق الذي يتزايد مع الحر والرطوبة وانعدام نسبة الهواء... وقطع أخوه حبل الصمت الذي التزمه الجميع وهو يقول: (أنا أمشي الآن... هل تريد أي...) فإذا بزوجها يقاطعه بعنف:
ـ تمشي؟؟؟ ومن ينقل الحقائب في الصباح؟؟
ـ سأكون عندكم، قبل شروق الشمس
ـ ولكن محجوب...
ثم صاح بعنف، وكأن صوته يختنق: - حتى فنجان الشاهي لم يفتكرنا به.
ـ الشاهي... والعشا... كل شيء سيجيئكم به... لا تقلق.
ـ قل له نحتاج إلى مراوح...
ـ حاضر... ومراوح... وكل ما تحتاجون إليه.
قال أخوه هذه الكلمات، وهو واقف... ثم استلم الباب وخرج. فتابعه زوجها رافعاً صوته:
ـ لا تتأخّر في الصباح... المدير ينتظرنا قبل الظهر في مكة...
ولم يسمع من أخيه ردّاً فقد ابتلعه الظلام، وابتعد وقع خطواته في الدهليز... والتفت إليها، وهو يقول: هل عرفت طريق المرحاض؟؟؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :909  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.