شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (2)
تظاهر بأنه لم يسمع ما قاله أبو زوجته، وبدا يتشاغل عنه بالسلام على هذا أو ذاك ممّن كانوا مع إخوانه، ولكنه لم يكن قد أسقط من تقديره قط احتمال أن يطالبه الرجل بألا تسكن ابنته مع هذه التي جاء بها من مصر. وطوال الفترة القصيرة التي قضاها في حبك خطته للزواج من ضحى، كانت زوجته في الحجاز، وأولاده الثلاثة منها، لا تغيب عن تفكيره... لم يكن يذكر أنها طيبة... مسكينة... من نفس النوع الذي يؤمن - ويعمل ويتصرف ويسلك - كما تقضي الأوامر والنواهي التي تلقنها الفتيات، عن طاعة الزوجة لزوجها، كان سلوكها معه منذ تزوجها، وإلى أن نجح في سعيه لإكمال دراسته في مصر، سلوك مخلوق راض بقدره وقسمته وبما أراد الله له... حتى عندما كان يعود من سهراته في آخر الليل، كان يجدها في انتظاره وقد أعدّت له حساء (العدس) الذي لا يتنازل عنه، ومحلول (الشطة التكرونية) وطبق الأرز الأبيض، وطبق (المعرّق)... ولأنه كثيراً ما يكون متخم البطن، إذ تناول (عشوة الفول) مع رفاقه، ولأنه يضيق بنظراتها المتوسلة المرعوبة، ويعجبه في نفس الوقت أن يزيد من رعبها وإذلالها، كان لا يكاد يجلس ويلقي نظرة على الصينية وما فيها من الأطباق، حتى يركلها بيده، أو حتى برجله... فإذا بدت في عينيها لمحة احتجاج صغيرة، كانت الصفعة الثقيلة - وعلى وجهها - هي التصرف المألوف الذي اعتادت أن يقابلها به... فتبكي بحرقة، وتنهمر الدموع على خديها، ولكن في صمت، بل وبمحاولة جادة لكتم نشيجها... كأنما عويلها جريمة يجب أن لا تظهر بأي ثمن.
وضحى هذه التي حبك خطة زواجه منها، لم يسبق له أن رآها إلا مرّة واحدة... لمحها وهي تقف مع أبيها أمام بوابة مسجد السيدة لحظات سمعها تقول وهي تمشي: (حاضر يا بابا)... ولم يكن يعرف أباها في الواقع، ولكن ما أسهل أن تعرّف إليه... دخل وراءه المسجد، وحرص على الجلوس إلى جانبه... وحين لاحظ أن الرجل يتلو ورداً، وصلوات على النبي، ويردد أدعية، شرع هو أيضا يردد أدعية يحفظها... ومنذ ذلك اليوم، لم ينقطع عن الصلاة في المسجد، وإلى جانب الرجل في غالب الأحيان، ولم يطل به الأمر حتى وجد سبيله إلى الكلام... ثم إلى التحدث عن نفسه، الحديث الذي أدرك أن الرجل يهتم ويعجب به... ولم تمضِ بضعة أيام حتى كان الرجل مبهوراً به... إعجاب لا حدود له وترحيب حميم، كلّما رآه يمشي في أروقة المسجد حريصاً على أن يكون في الصف الأول، حتى ولو تخطى صفوف رقاب المصلين.
وفكرة الزواج من أخرى، كانت شاغله منذ زمن طويل... لسبب رآه هو جوهرياً وحاسماً... فقد ساءت علاقته مع والد زوجته وتوتّرت مشاعره نحوه منذ اللحظة التي أصرّ فيها على أن يشهد شهود العقد، على مبلغ الصداق المعجّل، الذي يدفعه نقداً خمسمئة ريال فضة والمؤجّل وقدره ألف وخمسمئة ريال فضة... وازداد التوتر وبلغ حد الشجار، وتبادل الشتائم القذرة عندما وجد الرجل ابنته تسكن في غرفة مسقوفة بالصفيح، مع ذلك العدد الكبير ممّن سمّاهم (خلق الله) من أفراد الأسرة... الوالدة العجوز... والأخوة الثلاثة مع زوجتين لاثنين منهما... والأختين العانسين... الجميع في غرفتين مما كان يسمّى (المقعد)، والديوان الصغير، و(دكّة الدهليز) التي تستعمل حظيرة لعدد من المعيز وتيس صغير، لا يكف عن النبيب، ثم السطح المسقوف بالصفيح، وقد قسّم إلى (خارجة) وغرفتين على الذين يرتفقون أيّاً منهما أن يقضوا حاجتهم إمّا في الخارجة، في غير أيام الصيف، وإما أن يهبطوا إلى الدور الأرضي.
لم يسمع قط من هذه الزوجة كلمة احتجاج أو رفض... كأنها قد تركت لأبيها أن يتصرّف، وقد ظل الأب يتصرّف، ولكن في حدود الشجار والزعيق والتهديد بطلب الطلاق، دون بلوغ حد التنفيذ... ولكن في تقديره، هو أنها التزمت الصمت هكذا، وتوخّت سلوك سبيل الأذعان المطلق للواقع، لسبب آخر، هو أنها (الكبرى) بين أخواتها... كانت على وشك أن (تبور) لو لم يتقدّم هو للزواج منها. ثم كثيراً ما ظل يقول بينه وبين نفسه:
هذا هو الصوم الذي أفطرت فيه على بصلة.
هذه الفتاة التي اختارتها أمه وامتدحتها (ستيته)، ودعمت المديح أخته الوسطى ليست في نظره، أو في الحقيقة، إلا شيئاً يشبه المعزة الكبرى التي في الدهليز... لها و فيه ملامح المعزة فعلاً... أذنان كبيرتان، تبدوان متدلّيتين إلى الصدغين، ووجه ممصوص بذقن طويلة ممطوطة مسحوبة... ولولا العينان الدعجاوان والحاجبان الأزجان، لما بقي في هذا الوجه شيء يستحق النظر... ليلة دخوله بها كاد يتركها ويهرع إلى منزل صديقه الذي اعتاد أن يسهر معه، ثم يستلقي في النهاية وينام حيث هو على (الكرويتة) في المقعد حتى الصباح... ولكنه لم يفعل لأنه لم يستطع أن ينسى أنه قد دفع خمسمئة ريال فضة. مئة منها من أمه... ومئتان من (حرماله) جمعها خلال عام بطوله من أجر كان يدفعه له أخوه الأكبر لقاء عمله بعد العصر في الدكان... والمئتان من أخويه، فلا أقل من أن (يحلّل) هذا المبلغ الكبير... أن يدخل بها، وقد فعل، وفي نفسه هاجس أن لا يجدها عذراء، فيسترد كامل المهر ويعتق رقبته من مؤجّل الصداق الرهيب... ويتزوج غيرها... ورغم خيبة أمله تماماً فقد ظل طوال ذلك اليوم وحتى المساء يفكّر في أن (يدّعي) أنه لم يجدها عذراء... لقد فعل ذلك كثيرون قبله... فيتخلّص من هذه التي استقرت في ذهنه (معزة آدمية)... ولكن... يا للكارثة... فقد فوجىء بأن المسألة ليست بهذه البساطة... إذ كانت الفتاة قد سلّمت أمّها (بياض وجهها) صبيحة ليلة الدخول بها... أحس عندئذٍ أنه قد كتب عليه أن يعايش هذه المعزة الآدمية، بالطريقة نفسها التي تتعايش فيها الأسرة مع المعيز في دكة الدهليز... موجودة في البيت، أي نوع من الوجود... تأكل وتشرب... المعيز تدر اللبن، وهذه مستعدة دائماً لتلبية طلبات الأم والأخوات التي لا تنتهي... وعلى الأخص تلك الأخت الكبرى التي كانت تتفنّن في إرهاقها بالطلبات، ومنها مثلاً، البحث عن (اللبانة) التي كانت تمضغها ثم وضعتها في مكان ما... ومكان ما هذا لا يعرفه غيرها... ثم كنس البيت كله مرات عديدة... و(النحاس) لا بد أن يعاد غسله حتى ولو بدا كالمرآة المجلوة... والجلوس إلى طشت الغسيل ثلاث مرات في الأسبوع، والسهر الطويل على كي الملابس، مع شرط الاستيقاظ مع أذان الفجر... أما إذا حدث وانكسرت زجاجة الفانوس الهندي أو اللمبة التي تعلق في الجدار أثناء تنظيفها، فتلك هي المصيبة، التي لا ينتهي لها أثر، إلا إذا اشترت عن المكسور من ذلك المبلغ الصغير الذي نفحها به أبوها من مهرها.
وما كان يشحن صدره بالغيظ، ويمزّق أعصابه، هو أنها لم ترفع قط صوتها احتجاجاً... لم تطلب قط الطلاق... بل لم يحدث قط أن شكت واقعها إلى أبيها... كانت أمها حين تزورها مرة أو مرتين في العام بطوله، لا تملك أن تمسك دموعها، وهي تودّعها حزناً على ما تراه من واقعها... ثم تقول: (بكرة لمّا ربّنا يرزقك الولد... يعرفوا قيمتك).
ورزقها الله الولد، والثاني والثالث، في أقل من خمس سنوات... ولكنهم بدلاً من أن (يعرفوا قيمتها) كما ظلت تقول أمها... ازدادوا قسوة وشراسة وعنفاً... ولكنها من جانبها - بعد الولد الثالث استطاعت أن يكون لها لسان، وأن يرتفع لها صوت مع الجميع إلا زوجها... عرفت كيف تقاوم الإهانات وترفضها... وكيف ترفض غسل ملابس الأخوات... وكيف تترك (النحاس) لتغسله إحداهن... ولكن معه هو، كانت صخرة من الصمت... حتى عندما ينفجر في وجهها لأسباب تافهة مثل أن تنسى ترتيب وضع نعاله بحيث يرتفقه دون أن ينحني أو أن يلتمس انزلاق قدميه فيه... حتى في هذه الحالة كان ما تلوذ به هو الصمت المطبق... كأنها كانت تدرك أن هذا الصمت هو الذي يمزّق صدره، فيزداد سخطه، وانفجاره، حتى ليبدو مضطرباً يتخبّط ويكاد يسقط وهو يهبط السلم الخشبي المهترىء من تلك الغرفة المسقوفة بالصفيح على السطح إلى الدهليز.
وهذه التي جاء بها من مصر، وقد سمعت أن هناك زوجة، يرفض أبوها أن تسكن معها... دارت رأسها... واشتد ما يشبه الضباب يغلّف ما حولها... كادت تسقط... ولكنها ظلّت تحاول أن تتماسك...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :861  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.