من طبيعة القلب العاشق، أن يجعل لكل شيء |
يتصل به.. قلباً يحن.. ويتناجى.. ويبكي.. |
حين تكون في عهد الصبا، تتقدم في الشباب وفي الكون.. |
وكأن الأشياء تخلق فيك خلقاً آخر |
فإذا تناولت زهرة وتأملتها، شعرت وكأن في يدك أجمل |
غادة تقدم لك معنى الجمال كله.. |
وإذا وقفت على شاطئ البحر، ترجرج البحر بأمواجه في |
نفسك فتكون معه أكبر من الأرض.. وأوسع من الفضاء.. |
أما الحب.. |
أما الحب.. حين تكون في عهد الصبا |
الحب.. تكون له معانيه الصغيرة.. ليس فيها شيء كبير |
ولكن فيها.. في هذه المعاني الصغيرة، أكبر السعادة |
ونضرة القلب.. |
* * * |
تمنيت،.. وهي هناك.. في ضباب الذكرى |
.. وراء شباكها الأزرق..، وراء ورودها |
الصغيرة، بين الأغصان.. |
تمنيت.. لو أني نغم.. في لهاة بلبل، |
يغرد لها في الصباح وفي المساء.. بل ماذا |
لو كنت غيمة.. |
غيمة.. تضحك لها، كلما ألقت نظرة على |
الأفق البعيد.. |
* * * |
لحظات، على جناح طائر تطارده الرياح |
هي التي يتاح فيها لقاء |
ولكن.. |
ما أجمل أن تسطع شعاعاً في ضباب الأيام |
عندما أرى الحسن.. هناك على الشاطئ الضاحك |
وموجات راقصة، تتعلق، مفتونة بالقدمين الصغيرتين |
كثيراً ما في هذه اللحظات.. وهي تمر كعصفور نزق |
تتدفق في القلب أنغام من عبقر |
ومعانٍ.. ريش أجنحتها خمائل أهداب.. |
لست أدري كيف تملأ صدري صخباً وهديرا |
واقف أمامها |
أمام الحسن.. هناك على الشاطئ الضاحك |
فيا للصمت المعجزة |
يستطيع أن يقول الكثير |
أن يلتمس شغاف القلب |
يهز أعماق النفس |
وألف وتر هناك |
يعزف ألحاناً من عبقر.. |
* * * |
وابتسامة خفرة.. تبخل حتى برؤية اللؤلؤ النضيد |
تبرق وتتوهج، على الثغر الشهي |
تجيب ألف سؤال |
تعانق حرَّى الأشواق.. |
تحترق.. وتتقطع الأوتار.. |
وتضحك الموجة.. مترامية على القدمين الصغيرتين |
تقول: حتى نحن.. قد فهمنا ما قاله الصمت في لحظات.. |
لحظات على جناح طائر تطارده الرياح |
تسطع شعاعاً في ضباب الأيام.. |
لحظات.. يتم فيها لقاء.. |
* * * |
مساء وعودة راعٍ يسوق القطيع |
وبوق سيارة.. طليق سريع |
وجاء البريد |
وجاء الرجال، شيوخ كبار |
يقولون جاء.. جاء البريد |
* * * |
وأم.. وجدة وخال عجوز |
على البئر.. دلاً تغور |
وقرية يفتح فوهتها العجوز |
ويحملها ثم يجري بها |
صبي حفيد.. |
ويسمع عند الخباء |
كلاماً كثيراً.. |
وجاء البريد.. جاء البريد |
* * * |
وللأم ابن.. بعيد.. بعيد |
وجاء البريد |
وفيه الرسالة.. فيه البشائر.. نجاح سعيد |
تقول الرسالة - آن الآوان |
سيجتمع الشمل.. كل الشباب |
يجيئون وملء الحقائب، ثياب جديدة.. ويوم جديد |
وبعد الغروب.. يطيب الحديث |
والجد يسمع.. حلم الحفيد |
لماذا يظل يحمل القربة |
لماذا يضيع وراء القطيع |
سيذهب مثلما فعل الآخرون |
ليقرأ ويكتب.. يغني النشيد |
ويكبر كما كبر سعيد |
وتأتي رسائله في البريد |
تبشر.. أن اللقاء قريب |
وملء الحقائب، ثياب جديدة، ويوم جديد.. |
* * * |
العشب.. أهداب العذارى.. يمتد على مدى النظر |
في الجبال الشامخة الزرقاء والغدران.. همس عشاق.. |
في الوادي، على راحتي السفح |
مرايا حوريات، تلتمع تحت ضوء الفجر القادم من هناك.. |
والنسمة الدافئة.. لهفة شوق |
تعانق أشجار السيسبان والأثل |
وجداول الضوء.. |
تتدفق على السفوح الخضر |
والراعي وراء قطيعه - عند المنعطف - يتمنطق حزامه |
الأحمر، في يده عصاه |
وتحت إبطه، حقيبة من جلد الماعز.. ذات أهداب وطف.. |
بواكير الربيع.. |
ثغاء الشياه.. ورغاء الناقة وحنينها |
حوارها هناك.. بين الخراف الشاردة |
يعود إليها.. إلى ضرعها الحنون.. |
* * * |
بواكير الربيع.. وتحت تلك الظلال الناعمة.. في الوادي الأسمر |
كانت ظلال أهدابك، على الشفق وراء اللثام |
ابتسامتك الخفرة |
صمت.. قال كل شيء لم تهمس به شفتاك |
أيتها الحياة |
أيتها المروج.. تتلاحق على القمم من سندس |
أيها الصبا الغض |
يا جداول الضوء.. تتدفق على السفوح الخضر |
أيتها الآمال.. |
كل الآمال في صدر الشباب |
هذه دمعة.. ما أغلاها يا حبيبتي |
دمعتي بين يديك.. تأبى أن تنحدر |
عبرها أراك.. حورية بين الضباب الوردي |
مع بواكير الربيع.. تحت تلك الظلال تترامى في الوادي الأسمر |
في فجر شبابنا.. |
أيتها الأفراح.. وأنت يا دموعها.. |
يا عطر الخزامى والسيسبان |
هذا.. |
هذا.. كان.. فجر الحب |
* * * |
كنت طفلاً، يوم رأيت النجوم لأول مرة |
كنت في حضن أمي.. |
ورغم ذلك سرت في جسمي رعشة برد |
فانتبهت لذاتي الصغيرة |
أحسست أني أعرف ما لم أعرف من قبل |
* * * |
وما أكثر ما عرفت، بعد ذلك المساء |
وما أكثر ما سعدت بما أعرف |
وما أكثر ما شقيت |
وفي ذات صباح |
عند الغدير، حيث ترعى الماشية وتشرب |
رأيتها.. |
تلك الراعية الصغيرة.. |
رأيتها قبل ذلك مئات المرات |
ولكن في ذلك الصباح، رأيت في وجهها الصبوح الباسم |
الصغير ما لم أر من قبل |
رأيت الجمال.. عرفته.. وليس قليلاً أن تعرف الجمال |
* * * |
ومرت أعوام.. امتلأت حياتي خلالها بالكثير من المعرفة |
بالكثير من الوجوه الصباح |
بالكثير من السمات الحلوة والقسمات الباسمة |
ولكن.. تلك الراعية الصغيرة |
في ذلك الصباح |
كانت وحدها صورة الجمال.. |
كانت وحدها التي ما زلت أذكرها، كلما رأيت الوجوه الصباح |
* * * |
كانت تمشي وحدها |
تصعد الجبل العالي لتسقي وردتها |
وكانت تنظر بخضرة عينيها |
بسود أهدابها |
بتفتح قلبها |
وكانت ترى هنا وهناك |
براعم الورود |
منتشرة في الدروب |
* * * |
قالت أختها: ميلي إلى الدرب السهلة |
حيث تنبت الورود في الرمال |
في صميم الرمال البيضاء |
لا شوك لهذه الورود ولا شموخ |
هي موطئ لقدميك العاريتين |
* * * |
وكانت تائهة عن أختها |
تجرح قدميها أشواك الدروب |
تحث الخطى إلى هناك |
حيث تنبت وردتها الوحيدة |
في مهب العاصفة |
على القمة.. في شرفة الظلام |
* * * |
وتفتحت البرعمة الصغيرة |
في الصخرة |
في الصخرة العطشى المتحجرة |
جميلة كالفجر.. رائعة كالليل.. رحبة كالسماء |
من دموع عينيها شربت فلم ترتو |
من دمائها الحمراء اغتسلت.. |
فكانت غرسة جديدة.. في تربة غريبة |
* * * |
من يسقي براعم الورد.. يا أخت الورد |
من يمسح دمع الصباح.. عن وجناتها المحمرة |
من يضمها إلى صدره.. في هزيع الليل البارد |
من يقيها حرارة الشمس المحرقة |
* * * |
وانحنت على الصخر.. |
وشقت من ضلوعها إلى قلبه طريقاً |
وهمست في أذنه.. نفحة واحدة من نفحات حبها |
وكسرَّت على المنحنى، وهي تتمتم |
أيها الصخر.. |
أيها الصخر.. أسهر على وردتي.. |
* * * |
مواكب الذكريات البعيدة.. تتراءى هناك.. وراء مراحل |
الزمن العتيد |
ذكريات ليالٍ.. عشناها.. أفراحاً.. وعناء.. وشقاء |
أفراح الصبا والشباب.. حتى بتلك الرحلات على الإبل إلى |
جوف الصحراء وعناء.. |
عناء الركض اللاهث، وراء الآمال الكبيرة.. |
وشقاء |
شقاء التعثر.. والخيبة.. والفشل.. ثم استئناف |
السيرة من أول الطريق.. |
* * * |
واحسرتاه لها.. تلك الأيام |
كيف استدار الفلك.. وكيف طوى الزمن والتفّ على الذهب |
والجواهر من الأماني والآمال |
واحسرتاه لها.. تلك الليالي |
ليالٍ طويلة.. قضيناها في انتظار تباشير فجر مرتقب |
كانت سعيدة.. تلك الليالي.. لأن الجوانح عامرة بالرجاء |
كانت حلوة.. لأن الثمار تتلامح وفي القلب توثب.. وفي |
الدماء حرارة الشباب.. |
* * * |
ولقد أثير الجهد.. وحبات العرق لم تذهب هباء |
والسعي المتواصل.. انتهى إلى الغاية.. |
وفتحت الحياة أبوابها.. |
وعشناها.. أيام لنا.. وأيام علينا.. |
ثم.. ها هي الشمس.. تنحدر إلى المنزلق هناك.. |
وراء الأفق.. |
والليل.. يزحف.. داجي الظلمة.. ليس في سمائه |
نجوم.. |
لأن ما بقي من ضوء الوجدان.. يختبئ.. في الأغوار |
كأنه يكتفي بما مضى.. ويحرص على ما بقي.. |
وليس ما بقي.. سوى وضع الرأس على الأرض.. |
وفي الأرض ومنها.. وإليها كل المصير.. |
* * * |
تعالي.. |
تعالي.. نهرب من مناقير الطيور.. |
لنتحول سريعاً.. إلى ندى يرتاح على بتلات وردة |
وكالندى.. عندما تشرق الشمس.. نبدأ رحلتنا على أشعتها |
الدافئة.. |
لست أدري.. أين سنلقى عصا التيار |
ولكننا.. سنعود قبيل الفجر.. |
على زورق فضي.. محمل بعطور الليل |
نعود.. لنرتاح على بتلات.. وردة.. وربما زنبقة |
يعجبها أن تستقبل الصباح.. |
* * * |
تعالي.. |
تعالي.. فالضباب، على الذروة، يستعجلنا لنذهب |
أتدرين إلى أين؟ |
همس في أذني.. إنه يريد أن يمتعنا برحلة إلى خيام الشفق |
خيام.. رأيتها.. ربما أقامها الخريف، لحفلة وداع.. |
ربما ضيوف الحفلة.. تلك الرياح.. التي تهب من الشمال |
ربما.. بعض أشجار السنديان.. |
تعالي.. فليس أجمل من أن نرى تلك الخيام |
خيام الشفق.. في وداع الخريف.. |
* * * |
على صدرها، وفي كوخها |
ينام الرضيع. وتغفو الخيام |
نداء جريح، وأنات ريح |
وسعلة شيخ، وهمس الظلام |
وتسهر سلمى، مع الذكريات |
* * * |
مراحل ماضٍ قصير تمر |
وتعيش دروباً، وتطوي هضاب |
ومعها على الدرب خلق كثير |
نساء حوامل أو مرضعات |
وصرخات طفل هوى في التراب |
وصوت الرصاص، بعيداً هناك |
وقصف المدافع، عبر الشعاب |
وتسهر سلمى مع الذكريات |
* * * |
هنا.. قيل: استريحوا هنا.. |
هنا خيمة، تحتها ترتمي |
نساء، ومعهن أطفالنا |
ونحن الرجال، كلنا ننتمي |
لجيش الفداء، لأوطاننا |
وهبوا يلبون، يوماً دنا |
وتسهر سلمى مع الذكريات |
* * * |
وفي ليلة، عز فيها المنام |
وطالت، كدهر طويل طويل |
مشى جدها، عبر صف الخيام |
ليسأل، من عاد، فيم العويل؟ |
وجاء العجوز، ومات الكلام |
كثيرون قتلى، ومنهم خليل |
وتسهر سلمى مع الذكريات |
* * * |
إنه الفجر هناك.. والبحر هنا |
ولكن العيون.. وراء الليل.. والضباب والدخان |
* * * |
أين العيون يملأها الفجر وأحلام الزهر والضياء |
أين العيون يغمرها البحر بأفراح الموج وومضات الرجاء |
* * * |
إنه الفجر والبحر |
أنهار من لجين تتهادى عبر ألف قمة زرقاء |
وكون من المباهج.. يضحك.. يملأ الدنيا غناء |
ولكن العيون.. |
أين العيون يا ترى؟ |
أين العيون تتأمل؟ |
أين العيون تنهل من منابع الطهر والصفاء؟ |
* * * |
وراء الأهداب.. تلك العيون |
وراء الليل.. والضباب.. والدخان |
وراء أوتار يقطِّعها الصراع |
أبواق يفجرها الضياع |
وراء زلزال الطبول يدمر أرواح الجياع |
* * * |
لك.. للوفاء النقي وللصفاء |
أشعلت مجامر القلب، تبارك النقاء |
أحرقت فيها بخوراً من هناء |
هناء الليالي البيض.. أيام اللقاء.. |
أمواجي حزينة ساكنة |
في مرآتها الصافية.. ليس سواك |
وفي ذهني.. وراء هذه الجبهة التي تحترق |
لا شيء.. لا شيء أبداً.. سوى ذكراك |
* * * |
كان ربيعاً.. ربيعاً في ليالي شتاء |
وهوت أزهار ذلك الربيع.. ماتت.. |
في ذات مساء |
كانت الأشجار في ربيع شتائي تخضر كل لحظة |
والجداول التي جمدها الصقيع.. |
كانت تترقرق، في قلبي ألحان أمل |
ولكن.. واليوم ربيع.. ربيع الفصول والدهور |
الأشجار الخضراء.. محروقة.. أكلتها النيران |
والجداول التي تترقرق وتنساب وتتدلل.. مستنقعات.. |
مستنقعات، فقدت حتى خريرها العذب.. |
فقدت معناها الجميل.. |
* * * |
ذلك هو الخريف.. والشتاء.. والعواصف والرياح |
ألحان الفراق.. ما أتفه الذين صوروها بالأنين |
كلا إنها اللهيب، تتقصف من ألسنتها أشجار الغاب |
تتفتت مع سمومها اللافح، بتلات كل الزهر.. كل العشب |
.. كل الورود.. |
* * * |
هذا وقت عودته.. ولم يعد يا أماه |
يغيب عنا.. يطيل غيابه.. |
يقود تلك الشاحنة في جوف الليل.. |
في بطون الأودية والشعاب |
ولكنه يعود.. في مثل هذا الوقت يعود |
ولم يعد.. لم يعد أبي يا أماه |
* * * |
ومضت أيام.. نهارها كلياليها |
سوداء مظلمة.. ولا شيء إلا الصمت |
شاحنات كثيرة تمر.. |
أصوات رجال ترتفع في مشرق الشمس |
وفي ذلك البيت.. في الزقاق العتيق |
لا شيء إلا الصمت.. والليل الطويل |
* * * |
ولم يعد أبوها.. |
ابتلعه الليل |
أطبقت عليه حفنة من تراب الأودية والشعاب |
وقالت أمها: |
لن يعود يا بنيتي.. |
ولكنه سيظل هنا |
في هذا القلب.. |
وفي قلبك الصغير.. |
في قلوب اليتامى لا يموت الأب.. |
قلوب اليتامى وحدها.. هي التي تعرف كيف تنطوي |
على الآباء والأمهات.. |
* * * |
مع الصباح.. والزقاق ما يزال يتثاءب |
والقمرية على الشجرة ما تزال ترسل هديلها الحزين |
والعجوز.. |
ذلك العجوز جارنا |
تسبقه سعلته الخاوية كالكهف |
مع الصباح رأيتها |
صباحاً أبيض كالحلم |
* * * |
والعجوز.. ذلك العجوز جارنا |
عاكفاً على صفائح الجبن |
لم يلتفت.. لم يدر أنها هناك |
وسمعتها تقول.. |
في صوتها أغرودة طائر حبيس مفزع |
الطبيب.. يا عم.. الطبيب |
وكنت أنا الطبيب.. |
* * * |
الشمعة تحترق في طبق من صفيح |
والأم |
أمها.. تحرقها الحمى.. ويهدمها السعال |
بقايا لحاف.. وكسرة خبز جافة.. وديوان شعر |
وفي الركن المظلم هناك.. مرآتها |
مرآة الصباح |
الضوء يتسلل من كوة.. ضوء باهت.. يعب منه الظلام |
ورقة نقد في يدها.. وأنات الأم.. أنينها المتواصل.. |
سعالها من بعيد.. |
* * * |
ومع الصباح رأيتها.. صباحاً أبيض كالحلم |
أنا والعجوز وبعض جيران الزقاق.. والقمرية على الشجرة |
ما تزال ترسل هديلها الحزين.. |
موكب الرحلة إلى هناك.. إلى المثوى الأخير.. |
ودنا المساء.. ورأيتها تعود.. في عينيها حريق الوداع |
في يديها منديل ترقأ به دموعها على الراحلة في مثواها الأخير |
* * * |
والعجوز.. ذلك العجوز.. جارنا |
يدب على عكازه.. يناولها شمعة جديدة |
أخذتها وعادت.. وابتلعتها الظلال.. والظلام |
في الطريق.. |
إلى دنيا كلها.. درب طويل.. |
حياته في المدينة.. |
المدينة الكبيرة.. |
بين ألف عملاق |
من حجر.. من حديد.. من شرر |
غابات من حديد.. ودخان.. من ضجر |
حياته في المدينة |
المدينة الكبيرة.. |
* * * |
حياته في المدينة.. وملايين البشر |
يأكلهم الشارع الطويل.. تمضغهم الأرصفة |
تحفر عيونهم.. تثقبها الرؤى والصور |
* * * |
الرؤى والصور.. وملايين البشر.. في صدورهم قلوب |
لكنها من حجر |
جمدها الضجر |
رمدها الضياع.. والضنى.. والسهر.. |
* * * |
حياته في المدينة.. |
المدينة الكبيرة |
لا أحد يشعر بها |
والشارع الطويل.. لاهث منبهر |
كل ما يرجوه.. نظرة من قمر |
لكنه.. بعيد.. في ضمير القدر.. |
كل ما يرجوه.. ضائع مندثر.. |
* * * |
قالت الحياة كلمتها |
تلك الكلمات التي يظنها الناس أنشودة |
قالت الحياة للأحياء |
للذين يعيشون ليحيوا |
وظننتها أنا حلاً.. وسبيلاً إلى السلام |
* * * |
الحياة للأحياء |
للذين يعيشون ليحيوا |
وظننتها أنا حلاً.. وسبيلاً إلى السلام |
سلام الروح.. والنفس.. والجسد |
فإذا بي مكبلة بالأغلال |
كل ما حولي شتاء وجليد |
لا شيء يشيع الدفء في روحي |
ولا نأمة أمل |
ترفع عن عاتقي الأغلال |
الأغلال الثقال.. |
أغلال الحياة للأحياء.. |
* * * |
والصبا.. ذلك الفجر الذي يطل من عيون، فيها |
أطياف الشوق.. |
كم أسرع يلملم بساطه السحري |
كيف.. شحب.. مشت عليه الغيوم |
والفراغ.. |
الأغلال الثقال |
مكبلّة بالأغلال |
كل ما حولي شتاء وجليد |
عواصف وأنواء.. |
وما زالوا يقولون.. الحياة للأحياء |
للذين يعيشون ليحيوا.. |
هراء.. خواء.. |
* * * |
عجوز.. |
في نفس الطريق |
على نفس الرصيف وتحت ظلال أشجار الشارع الطويل |
هي نفسها الأشجار التي عرفها منذ زمن طويل |
ولكن عجوز.. |
* * * |
نفس الطريق، شهده وهو يقفز كالعصفور |
نفس الرصيف، كان يقف فيه، ومعه كوكبة من الشباب |
هذه الظلال في الليل.. |
تحت مصابيح الشارع الخافتة |
كان يقف تحتها.. ينتظر الأصدقاء |
كانوا يجيئون.. ضحكاتهم الصاخبة تعكر صفو السكون |
كل شيء هو.. هو.. |
ولكن عجوز.. |
* * * |
والقلب.. هذا القلب الذي طالما خفق للجمال |
طالما ردد قصائد حلوة من شعر القدامى |
طالما عاش أغاني الحب.. |
هو نفس القلب الذي يخفق الآن |
في نفس الطريق |
على نفس الرصيف |
وتحت ظلال أشجار الشارع الطويل |
ومواكب الشباب والجمال تمر |
وبائع الفل.. يقلد الصدور، عقوداً من أريج |
ولكن عجوز.. |
* * * |
في مغارة حمراء خبأتها |
في مياه عيني.. أغرقتها.. ونشرت حولها الضباب |
وفي كهوف الصمت.. في الليل.. أغرقتها |
هناك هي.. ذكرياتي.. ذكرياتي الحبيبة |
* * * |
ذكريات بعيدة.. ولكنها مضيئة |
مشعة تحت غبار الأيام |
ومعها.. وفي جوف الليل.. همست أغاني الخرساء |
* * * |
حفنة من الشمس.. أذابتها في زرقة الأمواج |
شمس.. كنت أعيش دفئها |
كانت تتسلل إلى أعماقي |
كانت تضيء تلك الأعمال.. رغم كل الظلام في الحياة.. |
* * * |
ولكنني اليوم.. أهرب.. أهرب وأختفي معها |
مع ذكرياتي البعيدة |
في مغارة حمراء |
ولكن.. ما أشد جرأة أهدابها |
ظلال.. وشلالات ضوء.. |
اسمها فتنة.. وسحر.. |
تلاحقني.. حتى في هذه الكهوف |
فيا ترى.. أين أجد الملاذ |
ترى كيف أنسى |
كيف أمحو الذكريات؟ |
* * * |
رسالتها إلى جدها |
في متجره الصغير.. |
عند منعطف الزقاق الضيق |
حيث بيوتنا.. وبيوتهم.. |
الجيران.. الأحبَّاء.. الذين عرفت الحياة على وجوههم |
ورسالتها إلى جدها.. |
من البلد الذي ذهبت إليه مع أبيها وأخواتها الصغار وأمها.. |
من البلد الذي قال جدها |
يذهبون إلى حيث يجدون لقمة العيش |
إلى المزيد من الرزق الحلال.. |
فقد ثقل الحمل.. وازداد العيال.. |
* * * |
رسالتها إلى جدها |
أخذتها بين يدي.. أقرأها له |
أخذتها بين يدي حمامة بيضاء.. ناعمة وديعة |
وقرأتها.. |
تحب جدها.. تقبِّله ألف قبلة.. أوحشها جداً.. |
تسأله لم لا يذهب هو أيضاً إلى هناك |
تتمنى أن تجلس إليه، وأن تسمع منه تلك الحكايا الحلوة.. |
عن أيام زمان، أيام كان شاباً.. يغامر.. يسافر.. على الجمال.. |
بين الأودية والجبال |
تحت زخات المطر.. وفي وجه العاصفة |
كيف ضاع في الوادي.. |
وكيف عاش أياماً على حافة غدير.. يأكل النبق.. وينام |
تحت الصخرة وهناك وجد من هداه إلى الطريق.. وأصبح |
أعز صديق.. |
* * * |
رسالتها إلى جدها.. في نهايتها تحياتها |
إلى الجدة.. والعمات.. والجيران.. |
يسمون الحقيقة التي أعيشها أحلاماً |
ويسمونني حالماً.. ويضحكون.. |
ولكن دنياي الصغيرة |
أراها هناك |
كلامها الهامس.. تفاهاتها.. ضحكاتها.. حولي |
في كل مكان.. |
دنياي.. حقيقة أراها هناك |
ضعفها.. رقتها.. وأحياناً، دموعها |
وحتى آلامها |
تملأ من حولي الفراغ |
* * * |
هي معي في الدرب الموحش.. بين الأشواك والصخور.. |
هي معي.. في الظلام الحالك.. يلاحق مسيرتي في الحياة.. |
معي في غرفتي بين الأخشاب المهترئة والصفيح القديم معي |
وأنا بها سعيد أبداً.. ضاحك أبداً ما دامت معي |
وستظل معي.. سوف لن نفترق.. |
بلى.. أعلم.. أعلم أنها الآن في بلد بعيد |
ولكنها معي.. |
في أذني كل كلمة سمعتها طيلة أيام وأعوام.. |
حتى في هذه اللحظة التي أقف فيها مفتوح العينين في الظلام |
أراها.. أسمع صوتها.. ضحكاتها.. حكاياها عن أيام |
الطفولة والصبا.. عن الكوخ في قلب الخضرة.. |
وعن الذئب الذي كان يعوي في ليالي الشتاء.. وكيف |
كانت تعانق أمها في الظلام.. |
بلى ستظل معي.. تملأ من حولي الفراغ.. وإن كانت |
في بلد بعيد.. |
* * * |
جذفي.. جذفي يا نوار.. |
انشري الشراع الأبيض.. |
فيه رائحة يدي جدتي |
رائحة تشدني إلى السفح |
حيث البركات والخيرات |
جذفي.. جذفي يا نوار.. |
* * * |
غنني.. في أغانيك، ما يطفئ غلة.. ويأسو |
خواطر الحزن |
لا تحبسي صوتك.. أطلقيها أغرودة.. تذكرني بماضٍ |
بعيد |
بالجلسة، بعد الغروب.. والأهل والأطفال.. والأضياف.. |
وأغانيك هذه.. |
أغاني القرية.. أغاني البراءة والطهر والصفاء.. |
* * * |
شجرة السيسبان التي كانت عند السفح.. ما تزال خضراء.. |
حولها أعشاب جافة صفراء |
لأن الغدير يبس.. |
جف.. لست أدري لماذا جف.. |
ولكن شجرة السيسبان ما تزال خضراء.. |
أراها الآن.. وراء المياه الزرقاء |
جذفي.. جذفي يا نوار |
جذفي.. ولنعد إليها.. إلى القرية.. |
إلى الأهل والأطفال.. والأضياف.. وليالي السمر |
حول النار والأغاني.. أغاني البراءة والطهر والصفاء.. |
* * * |
الزهر.. والثمار |
ما أبعد ما يذهب الربيع هذا الصباح |
حتى الأزهار التي ظلت تملأ التلال.. أطفأت اليوم أنوارها |
فالتلال.. لا تسطع فيها ألوان الربيع |
وتلك الزهرات على الشباك هناك |
ذابلة.. كقلب أضناه الهجر والفراق |
ما أبعد ما يذهب الربيع.. |
ويتركني هنا.. وحيداً.. على الصخرات السود |
حيث لا شيء، سوى عصفور يغرد على الدوالي.. |
يرحب ببواكير الثمار، مع مقدم الصيف |
ليس حزيناً مثلي على ارتحال الربيع |
والزهرة التي ذبلت |
والوردة التي أضناها الهجر والفراق |
والتلال، التي شهدت مهرجان الربيع |
وأصبحت اليوم، ترى كيف لملم أزهاره ومضى |
كلها.. ليست حزينة.. كلها ترحب ببواكير الثمار مع مقدم الصيف |
* * * |
أنا.. وحدي أعيش لحظات الفراق |
أشهد كيف يرتحل الربيع |
كيف يلملم الزهر، والعطر على التلال |
ويمضي.. وفي لياليه وأيامه كل ذكريات الزهور والعطور |
كل دنياي.. من الصبا.. والحب.. والجمال |
والثمار.. كل الثمار |
أين منها ذكرى زهرة عشت عطرها |
في تلك الأيام.. من الربيع |
* * * |
ابتعد الشراع.. والريح تطير به إلى بعيد |
والأمواج تمر به تطفو وتتواثب. تتركه على صدر البحر |
تترامى على رمال الشاطئ وتهمس في تجويف القواقع والأصداف |
نهاية قصة.. نهاية أيام.. |
* * * |
وطيور البحر.. تتلاحق.. هاربة من الليل.. |
وعلى الصخور الجهمة، حيث الموجة لا تمل حكاياها الصاخبة |
تلم الطيور أجنحتها، وتتهامس في حذر.. |
ما أبعد ما ذهب الشراع.. |
وتضحك الموجة الصاخبة وتقول: |
تلك نهاية قصة.. نهاية أيام |
* * * |
وعلى الرمال هناك |
بقايا لقاء |
أعواد ثقاب |
ومناديل ورق.. |
تطاردها الريح.. فتهمس.. تلك نهاية قصة.. نهاية أيام.. |
* * * |
ضربت في كل الآفاق |
اجتزت الصحراء.. إلى الصحراء |
حملقت طويلاً.. في وجه اللاشيء |
غازلت النجوم |
غصت في أعماق البحر من تراث القدماء |
عشت مع أنهار الفضة في جماجمهم العالية |
ومع شلالات اللجين في لحاهم |
وعبر الغضون والأخاديد في جباههم العالية |
سرت طويلاً معهم حتى دميت قدماي |
والزاد قليل.. والعمر.. مهما طال.. قصير.. |
* * * |
لكن أشواقي.. أشواقي إليها |
كانت تنهش صدري.. تمضغ أيامي |
كنت أطوي الزمان إلى الماضي لاهثاً.. متسائلاً.. أين؟ أين؟ |
أين الدرب إلى أبوابها.. مداخلها.. |
ثم قلت.. |
هبني عرفت الباب.. وطرقته.. هل يفتح لي؟ |
* * * |
كنت أعلل النفس بالأشياء الساطعة الزرقاء |
بالأزهار العابقة في مدارج السر العميق |
بالفيء.. بالظلال الناعمة |
بالكواعب الأتراب في جنبات النهر.. تحت أغصان شجر الليمون |
بموسيقى الطير تصدح بين أفنان التين والزيتون.. |
* * * |
في رياض الحكمة |
لكني.. واأسفاه.. عدت إليكم.. أيها الساهرون.. |
عدت دامي القدمين |
.. في يدي كوز فارغ |
عدت إلى عشي، إلى حقيقتي.. |
إليها.. إلى الأرض والخواء |
* * * |
في صحوة الفجر.. وعند تلك التلال من أرجوان |
والقطيع يثغو.. ويتواثب، على بساط من سندس |
والخيام، تتلامح سوداء، تحت ظلال السفح ونهر |
الفضة يتدفق.. يكلل هامات الجبال، والإبل، فحولاً |
ونوقاً، وراءها أولادها، تنوش أغصان السلم |
في صحوة الفجر.. رأيتها.. عند تلك التلال من |
أرجوان.. |
* * * |
في صحوة الفجر.. رأيتها، عند تلك التلال من أرجوان |
حلماً يهمس، في سمع الأودية والجبال |
أهازيج أيام خيالية.. |
عن الحسن يتفتح أزهاراً |
عن الصبا يترقرق عبيراً |
عن البسمات الخفرة، تتوهج، مرحاً |
عن الحب، خمائل حانية، وظلالاً من حنان |
* * * |
في صحوة الفجر.. رأيتها عند تلك التلال من أرجوان |
مرحاً يطفو، وصبا يفتر |
قلباً يخفق بأشواق الطهر |
يخفق للحب.. وأحلام الحب |
للزهرة تتأرجح، وتتبرج، للشعاع والألق |
للفراشة، توشوش الأزهار الغافية |
تقص حكايا الربيع |
في صحوة الفجر.. رأيتها عند تلك التلال من أرجوان |
* * * |
في صحوة الفجر رأيتها.. عند تلك التلال من أرجوان |
بين تلك الخيام.. تحت ظلال السفح |
وفي الخيمة السوداء.. هناك.. غابت.. |
كالشمس.. بين السحاب.. |
* * * |
هنا على رمال الشاطئ |
على الحرير والذهب |
دنيا الماس واللؤلؤ والأرجوان |
هنا.. كان لقاء.. |
* * * |
ما أبعد تلك الليلة في ضمير الزمن |
ولكن ما أشد قربها مني الآن.. إنها تتوهج بكل الحرير |
بكل الرمال على الشاطئ المهجور.. |
* * * |
وأنت أيها البحر.. ما أصعب أن تذكر ذلك اللقاء |
كنت جميلاً.. |
هي التي قالت.. حين تراميت أمام عينيها.. وأمواجك تقبل |
قدميها الصغيرتين |
هي التي قالت.. كم أنت جميل |
هناك الزرقة.. وهنا إشعاع ياقوت وجوهر |
هي.. هي التي قالت: إنك حياة |
حياة تتحرك.. تضحك وتمرح.. تضاحك القمر الذاهب نحو |
تلك الجبال.. |
ألم تسمعها تقول: |
أيها البحر، ما أسعدك.. تستحم تحت شلالات الضوء |
وجداول الشعاع.. |
* * * |
أية قسوة.. أن لا تذكر ذلك اللقاء.. وقد سمعت من |
شفتيها أنها تحبك |
كانت لا تريد أن ينتهي الليل |
تمنت أن يقف الزمن |
حتى القمر، تمنت لو أنه لا يذهب وراء تلك الجبال |
وهذه القواقع والأصداف.. كانت تعبث بها.. تضع |
إحداها على أذنها تحت الجديلة من شعرها.. |
وتضحك.. تقول إنها تسمع في القوقعة حكايا الزمان.. |
* * * |
هنا.. على هذه الرمال، كان اللقاء.. |
والرمال خرساء |
والبحر قاسٍ.. ما يزال يتحرك.. يضحك.. ويزخر بالألوان |
والموجة ما تزال تمرح.. والزبد والرغوة في سباقهما المعهود |
ولكنهم.. لا يذكرون |
وأنا.. أنا وحدي.. أردد: هنا.. هناك كان اللقاء.. |
* * * |
وقفت عند باب الحياة.. لا أدري لماذا أقف.. ومن الذي |
أوقفني فرأيت الساحة تموج بالبشر.. |
كلهم يمرون.. كلهم يسرعون.. يتسابقون |
أخذت أتفحص وجوههم، أحاول أن أعرف بماذا أختلف عنهم |
بماذا هم يختلفون عني |
وطال وقوفي.. وطال معه تأملي.. |
ولكنهم يمرون.. يسرعون.. يتسابقون.. |
* * * |
وطال وقوفي.. ولم أزدد إلا شعوراً بحيرتي وعجزي |
لم أزدد.. إلا شعوراً.. بأني شبح غريب |
إنهم يمرون.. يسرعون يتسابقون.. |
أما أنا فجامد.. مندهش.. لا أستطيع شيئاً سوى |
أن أفتح فمي ذاهلاً عن كل شيء |
وأدركت أن لا مكان لي في الساحة |
لا مكان لي في الحلبة.. يتوالى فيها السباق |
* * * |
وإلى كوخي رجعت، في قلب الحقل.. رجعت |
وألقيت نظرة على الشمس الغاربة |
وأصغيت إلى صوت الناي، ينفخ فيه الراعي الصغير |
وسمعت عن بعد يمامة.. تقول شيئاً |
تقول ما لا أفهمه.. ولكني أحسست أني أعيش |
أعيش.. وأن الحياة.. ليست هناك |
ليست في الساحة.. في الحلبة.. ليست حيث يموج البشر |
يمرون.. يسرعون.. يتسابقون.. |
* * * |
هنا.. أتدرين ما معنى هنا.. |
هنا.. في الطابق الثلاثين من المدينة الكبيرة |
غرفتي.. أسطورة.. لم تسمعي حكايتها حتى في |
حكايا جدتي.. |
كل شيء فيها.. من ابتكار هذه العقول التي تصنع حضارة |
العصر |
هل تعرفين.. ما هي حضارة العصر؟ |
كيف.. كيف يمكن أن تعرفيها وأنت كما عهدتك هناك.. |
في تلك القرية في الوادي |
ذلك الوادي الذي كان فردوسنا بعد هطول الأمطار.. |
ذلك الوادي.. فيه حلالنا.. من الماشية والضأن والإبل.. |
فيها بيوتنا من الشعر.. |
وأنا هنا.. في الطابق الثلاثين من المدينة الكبيرة.. |
لا تخافي.. الطابق الثلاثون.. فوقه عشرون طابقاً.. |
هي التي يسمونها ناطحات السحاب.. |
وأنا أنطح السحاب من نافذتي.. وراء زجاجها السميك.. |
أنطح السحاب.. ومعه الكتب.. لا بد أن أنطح الكتب، |
بالسهر الطويل.. |
* * * |
أعلم أنك تسمعين الكثير من القصص من ذلك الجهاز الذي |
اشتراه أبي يوم عاد إلى القرية من الديرة ذات يوم.. |
تسمعين، قصص الغدر، كما تسمعين قصص الوفاء |
قصص البطولة.. والجبناء |
يجول في ذهنك أن تقولي مع من سأعود.. ومتى |
سأعود معها.. |
مع الكتب.. |
ويومها.. أنت أيضاً ستسكنين معي، في إحدى العمارات الشاهقة.. |
ربما في الطابق الثلاثين.. |
لأن بلادنا اليوم، ترتفع فيها ناطحات السحاب.. |
والسبب.. السبب هو أننا مصممون.. أن ننطح السحاب |
أن نسابق الأمم.. أن نحتل مكاننا تحت الشمس.. |
* * * |
لا تيأسي.. وغن للفجر يطالعك بابتسامته عبر السحاب |
لا تيأسي.. فالقفار والصحاري، قالت لي، حين كنت أبتعد |
في ذلك المساء |
قالت لي كلاماً حلواً.. |
همست به في صدري |
قالت لا بد من يوم اللقاء |
* * * |
ابتسمي.. وغن للجدول وهو يترقرق بين العشب |
وذلك العصفور، الذي كنا نصغي إليه، وهو يغرد للورد |
لا تتركيه وحيداً.. دعيه يراك واسمعي ما يقول |
قال لي.. وأنا أغادر الوادي.. |
قالها بأغرودة مرحة |
لا بد.. لا بد من يوم اللقاء.. |
* * * |
لا بد من يوم لقاء.. |
وكما تشرق الشمس، بعد أن يبتلعها البحر |
وكما ظللنا نردد توسلاتنا |
وفي عيوننا توهج الأمل |
يجفف الدموع |
فلا بد.. لا بد من يوم لقاء.. |
* * * |
سنمشي على التلال |
وسنسمع ثغاء الماشية وهي تلتهم العشب |
وسنضحك حين نرى الحملان الوديعة، تتسابق إلى الغدير |
ومن ذلك الينبوع سننهل ملء أكفنا ماء كالفضة |
وفي اللحظات التي تغرب فيها الشمس.. سنأوي إلى ساحة |
البيت، حيث نصغي إلى حكايا الأخوال والأعمام.. |
أخبارهم.. مع الليالي، ومياه السيل تهدر من حولهم |
بلى.. بلى لا بد من يوم لقاء.. |
* * * |
ذكراك يا أمي |
ذكراك تعود بي إلى مطلع شبابي |
حين كنت تذيبين قلبك إرواء لظمئي |
كنت يا أمي تخافين |
تخافين أن يذهبوا بي بعيداً |
كما تذهب العواصف بأوراق الشجر في الخريف |
وجاؤوا يا أمي.. |
طرقوا بابنا |
طالبوك، بفتاك الصغير |
طالبوك.. بفتاك (نصير) |
قلت وأنت ترتعشين كجذع يتهشم |
ماذا فعل ابني.. ماذا منه تريدون؟ |
قالوا.. هاته.. ابتعدي عنه.. وإلا فالرصاص.. |
وكان لا بد أن أذهب.. لا بد أن أتخلص من صدرك الحنون |
كان لا بد أن أمشي معهم إلى حيث يريدون.. |
وكانوا يضحكون.. يسخرون.. يقولون |
فدائيون.. فدائيون.. فدائيون.. |
أعرف اليوم.. في ظلام سجني الرهيب.. |
في ضجعتي على الشوك.. وعلى أنياب الزمن المديد |
أعرف اليوم، أن شفتيك، قد أطبقهما الموت إلى الأبد |
أرى.. في هذا الظلام.. كيف أغمضت عينيك على |
صورتي وأنا بين أيديهم وعلى المصير.. |
أي مصير..؟ |
لست أدري.. لست أدري.. ولكني أسمعهم كل يوم |
يجيئون بسجين |
أسمعهم يسخرون.. يعربدون.. ويرددون.. |
فدائيون.. فدائيون.. فدائيون.. |
وأنا.. في أغلالي.. في الحديد.. أردد معهم |
أجل.. فدائيون.. فدائيون.. |
* * * |
سهرتك يا ليل.. سهرتك بكل ما فيك من أسرار.. بكل ما تُوحيه من أفكار |
سهرتك يا ليل.. |
سهرتك، والنجمات تتلألأ بين أغصان الحديقة الغافية.. |
سهرتك، والهلال الشاحب وراء المدخنة بلا دخان |
سهرتك، وأصوات الجنادب، تقص تفاهات حياتها في الظلام |
سهرتك يا ليل.. سهرتك طويلاً كالدهر، صامتاً كالقدر.. رهيباً كالقبر |
سهرتك، وأغمضت جفني على طيفها الحبيب |
وفتحتهما على حقيقتك الصماء، |
سهرتك، أحلق في عالمك الحافل بالغموض.. ورأيت دنياك الغارقة في آهة صدر يحرقه الشوق، وتمزقه اللهفة، وتبرح به آمال غد لن يجيء |
سهرتك البارحة.. رأيت كيف يطويك الفجر، وأظل أنا وحدي بلا فجر.. بلا صباح |
سهرتك يا ليل، وما أزال ساهراً.. ما أزال أغمض جفني على طيفها الحبيب.. |
وما تزال أنت.. ما تزال يا ليل، لك دنياك الغارقة في آهة صدر تبرح به |
آمال غد لن يجئ.. لن يجئ.. |
* * * |
كثيراً ما، في لحظات يتاح فيها اللقاء |
يتاح أن أرى الحسن هناك على الشاطئ الحالم |
وموجات مرحة، تتعلق، وهي تركض، على القدمين الصغيرتين |
كثيراً ما في هذه اللحظات، وهي تمر كعصفور نزق.. |
تتدفق في القلب، أنغام من عبقر.. |
ومعانٍ مجنحة، لست أدري كيف تملأ صدري صخباً وهديراً.. |
واقف أمامها.. أمام الحسن، هناك على الشاطئ الحالم |
فيا لمعجزة الصمت |
كيف يستطيع أن يقول الكثير، |
كيف يستطيع أن يلمس شغاف القلب، |
أن يهز أعماق النفس، |
أن يغنيك، عن أنغام عبقر، ومعاني الملهمين.. |
وابتسامة خفرة |
تبخل حتى برؤية اللؤلؤ النضيد |
تبرق، وتتوهج، على الثغر الشهي |
تجيب على ألف سؤال.. |
تعانق حريق الأشواق.. تحترق، ويتقطع الوتر المشدود.. |
وتضحك الموجات المرحة.. تقبل القدمين الصغيرتين.. |
وكأنها تقول.. حتى نحن.. حتى نحن.. قد فهمنا |
ما قاله الصمت في لحظات يتاح فيها اللقاء.. |
* * * |
يجيء.. حتى مع طول غيابه.. لا بد أن يجيء.. |
يجيء مهما طال انتظارنا.. مهما ضاقت صدورنا.. مهما |
عنكب اليأس في نفوسنا.. |
يجيء.. يجيء يا أختاه.. لا بد أن يجيء |
أجل.. يجيء الزمان.. وتجيء الأيام.. |
الزمان الذي نحسب أن مجهولاً مضغه في الماضي البعيد |
الزمان الذي نقول إنه مضى ولن يعود.. |
الزمان، كما تحدثنا عنه الحكايا والأساطير.. |
الزمان الحلو.. كما يعرفه كل سعيد.. |
يجيء يا أختاه.. لا بد أن يجيء.. |
* * * |
يجيء الزمان يا أختاه.. بالحب.. بالأمطار.. بالوارف المخضر |
من الغصون.. |
يجيء.. بالأمل والرجاء.. بالأمن والدعة.. بالاستقرار والاطمئنان.. |
يجيء الزمان.. يجيء يا أختاه لا بد أن يجيء.. |
* * * |
الزمان يا أختاه، قافلة تطوي مراحل أبعد كثيراً من |
رحلتهم إلى القمر |
من الذي يظن أننا بعيدون عنه، بعد الأرض عن هذا القمر |
لم لا نقول.. مجرّد أن نقول.. إنه بعد طول الغياب قد اقترب |
لم لا نقول.. مجرد أن نقول، إنه بعد طول انتظار، سنسمع |
يوماً طرقاته على الباب وفي يديه الهدايا.. وبين شفتيه الحكايا |
وفي وجهه ابتسام |
* * * |
ثم.. ما الذي يجعلنا نظن أنه لن يجيء.. ألم نره |
قد جاء إلى الكثيرين.. |
ألم نره يحمل إليهم هدايا لم يكونوا يحلمون بها |
ألم تخضر الحقول الجافة وتجري فيها الجداول.. وتعشوشب |
الأرض.. وتمتلئ بالزهور.. |
هم مثلنا يا أختاه.. هم أيضاً انتظروه.. هم أيضاً لم |
يفقدوا الأمل في أن يجيء.. |
لم يفقدوا الأمل والرجاء.. هذا أهم ما كانوا يمتازون |
به عن كثيرين.. |
وتحقق الأمل.. تحقق الرجاء.. وجاء الزمان.. |
جاء وفي يديه الهدايا.. وبين شفتيه الحكايا.. |
وفي وجهه الابتسام.. |
* * * |
في فيافي الليل المترامية كالدهر الطويل |
في ظلامه الممتد كاللانهاية في قصة تبدأ من حيث تنتهي |
كان له ظلامه هو.. ليله هو.. |
ظلام بدأ يوم أدرك أن هناك ضوء الشمس، يراه الناس.. |
يبدأون معه حياتهم.. |
حتى العصافير، تستقبله بالأغاريد |
حتى القمرية، لا تكف عن هديلها |
والأطفال، يفتحون عيونهم، ويقولون، صباح الخير |
والأمهات، يستيقظن، ويتثاءبن، ويهتفن بالصغار.. |
طلعت الشمس.. |
إلا هو.. فظلامه مستديم.. لا نهاية له.. |
إلا هو فليله أبدي، ليس له صباح.. |
* * * |
وفي هذا الليل، يجلس، حيث يضعونه، ويتحلقون حوله، يتسامرون ويضحكون.. |
يسمع حكايا الصبية في صوتها الأغن، كيف جمعت من البرية |
أزهار الربيع |
وقصص الشباب، كيف سبحوا في البحر، واضطجعوا على الرمال |
الناعمة البيضاء.. |
وأخبار الرجال، كيف باعوا واشتروا.. كيف تخاصموا وانتصروا.. |
كيف قطعوا المراحل وعادوا بالربح الوفير.. |
وحين يتثاءب الأطفال، ويغلبهم النعاس، يقول له أحد |
الشباب.. هات اسمعنا لياليك.. غننا.. اطربنا.. |
ويغني الأعمى لياليه.. يغني ليله السرمدي الطويل.. |
يغني لياليه.. ينتزعها من أعماقه البعيدة.. من سراديب الألم.. |
يغني لياليه.. ينسجها من ألف هدب أسود، من همس |
الدموع.. |
يغني لياليه.. من حكايا الصبية في صوتها الأغن وعلى |
صدرها أزهار الربيع |
يغني لياليه.. من أمانٍ حبيسة، ورجاء كسيح. |
يغني.. ويسمع آهات العشاق وزفرات المدلهين.. |
ويقولون بعد قليل.. ذهب الليل.. تصبح على خير ويذهبون.. |
يذهبون.. ويبقى هو، في فيافي الليل المترامية كالدهر الطويل. |
* * * |
لما هبط الليل |
رميت نفسي على أعشاب الشاطئ.. ونمت |
نمت والعقل يقظان |
ورأيت للمعاني صوراً |
تتحرك.. تضحك.. تبكي.. وتسخر.. |
معنى واحد، اخرج لي لسانه وظل يضحك كصبي شقي.. |
أتدري ما هو.. |
إنه الحب يا صديقي.. |
وكان الحب يسخر.. يسخر مني |
لأنه رآني نائماً على أعشاب الشاطئ، عندما هبط الليل |
وحدي.. |
وحدي.. وجدني الحب نائماً على الأعشاب.. |
على الرمال السمراء |
والموج تدفعه أشواق الأزل |
تتلاحق.. وكنوز من اللؤلؤ تذوب وتتلاشى |
هدية.. ما أكثر ما قدمتها الأمواج |
وما أكثر ما ذابت على الرمال السمراء |
للرمال فلسفتها العتيقة |
بقدر ما تتأبى.. بقدر ما تذوب فوقها اللألئ |
تظل أمل البحر |
وتدوم الأشواق |
ويتم معنى الحب |
* * * |
على الرمال السمراء |
وريح الشمال كالصبا المرح المفتون |
تهب وتستريح.. لاهثة الأنفاس |
لكثرة ما طوت من مراحل الطريق |
لكثرة ما حملت من أفراح الأمل في اللقاء |
* * * |
ريح الشمال على الرمال السمراء |
تهمس أخبار الرحلة الطويلة |
حكايا جبال ووديان |
وأشجار أثل وسيسبان |
كلها في الطريق |
كلها تهدي تحاياها.. عطورها.. إلى الرمال السمراء |
* * * |
هو.. والليل |
هو.. وفي صدره طائر قلق |
يسير درب الحياة وحيداً |
والليل.. وفي صدره دنياه من الأسرار |
يقطع طريق الأبد وحيداً |
هو.. وفي نفسه ظلام لا تبدو فيه بارقة أمل |
والليل.. |
وماذا في الليل سوى الظلام |
حتى نجومه اختفت وراء سحابة جهمة |
كلاهما |
هو.. والليل.. في ضمير الزمان صديقان |
عاشا الزمان.. والظلام |
أما موكب الفجر.. تسبقه ضحكات العذارى |
أما رأد الضحى.. تتبرج له أحلام الصبا |
أما ذهب الأصيل.. يلثم الجدائل من شعاع |
أما.. ثرثرة الأمواج في سمع الرمال |
فعالم.. ليس له فيها شيء.. |
* * * |
ولكن ذات ليلة.. هناك على الشاطئ |
بين قواقع ومحارات وأعشاب.. نسيتها الأمواج |
كان هو.. والليل.. في ضمير الزمن صديقين |
وكان صباح |
عجباً.. أهو الفجر في قلب الليل؟ |
أهي النجوم.. تقول ما لم يسمعه دهر طويل |
أم هي لؤلؤة انشقت عنها محارة |
أهي؟ هي التي تضحك له.. تضيء ظلام صديقه القديم؟ |
* * * |
هو والنجمة الضاحكة.. والليل رقيب |
والموجة تلاحق أختها |
وسمع الليل همساته الدافئة تقول: آن لي.. أن أرى الفجر.. |
ويقول لها.. أنت.. أنت هذا الفجر.. بعد الليل |
الطويل.. |
* * * |
تمنيت لو أكون.. |
نغمة نشوى، في لهاة بلبل غريد |
ولو تكونين يا حبيبتي |
وتراً.. يئن تحت لمسات قوس من لهب |
وتعزفينني يا حبيبتي |
نغمة يعشقها السحاب |
تترنم بها قمم الجبال.. في جوف الليل |
وأنت وراء السحاب.. |
ذياك القمر.. |
* * * |
هناك.. عبر الغابات والحقول مشيت |
وعبر سياج وراء سياج اتخذت طريقي |
صعدت إلى الروابي المشرفة |
ومنها تأملت العالم |
ثم هبطت إلى الوادي |
عدت إلى بيتي |
هناك في أول الطريق |
وهاأنذا ألقي عصا التسيار |
* * * |
تلك الأشجار العاتية في الوادي |
أوراقها ذابلة صفراء على طول الطريق |
إلا التي تكسو شجرة السيسبان |
تلك تسقط على مهل |
مع هبة الريح.. |
واحدة إثر أخرى |
وتمضي تجر خطاها على الطريق |
بينما الكل.. في سبات عميق |
* * * |
الأوراق الميتة.. ترقد في هدوء |
لا تبددها الريح كل صوب |
نرجسة وحيدة كانت هناك |
ثم قضت كغيرها |
زهور أخرى ذبلت |
أصفرت.. ماتت |
* * * |
إلا القلب |
إلا القلب ما يزال يتوثب كعصفور يرى أول خيوط الفجر |
وهاتان.. قدماي تتساءلان.. |
إلى أين.. إلى أين المسير؟ |
* * * |
كم أحبك يا ليل |
كم أحب الظلام الحنون، يبسط جناحيه على الكون الكبير |
فيك يا ليل، أحلق في عالم بلا قيود |
* * * |
وإذا صحوت، ومواكب الضوء تزحف كالطوفان، ألقي المجداف |
وأطوي الشراع وأمشي مع الحياة، في طريق يتلوى كالثعبان.. |
يبتلع كالتنين، كل الأماني والآمال |
* * * |
والصخرة العابثة، على الشاطئ الممتد إلى اللانهاية |
تتكسر عليها أمواج الكفاح |
كم أحبك يا ليل.. |
وهذا المجداف، يضرب البحر |
والشراع يملؤه الوهم والغرور |
كم أحب هذا الظلام، يبسط جناحيه.. يضمني في حنان |
يصغي إلى حديثي.. حديثي الطويل |
يستقبلني في الآفاق البعيدة.. في عالم بلا قيود.. |
* * * |
رمال الصحراء.. تتلوى كالحيايا.. في دروب اللانهاية |
والسكون السرمدي، يصغي لحكايا، تلوكها الرياح السافية |
حكايا عالم خفي |
تشعر به يهمس.. ولكن لا تراه |
يتمطى هناك.. فوق السهول الوردية والهضاب الزرقاء |
فيه أساطير غريبة |
أساطير عصور ودهور |
فيها ما في الكون من أسرار رهيبة |
أسرار قلوب صفقت للحسن |
ثم رقدت تحت أطباق الثرى |
* * * |
واهاً لك.. يا رمال الصحراء الحزينة |
واهاً لك.. يا حكايا الرياح |
يا ذلك، الحسن.. صفقت له قلوب |
قلوب ترقد اليوم تحت أطباق الثرى |
قلوب كم اهتزت للحسن.. كم خفقت للفن.. كم نزفت من الدم |
في سبيل لحظة لقاء ترقد تحت أطباق الثرى |
ترى.. هل بقي فيها - تحت الرمال - بقايا حلم في |
ساعة غروب؟ |
لا.. ليس في وسعك أن تحصي النجميات، تتلامح أمام عينيك |
شباكك، ذاك الذي تسطعين فيه، بعد الغروب.. |
ونظرتك إلى هناك.. وراء الأمواج.. |
وراء النجميات تتلألأ من بعيد.. |
لا.. وما أصعب أن تعدي بتلات الورود، تترامى عليك في موقفك |
تتزاحم لتهمس في سمعك سر الفراشات الهائمة حولها طيلة اليوم |
* * * |
لا.. وكيف يسعك أن تتصوري كم ورقة في شجرة السيسبان المترامية تحت قدميك.. |
وتلك الأمواج تتلاحق من صدر البحر، تتهالك على الرمال |
كيف يمكن أن يحصيها عقل بشر؟ |
والمحارات والأصداف، إذ تصغي لحكايا الليل.. |
من يقول إنها لا تذرف الدمع مع رثاء لعرائس البحر.. |
* * * |
ذهبت العاصفة بالعشاق.. |
لا.. لا سبيل إلى أن تعرفي كم دمعة شربتها الرمال.. |
هي.. دموعي يا حبيبتي.. |
نجميات.. في الأفق الأزرق البعيد.. |
هي دموعي.. أمواج تتلاحق من صدر البحر.. ترتمي على الصخور |
هي دموعي.. بتلات الورد، تهمس في سمعك سر الفراشات.. |
سر الحب.. |
هي دموعي يا حبيبتي تذرفها المحارات والأصداف.. وتشربها |
الرمال.. |
* * * |
ذهب النهار ما أبعد ما ذهب |
ذهب النهار.. ولن يعود |
ذهب |
وانطوى من العمر يوم |
ذهب النهار.. ولم يبق منه سوى هذه الذكرى الباهته |
لحياة خاوية |
وهذا هو الليل |
يتلاحق فيه ظلام أخرس |
يزحف على قلبي.. كما يزحف على الكون الكبير.. |
* * * |
هناك أنوار صغيرة |
تتلامح في الطريق |
وفي النوافذ التي شرب الظلام ألوانها |
تتلامح أضواء.. وأشباح |
شبح واحد.. هو الذي يفسر لي معنى الغموض في الليل الطويل |
يقف على النافذة.. يحتسي أحلام الوحدة القاسية |
ويرى الوشاح الأسود.. تلتف فيه القرية الوادعة |
وفي هذا الوشاح يرى.. ما لا تراه إلا عيون العشاق |
فجر الأمل.. في لقاء قريب |
فرحة القلب.. |
حياته الثرة.. في جو اللقاء |
بعد غياب طويل |
طويل |
* * * |
القرية نائمة.. وعلى الحقول الذهبية البعيدة ضباب |
ضباب هادي يداعبه نسيم الصباح.. والشمس لم تشرق |
لم تصل إلى أسطحة |
المنازل.. وفي جو السحر لسعة بردة منعشة |
وأنت.. وأنت كما رأيتك يوماً.. |
بين السنابل.. حلم القرية، روحها النبيل.. |
* * * |
والعصفور.. |
كيف لا يهرب.. وأنت بالقرب منه.. بين السنابل |
ينهل من الساقية.. قطرات يجدها بين الصخور |
أخوتك الصغار ينحدرون من المنزل على الرابية |
في ايديهم محافظ.. يذهبون إلى المدرسة |
وأنت.. أنت بين السنابل.. حلم القرية.. روحها النبيل.. |
* * * |
سمعتك تنادين الراعي الصغير |
تطلبين منه أن يذهب بعيداً.. إلى الجبل |
تخافين على السنابل.. فوقت الحصاد قريب |
وجابر.. على كتفه صناديق التين الشوكي |
يقشر لك واحدة.. وتأكلين.. وتضحكين |
وأنت بين السنابل.. حلم القرية.. روحها النبيل.. |
* * * |
على القمة الشامخة.. كنت أتوسد مباهج الحياة |
بين يدي كل هباتها |
وأعظم هباتها أني أرى ما تزخر به الأرض من عطاء |
الحقول الممتدة إلى ما لا نهاية |
وقطعان الماشية على العشب بين الجداول والغدران |
وفي السماء نتف الغيم تحجب الشمس حيناً، وتأذن لها بالسطوع |
حيناً كأنها تحرس دنيا من أبهة ومجد. |
* * * |
على القمة الشامخة.. كنت أتوسد مباهج الحياة |
بين يدي كل هباتها |
بين يدي هناك.. أشجار الفاكهة مثقلة بالثمار |
وعلى مقربة من الأكواخ، صبية يتراكضون وراء الكرة |
رنين ضحكاتهم يملأ أذني |
سعادتهم في هذه اللحظة من ساعة الغروب، نهر دفاق من المحبة والسلام |
وخوار الأبقار يترامى إلى سمعي، بينما الدخان يتصاعد من هنا وهناك |
فالرجال مجتمعون على قهوة المساء.. |
* * * |
على القمة الشامخة، كنت أتوسّد مباهج الحياة |
بين يدي كل هباتها |
أقل هباتها، أن الصغيرة سلمى تتسلق المنحدر |
وخلفها أخوتها الصغار |
يتنادون ويضحكون |
يحملون إليَّ الرمان والعنب |
ويأكلون مما يحملون |
قد يأكلون كل ما يحملون قبل أن يصلوا إليَّ |
ولكني على القمة الشامخة |
أتوسد مباهج الحياة.. |
* * * |
عبثاً أخفي عناء هذا القلب |
عبثاً.. ما أكابد لأبدو هادئ الطائر |
كلا.. عبثاً أحاول أن أحبس دموعي |
كلا.. فالعاصفة تزأر.. والموج يصخب |
في القلب الجريح.. |
* * * |
قلبي بأناته الحزينة الشاحبة |
وعيناي تطفر منهما دموع الكبرياء الجريحة |
تفشي سر عذابي |
تقول لهذه الموجة وهي ترتمي على الرمال |
تقول.. ها أنت.. قد أصبحت ذكرى |
ذكرى فقط.. |
بعد كل الذي كان.. |
* * * |
على رمال الرابية |
حيث الشمس ما تزال ترى |
في بحر من جوهر وذهب |
في ألف رداء من قرمز واستبرق |
وفي السفح هناك |
تجمع الصحاب |
حول القدر على النار |
يلفهم الدخان الأزرق |
وضحكات الصبايا |
وقهقهات الشباب |
وسعلة عجوز |
* * * |
هي دنياي.. عالمي الحبيب |
دنياي هنا.. على رمال الرابية |
تحت أغصان شجرة التين العتيقة |
كثيراً ما لعب الصغار |
وحين تنادينا أمهاتنا من بعيد |
من الخيام |
كنا نختبئ نلتزم الصمت |
ولكن العم جابر |
يسرع والعصا في يده |
فنسرع ضاحكين.. إلى الخيام.. |
* * * |
التمر واللبن.. لنا |
والقهوة للرجال.. |
ثم الفراش.. وأحضان الأمهات.. والنوم الطويل |
صوت المؤذن في الفجر.. (الله أكبر) |
وبعد الصلاة |
إلى الرابية وعلى رمالها.. |
نرى مشرق الشمس كما رأينا مغربها في بحر من جوهر وذهب |
في ألف رداء من سندس وأرجوان.. |
* * * |
هذي الشموع.. تدور في فلكها من ذهب وأرجوان.. |
عشرون شمعة.. |
تشتعل.. تشرب النغم النشوان.. |
تتواثب.. حوريات في ملاعب الفردوس |
كل وثبة تقول.. ذاك هو الشباب |
وهج المشاعر الطافرة، يشعه قلب العذراء |
يضيء شلالات الليل الهائم في موكب الفتنة والجمال.. |
* * * |
هذه الشموع.. |
عشرون شمعة.. |
ما أجملها في فلكها من ذهب وأرجوان |
ما أعجب ظلالها، تتزاحم على شلالات الليل.. |
وعلى الصدور.. والنحور.. والأنهار من رشاقة وهيف ودلال |
* * * |
ولكن.. كم تشحب.. وتذبل.. وتموت |
حين تسطع من عينيك نظرة |
أسميها نظرة.. فتلك طاقة اللغة العجوز |
* * * |
ولكنها دنيا.. عالم.. كون.. من معانٍ، يشع بها الفجر، |
ويموج بها البحر.. |
والفجر فرحة الزهر، ووثبة العصفور.. |
والبحر، همس اللآلئ، وحديث الدهور.. |
* * * |
عشرون شمعة.. |
في موكب الربيع |
تصدح في دنياه أغاريد الصبا |
والزمن العجوز.. |
ينشر شراعه ليقلع إلى الشواطئ البعيدة.. |
إلى جزر النسيان.. |
هناك يلقي المجداف.. |
وتلال الثلوج تقول.. حوله تقول |
لا مكان للزمان.. |
في فراديس الحسان.. |
* * * |
الربيع.. |
هذا الساحر الذي يتسلل مع الفجر، إلى وجدان الزهرة.. |
فإذا هي تتبرج وتتعطر |
تستقبل مع أشعة الشمس، حنان الفراشة.. وتغريد العصفور |
ومع نسمات الربيع.. همس خفي |
يجعل القلب يصغي إلى ترانيم الحب والأشواق.. |
تأتي من بعيد.. |
من كهوف الزمان.. |
* * * |
ولكن ما أشد ما يبعث هذا الربيع من أحزان |
مع الزهرة، وهي تتفتح |
ومع النسمة التي تعبث.. وتهمس.. وتغني |
مع الفراشة التي تهدهد.. تحنو.. تلثم الشفق في برعم |
مع العصفور.. لا يكف عن التغريد |
تشتد أحزاني.. عناقاً باكياً.. |
في صدري المكدود.. |
* * * |
لم لا يرحمني الربيع؟ |
كيف لا يدرك أن ليس لمثلي ربيع؟ |
إن ربيعي قد ظل هناك.. |
يتيماً باكياً.. في يوم لفه الإعصار |
في يوم اختفت معه السمراء، في زحمة المطار |
في لحظة.. كانت الدموع فيها.. بداية الإعصار.. |
في أيام.. ما أطولها.. |
ما تزال تتساءل.. أين السمراء؟ |
متى يطلع النهار؟ |
* * * |
لنسدل ستور الشفق.. |
فالهواء مجروح يتأوَّه.. |
وعصافير الخميلة، يعصف بها الشوق إلى المجهول |
وعطر الزنابق، يرعش البسمات |
ويترك في هباتها، مثل حمى.. |
مثل أنفاس الطفولة البريئة، في جوها الربيعي الحنون.. |
* * * |
هذا هو القمر.. أترينه هناك |
يتمهل في سيره.. ولا عجب.. فهكذا يمشي موكب العظمة |
وموكب الجمال |
وهو.. هذا القمر.. ليس متعجرفاً.. ليس شحيحاً |
ما أكرمه ما أشد حنانه.. |
كأنه يقول.. من العظمة ينبع الحنان.. |
ومن الحنان يتدفق العطاء.. |
إنه قادم إلينا.. أجل إلينا، في هذا العش.. على طرف المنحدر.. |
يعرف.. يعرف القمر.. كيف يضفي على سعادتنا.. معنى البراءة |
والطهر.. |
* * * |
انظري كيف يحنو على جبهتك السمراء |
كيف يتسلل.. في رفق.. بين هذا الحرير من الشعر.. على |
القسمات الحلوة.. |
كلا لن أغضب.. وكيف يغضب المرء حين يرى أخاً يداعب أخته.. |
ولكن.. بالله يا أخته.. يا أخت القمر.. أذكري أني.. أني هنا |
هنا في هذا العش.. على طرف المنحدر.. |
* * * |
خبأتها بين جفني |
أغرقتها في دموعي.. ونشرت حولها الضباب |
وفي أورقة الليل، أفرغت دفقاً من شعاع الأمل |
وفي صمته.. همست أغانيَّ الخرساء |
وحفنة من الضوء |
تنشرها تلك الابتسامة الخفرة |
أذابتها في مياه البحر |
ثم هربت.. |
هربت بعيداً.. وهي بين جفني |
* * * |
هربت بأغلى كنز في الوجود |
إلى أبعد ما يصل إليه الخيال |
هربت من النور |
من النسمات الهامسة |
ومن النهار.. |
هربت.. وهي هنا بين جفني |
* * * |
ومع ظلام الليل، فتحت عيني |
ورأيتها |
وحين أطل الفجر، والقمر يغرق في الأفق البعيد |
توارى طيفها الحبيب |
توارى مع الليل |
ورأيت أشواقي |
تصبغ بألوان وردة حمراء |
كتلك التي تطل أحياناً من شعرها الثائر |
وكانت هنا.. ملء عيني من جديد |
بين جفني.. |
* * * |
أفراحها.. |
أفراح فراشة |
أفراح قلب.. عرف الجمال |
عرفه في نفسه.. كما عرفه في كثير من مرائي الجمال |
وليست أفراح القلب، إلا هذا الصخب الذي يثب.. ويمزق |
.. يدمي أصابع اليد.. وخيط دقيق.. شعاع.. |
يفصل بين اللذة والألم.. |
نهاية.. وبداية |
نهاية الأفراح.. بداية الألم |
ورأت الفراشة.. على صدر الورد |
رأت ذلك الخيط الدقيق.. ذلك الشعاع |
كان الورد مزهواً بأريجه العبق |
بالنار تتوهج.. |
وأغرقت الفراشة نفسها في دنيا من عطر ونار.. |
* * * |
وما أسرع ما أحسست أنها تحترق.. توخز بألف إبرة |
وفركت مخلوقات الغابة أجفانها.. أهي الفراشة كانت تبكي |
طيلة الليل.. وتعود إلى الورد بكل ما فيه من أشواك |
وضحكت بوم عجوز |
تأوي إلى جذع شجرة عاتية.. |
ضحكت وقالت |
هو ذاك.. إنه الخيط الدقيق.. شعاع الحرير.. |
بين اللذة والألم.. |
وكثيراً ما تكون نهاية الألم بداية الأفراح.. والأفراح لذة.. |
ذلك شأننا.. |
شأن الفن مع الحياة |
* * * |
زهرة حمراء.. فقط.. زهرة حمراء |
وهج جمرة.. |
حريق.. في البرية النائمة على السهول |
نار.. بلا دخان.. في قلب الخضرة، وعلى أعطاف الذهب |
من سنابل الشعير والقمح |
نار.. ولا تحرق.. إلا القابع هناك بين الصخور |
* * * |
زهرة حمراء.. فقط زهرة حمراء |
والقلب، هو الذي يحترق.. |
القلب.. بين الصخور.. على مشارف الوادي.. عند الغدير |
خروف.. وشاة.. وحمل |
والعشب يتقصف ويهمس أغنية الربيع |
والزهرة الحمراء.. فقط.. زهرة حمراء |
تتوهج.. ناراً.. حريقاً بلا دخان |
لا تحرق.. إلا القابع هناك بين الصخور.. |
* * * |
لا.. ألف لا.. يقولها القلب.. هناك بين الصخور |
لا.. ألف لا.. أين القلب.. من زهرة حمراء |
أين الزهرة الحمراء.. من قلب هناك بين الصخور |
على مشارف الوادي.. عند الغدير |
بعيدة.. كالقمر.. غالية كاللؤلؤ.. حلوة كالأحلام |
أين منها.. |
أين منها القلب القابع هناك بين الصخور.. |
* * * |
عبثاً.. أخفى نزيف الجراح |
عبثاً.. أحبس شعل الدموع |
عبثاً.. وبلا طائل، فالقلب بأحزانه الدامية، لا يكف عن الأنين |
والعين اليقظى، وراء ضباب كثيف |
هنا.. خلف نسيج العنكبوت.. بما تذرف من دمع هتون |
تبوح بسر ما ألقى من شقاء.. |
وجراح القلب ليست حزناً على أحلى الأيام |
ودموع العين أغلى من أن تراق على سراب |
سراب.. هو في هذه اللحظة، من الليل عذاب |
كلا.. والضباب الكثيف.. ونسيج العنكبوت |
لا يحجب الطحالب، في مستنقع الغدر الكريه |
كلا.. ولكنها مأساة الروح السجين |
مأساة القلب المثقل بالأغلال |
* * * |
هذا الضياء.. معنى الزنابق والدماء |
هذا الضياء |
* * * |
هذا الضياء، كنوز، من ذهب، وماس ولجين |
ألف لون.. يستسر هناك.. ويبدو هنا |
وموسيقى الظلال.. تهمس الأنغام |
* * * |
هذا الضياء.. أي سحر في الياقوت، يسمر المشاعر في الشعاع |
وما بال زرقة البحر، وخضرة الروض، تتعانقان في قنديل |
وموسيقى الظلال.. شلالات من الضباب الأشقر على الجباه |
موسيقى الظلال تهمس الأنغام.. |
* * * |
هذا الضياء.. ولا ضياء |
ضباب ينهل ثغور الورد والأقاح |
والبوق المبحوح، جراح راعفة في لفتة الصبا |
والقوس ينهش كوحش حنين الأوتار |
وموسيقى الظلال تهمس الأنغام.. |
* * * |
حتى الأحلام تبعثرت.. ذهبت.. ابتلعها الظلام |
أحلام.. عزفها الناي.. |
في الوادي.. مع ثرثرة العصفور |
وراء القطيع.. |
والشمس عروس |
في غلالة من أرجوان |
دربها لجين |
والناي.. وثغاء القطيع |
وهمس الحصا والرمل تحت قدمينا |
أحلام.. |
أحلام تبعثرت.. ذهبت ابتلها الظلام |
* * * |
بعيد.. بعيد، ذلك اليوم في كهوف الزمن العتيق |
والقرية الوادعة.. وثغاء القطيع |
وبحة الناي في فم الراعي الصغير |
والصبا الأسمر وراء اللثام |
والدخان الأزرق هناك.. عند الخيام |
ورنين ضحكات خفرة |
وأحلام |
أحلام.. تبعثرت.. ذهبت.. ابتلعها الظلام.. |
* * * |
غرد يا طائري الجميل، غرد.. وأملأ الفجر حياة |
غرد، هناك، وقل لنا |
كيف تبتهج القلوب.. والكون غاف مستكين |
كيف الأزاهر والورود، تحنو عليك، وتحتويك.. |
والغيمة السابحة في بحر الشفق.. |
كيف تهديك النغم |
كيف تلهمك البراءة والقيم |
* * * |
غرد يا طائري الجميل.. غرد.. فهنا الزنبق يصغي |
وهنا الوردة تفتر.. وهنا السوسن يطرب |
وأنا.. يا طائري.. بين الصخور الحمر.. عند الغدير |
أحتسي الطهر، أتعمق حكايا السكون |
أغوص في أغوار الصمت.. |
أسمع.. أسمع حفيف جناح.. يذوب في النسيم |
أسمعه يقول.. وما قل ما يقول.. |
الزمان.. |
كل الزمان |
والعمر.. كل العمر |
رفة ثغر |
وومضة هدب |
خفقة قلب.. للحب.. للحنان.. |
* * * |
عند ذلك المنعطف من الدرب الذي مشيته مرات ومرات.. |
تحت ضوء النجوم.. والقمر ما يزال يتسلق أشجار النخيل |
والجنادب تغني للصيف.. وليالي الصيف.. |
والنسمة - رفيقتي الحلوة - تجد مثلي في المسير |
عند ذلك المنعطف.. كان يقف طفل صغير.. |
* * * |
طفل صغير.. قال.. تلك عشتنا بين التلال |
والإبريق في يدي.. منذ الغروب |
إبريق اللبن لأخي الصغير.. |
فارغ يا سيدي.. |
فارغ منذ الصباح |
أمي تحرقها الحمى |
أبي هناك تحت الربوة.. يرقد في جوف التراب.. |
طفل صغير.. وإبريق اللبن لأخيه الصغير.. |
فارغ.. |
ما أكثر ما تفرغ الحياة.. حين يفرغ إبريق اللبن في يد الصغير |
تعال.. تعال يا طفلي الصغير.. |
هات.. هات إبريق اللبن لأخيك الصغير |
هي ذي بقرة حلوب.. على الربوة.. حيث يرقد أبوك |
في جوف التراب.. |
* * * |
ولكن.. أين هي البقرة الحلوب؟ |
كيف.. كيف لا نراها تحت ضوء النجوم.. |
كيف يخفيها القمر.. وهو يتسلق أشجار النخيل |
حتى القمر.. حتى النجوم.. حتى الجندب.. تنسى |
.. تبخل بقليل من اللبن لأخيك الصغير.. |
* * * |
شعلة الإلهام، في قلبي، حين يبسط الليل جناحيه |
تضيء.. فيمتد أمامي رواق تتراكض فيه أشباح وأطياف |
تذهب، شاردة، تتهامس.. فأسمعها تقول |
لا.. لا.. لن نعود |
لن ترى سوى الظلال.. |
* * * |
لا.. لن نعود.. |
لن ترى سوى الظلال.. |
أما نحن.. فهنا نعيش |
في ضمير الزمن |
رضينا بالنهاية |
استسلمنا للقدر |
ألقينا السلاح |
* * * |
لا.. لن نعود |
لن ترى سوى الظلال.. |
وحين ترى الدموع تملأ عينيك |
والأحزان تطبق عليك |
والوحشة تمزق وجدانك |
نضحك.. |
نضحك، إذ كنا قد شبعنا بكاء |
* * * |
وكيف نعود.. كيف يمكن أن ترانا، والماضي لن يعود |
كيف، يحيا الأمل، والريح لا تملأ الشراع |
كيف تورق شجرة اقتلعتها العواصف وأحرقتها الصواعق والبروق |
لا.. لن نعود.. |
لن ترى سوى الظلال |
* * * |
عجباً.. كيف تتساقط كل الكلمات.. كل المعاني، جثثاً هامدة.. |
وكل الأنغام والألحان.. بحة الناي.. أنة العود.. حنين الكمان |
كلها تترنح مجهدة خائرة.. تغوص في الرمال |
عجباً.. كيف يلقي الفنان ريشته.. يسفح ألوانه.. يذبح |
ظلاله، يمزق الكانفاه ويقبع، فريسة للعجز والخواء.. |
عجباً.. كيف يستطيع هذا الجمال العبقري.. أن يجمد |
الفكر والخيال.. |
* * * |
أفلا سبيل إلى وصفها.. |
أتراهم لا يسمعون ماذا يقول القلب، وهو يرتعد، كلما طافت |
بدنياه ذكراها |
كلا.. لغة القلب.. لم يحصرها بعد كتاب.. لم يلهمها |
شاعر.. |
كلا.. لغة قلبي.. كل ما يهجس به، حين ترميني بنظرة |
شيء من حريق وشعل |
شيء من حقل الضباب الوردي في الفجر الزاحف عبر الجبال |
شيء من جدائل الذهب.. في سنابل القمح بين الربى.. |
شيء من ثرثرة الجداول، وهي تترقرق فوق الرمال والحصى |
شيء من هديل يمامة.. وتغريد بلبل.. وعندلة عندليب.. |
* * * |
فليلق الفنان ريشته.. |
ولتسقط الكلمات جثثاً هامدة |
وليخرس الناي، والعود والكمان |
ويكفيني.. أني أراها.. ويقول قلبي كل شيء.. |
وتفهم هي.. وتقول دون أن تقول.. |
إنها تفهم ماذا يقول القلب.. كلما طافت بدنياه ذكراها |
تفهم كل ما يهجس به القلب.. حين ترميني بنظرة.. |
* * * |
مضى الربيع.. |
والصيف.. يجمع بقايا حصاده |
وهذه الطيور.. من حيث جاءت.. تعود.. |
لا أدري إلى أين.. |
ولكن أسرابها، في الأفق البعيد.. تمضي إلى بعيد |
* * * |
والثمار.. عافتها الأشجار.. |
أكوامها، في كل دكان |
قشورها، تلوكها المعيز والدجاج |
والسماء، آن لها أن تحجب زرقتها الصافية |
حتى الشفق.. يلفعه الضباب.. |
والليل.. يلاحق الشمس وهي تغرب شاحبة |
ترعشها هزيمة على غير انتظار.. |
* * * |
والصبا - على الرابية الخضراء |
يرمي النجمة التي تتلألأ هناك |
بنظرة واجفة.. ما أسرع ما تظهر النجوم |
وصيحات الأم من بعيد.. |
تعالي، فقد جاع الصغار |
أبوك.. آن له أن يظهر على المنحدر |
تعالي.. واملأي الجرة.. تعالي.. يا رباب |
* * * |
هذا أنت أيها الألم، يا رفيقي القديم |
مشيت معك درب الحياة الطويل |
حتى في اللحظات الحلوة النادرة، كنت شحوباً في البسمة، غضونا |
في وجه الليل الضاحك من ليالي العمر.. |
حتى رنين ضحكاتها، حين يرفرف كعصفور نزق، ما أشد قسوتك |
وأنت تمزقه بالحسرة والأسى.. |
وفي تلك الشعل من الشفق، في محياها الصاخب بموسيقى الحب، |
كنت أنت يا رفيقي، كنت أنت.. هناك ضباباً يلف مرح الأشواق.. |
وحين يلم بي طيفها مع إطلالة الفجر، عبر القمم الشاهقة الزرقاء، |
كنت أنت، أيها الألم.. يا رفيقي القديم، جمجمة هشة، تضحك |
للأحلام العذبة، توقظها على الواقع.. |
مشيت معك درب الحياة الطويل.. |
واليوم.. ولم يبق من العمر إلا القليل، أراك تجمع بقاياك المتناثرة |
في الواحة الخضراء.. تزمع الرحيل.. |
كلا.. فذلك غدر الرفيق بالرفيق.. |
ما قيمة ما بقي من العمر بعد كل الذي مضغته من رحيق الحياة.. |
والحب والجمال.. |
كلا.. وابق يا رفيقي.. فإني رفيقك القديم.. |
* * * |
إيه.. ما أشد ندرة اللحظات التي يتاح فيها اللقاء |
ولكنها لحظات ما أجمل أن تتألق شعاعاً في ضباب الأيام |
عندما أرى الحسن.. هناك على الشاطئ الحالم |
وموجات مرحة تعلق، وهي تركض على القدمين الصغيرتين |
كثيراً ما في هذه اللحظات.. وهي تمر كعصفور نزق |
تتدفق في القلب أنغام من عبقر |
* * * |
أنغام من عبقر، ومعانٍ مجنحة.. لست أدري كيف تملأ صدري |
صخباً وهديراً وأقف أمامها.. |
أمام الحسن هناك على الشاطئ الحالم |
فيا لمعجزة الصمت |
كيف يستطيع أن يقول الكثير |
كيف يستطيع أن يلمس شغاف القلب |
أن يهز أعماق النفس |
أن يغنيك عن أنغام عبقر، ومعاني الملهمين |
* * * |
وابتسامة خفرة.. تبخل حتى برؤية اللؤلؤ النضيد |
تبرق وتتوهج، على الثغر الشهي |
تجيب على ألف سؤال |
تعانق حريق الأشواق |
تحترق ويتقطع الوتر المشدود |
وتضحك الموجات المرحة |
تقبل القدمين الصغيرتين.. |
وكأنها تقول.. حتى نحن.. قد فهمنا ما قاله الصمت في لحظات |
لحظات ما أشد ندرتها |
ولكن ما أجمل أن تتألق شعاعاً في ضباب الأيام |
لحظات يتاح فيها اللقاء.. |
* * * |
ما أبعد ما يذهب الربيع هذا الصباح |
حتى تلك الأزهار التي ظلت تملأ التلال.. أطفأت اليوم أنوارها |
فالتلال، لا تتلألأ.. ولا تسطع فيها ألوان الربيع |
والورود على الشباك هناك.. |
ذابلة.. كقلب أضناه الهجر والفراق |
* * * |
ما أبعد ما يذهب الربيع |
ويتركني، هنا على هذه الصخرات السوداء |
ولا شيء، سوى عصفور يغرد على الدوالي.. يرحب ببواكير الثمار |
ليس حزيناً مثلي، على ارتحال الربيع |
فالزهرة، التي صوّحت.. |
والوردة التي أضناها الهجر والفراق |
والتلال، التي شهدت مهرجان الربيع |
وأصبحت اليوم، لترى كيف لملم أزهاره ومضى |
كلها.. ليست حزينة.. كلها ترحب ببواكير الثمار |
* * * |
أنا.. أنا وحدي، أعيش لحظات الفراق |
أنا وحدي، أشهد كيف، يرتحل الربيع |
كيف يلملم، الزهر، والعطر، على التلال |
ويمضي.. وفي لياليه وأيامه، كل ذكريات الزهر والعطر |
كل دنياي.. من الصبا، والحب والجمال |
والثمار.. كل الثمار.. |
أين منها، ذكرى زهرة.. عشت عطرها |
في تلك الأيام.. من الربيع.. |
* * * |
ملايين الكواكب والنجوم |
قوانين، ونسب، وألف تعليل خطير |
* * * |
والفجر، بأنهاره من العسجد واللجين |
ما يزال، يطل وراء تلك الجبال |
وراء رياض من اللازورد والأرجوان |
والشمس، كما كانت منذ الأزل |
تشرق، من هناك.. |
من حدائق النخيل |
والصيف.. والثمار.. ما أشهى الثمار |
والربيع.. والأزهار.. يا ضوء النهار |
والخريف.. والرياح.. تبدد الصباح |
والشتاء.. والجليد.. يهشم الحديد |
لكم ثرثروا.. لكم هرفوا.. لكم عكروا صفحة الغدير الرقراق |
لكم قالوا.. إنهم يعلمون الكثير |
عن الكون الكبير.. |
ضياع.. ضياع.. ما أطول رحلة الضياع.. |
ما أشد العمى.. عن السر الخطير |
عن الخالق الأعظم |
تبارك وتعالى.. |
على كل شيء قدير.. |
* * * |
تمزقت الغيمة.. تناثرت.. ذهبت في قلب الزرقة الصافية |
والضباب.. |
ذلك الضباب بألوان قزح |
والغلالة |
تلك الغلالة من شعاع زمرد وياقوت |
والجديلة.. |
تلك الجديلة من وهج الشوق.. وفرحة اللقاء |
كلها.. تلاشت.. |
كلها.. ذابت في الدمعة الذاهلة |
في حريق الآهة.. عبر الطريق.. |
* * * |
كلها ذابت.. في ذهول الدمعة |
في حريق الآهة.. |
عبر الطريق.. منذ عام |
ولكنني.. لست أدري كيف |
كيف أجد نفسي في تلك الطريق |
كيف أرى رفة الثغر وافتراره عن بسمة الفجر تضيء وتتوهج |
كيف، تهمس النسمة بسر العطر، يسبق موكب الفتنة والجمال |
لست أدري.. لست أدري كيف |
تقول لي الصخرة القابعة تحت ظلال نخلة عجوز |
مشيتها.. وقع خطواتها.. أسمعها قبل الغروب.. |
* * * |
كلها ذهبت.. تلاشت.. |
ولكن لست أدري.. لم سنابل القمح تذكرني بالجديلة من وهج |
الشوق، وفرحة اللقاء |
ولم، هذه القطرات من الندى، على زجاج النافذة، تملأ عيني |
بالحسرة والأسى على الضباب بألوان قزح.. |
يلف.. أحلى الأيام.. |
* * * |
الليل العجوز.. وقلب خفوق |
والفراغ.. |
الفراغ الساحق في المكان المهجور |
وأمواج ماضٍ بعيد |
وأصداء ضحكاتها الخافتة في وجه الفجر |
وشعلة همس |
ثم حريق وإعصار |
حياة لحظة.. ثم الأعماق |
في الليل العجوز للقلب الخفوق |
* * * |
والساعة العنيدة ما تزال تدق |
والنجمة الشاحبة ما تزال هناك |
وأغصان الشجرة ما تزال ترتعش |
والكتاب مفتوح منذ أجيال |
والصخر يتثائب |
والانتظار ينسج بيت العنكبوت |
والأمل يصارع الأمواج |
والدرب مقفر نائم في الظلام |
القلب وحده.. |
وحده في الظلام يسمع ويرى |
يسمع وقع أقدام تقترب |
ويراها |
هي.. هي على الدرب الطويل |
* * * |
طارت الفراشة، وفي جناحها وخز شوكة من أشواك الورد |
وأحست أن الوخزة في حياتها أكثر من مجرد وخزة.. |
كانت شيئاً يلاحقها أينما ذهبت.. |
حتى عندما تغفو، وتضم جناحيها، على سرير من فل وياسمين |
* * * |
في جوف الليل.. كانت وخزة الشوكة تقول لها شيئاً غامضاً |
غامضاً، ولكنه مثير.. مدمر |
ولا تهدأ الفراشة.. |
لا تهدأ على سرير من فل وياسمين.. |
على فراشها الوثير، تتقلب.. تسمع شيئاً غامضاً |
ويطول الليل.. |
لله كم يطول |
كأنه لم ير ضوء الفجر.. |
* * * |
هذا القلق.. |
قلق الجمال الذي عرف الجمال في نفسه.. |
هذا الصخب تعبر عنه الفراشة بما يتلألأ ويضحك من ألوانها |
على سرير من الفل والياسمين.. |
* * * |
لم يغمض للفراشة جفن |
ظل شبح الوخزة يلازمها وبكت الفراشة.. |
بكت.. لأنه لا شيء سوى الدموع تلجأ إليه الجميلة في أحزانها |
واستقبلت وسائد الفل والياسمين حرارة دموع مخلوق، لم يعرف |
قط معنى الدموع.. |
وبكى الفل.. وبكى الياسمين.. |
* * * |
ولم تقل الفراشة الحزينة شيئاً |
ولكنها استروحت عزاء.. |
وقالت زهرة نرجس هناك.. كانت تسمع |
علام تبكين؟ |
* * * |
واستيقظ عصفور.. ليرى الفجر يترقرق بدنيا الورد في أحضان الأفق |
واستطاعت الفراشة أن ترفع رأسها المثقل عن وسادتها من الفل |
والياسمين وأن ترى مع الدنيا، أشعة الفجر تداعب جبهة الأفق.. |
وأعالي الأشجار |
وكان صدر شجرة الورد هناك.. يتطلع إلى فراشة الأمس |
وضحك الفل.. وضحك الياسمين |
والنرجس فرك عينيه.. لا يصدق |
والعصفور.. ملأ دنياه تغريداً |
فقد كانت الفراشة.. تطير.. |
وترتمي على أشواك الورد.. |
* * * |
دربي إلى الوادي الحبيب |
أسير فيه اليوم |
كما ظللت أسير في أيام صباي |
وكما سار فيه قبلي أبي وجدي.. |
حتى أمي.. كانت تقص علينا حكايا صباها |
هناك تحت السفح - حيث الظل عميق |
وبقايا غدير |
كانت تلعب مع لداتها وأترابها |
والقطيع حولهن، ينتشر ويسرح على الحوافي المعشبة |
إحداهن تكتشف بين العشب زهرة |
صفراء كالذهب.. لها اسم.. |
سمعته من أمي وهي تقص حكايا الصبا البعيد |
ولكني نسيت.. نسيت الكثير من أسماء الزهور التي تسطع هنا |
وهناك، بعد هطول الأمطار.. |
* * * |
دربي إلى الوادي الحبيب.. |
سرته يوماً إلى المدينة البعيدة |
كان معي بعض الرفاق |
كلنا صبية.. أصواتنا تملأ جنبات الوادي، وكل منا يتأبط |
لفافة فيها كتاب ومع الملابس القليلة، قلم رصاص.. وورق |
وفي القرية، بعد مسيرة ساعات، ركبنا سيارة.. |
وهطلت أمطار غزيرة ونحن في الطريق |
وغاصت السيارة في الوحل |
ومضت ساعات.. |
ودخلنا المدينة البعيدة.. |
دربي إلى الوادي الحبيب.. |
أسير فيه اليوم.. |
حقيبتي فيها الكثير من الكتب.. |
فيها هدايا.. |
والشهادة الكبيرة |
شهادة النجاح |
أتأملها كلما عن لي أن أفتح حقيبتي، في دربي إلى الوادي |
الحبيب.. |
وأعيش أحلى الذكريات.. |
ذكريات الليالي الطويلة، |
ليالي الدرس والاكتشاف |
اكتشاف العالم الكبير |
الكون كله.. والحياة |
ودربي اليوم إلى الوادي الحبيب.. |
* * * |
الربيع يتغلغل في أعماقي |
أخطو فتخضر الأرض تحت قدمي |
في ظلام الليل.. |
في وحشته الباردة |
أرى العصافير تغني.. |
أوتار الشمس تعزف ألحانها |
حتى البراعم، تتفتح قبل موعدها |
وخصل الطيب.. تعطر حتى الغمام |
* * * |
فرحتي تعبر الآفاق، على وهج الشمس تترامى |
عبر نتف الغيم.. عبر الذرى الزرقاء |
في تلك الجبال.. تطل ذاهلة على زبد الموج |
ومع الصمت.. في الوادي.. وتحت ظلال شجرة التين |
أسافر.. إلى ألف جزيرة بعيدة.. |
أسافر.. وبين جفني دموع.. لست أدري لم لا تنحدر |
على وجهي.. |
* * * |
أتكلم بهمس.. وأعب من النور كعصفور |
وفي خاطري رؤيا حلوة |
خصلات شعر وحف كشلالات تتدفق من ينبوع مجهول بعيد.. |
على جبهة عالية.. عالية كالعزة والإباء في قلب فارس شهم.. |
* * * |
ومع الصمت في الغابة |
أسافر إلى ألف جزيرة.. إلى ألف جوهرة، على صدر البحر والأمواج |
وليس هناك من يعلم أنك بين جفني |
ليس من يعلم أنك سري العظيم الحبيب.. |
وليس هناك من يدري أني أبكي كلما أحدقت بي عيون الوحدة في الظلام |
وأنت.. |
أنت وراء شباك أزرق صغير |
أنت هناك.. أمل ما أحلاه.. |
ما أبعده.. |
وما أشد ما يضيء قلبي الصغير.. |
* * * |
وفي تلك الجزر.. ربما في قاع بحر مجهول |
هناك.. أراك.. يلفك ضباب.. |
ضباب إيماني، بشفافية الطهر والنقاء |
ضباب، يتقشع، ويسطع محياك البري.. حين أذكر |
تلك الأيام.. |
طفولة ما أسعدها، وما أجمل مراتعها وملاعبها |
هناك، عند الساقية.. تحت شجرة التين.. |
* * * |
كلا.. لن أحاول أن أبدد الضباب.. |
أنت خلفه.. خيال حبيب |
خيال تلك الطفلة.. التي تضحك.. تقفز.. تعيد |
على سمعي حكايا الجدة العجوز.. |
حكايا.. ما زلت أعيشها.. ما زلت.. ذلك الفارس على حصانه |
الأبيض في عباءته الحمراء |
وأنت.. ما تزالين.. في المروج الخضراء.. تنصتين إلى المؤذن |
.. ثم كالغزال تركضين.. |
إلى البيت.. ليراك أبوك حين يعود.. |
كلا.. كلا.. لن أحاول أن أبدد الضباب.. |
كم همت على وجهي في البراري والقفار |
وكم وقفت على ضفاف الأنهار، تحت ظلال الصفصاف والسنديان |
بل كم تقاذفتني الأمواج، في طريقي إلى الشواطئ البعيدة |
وعلى قمم الجبال، بين السحاب، وتحت قدمي يتشقق الجليد |
عن عشب يتطلع إلى شمس الربيع.. كم مشيت ومشيت |
كم همت على وجهي.. مع الفجر يلاحق أعقاب الليل الطويل |
وكم ودعت الشمس، وهي تنحدر وراء الآفاق الزرقاء |
وكم تنهدت وزفرت.. وتأوهت وتوجعت.. وعيناي تسبحان |
في مجالي الحسن ومرابع الجمال.. |
ولكني رأيتها.. |
تلك التي لم أرها إلا بعد طول التسيار.. على غير انتظار |
فما أتفه ما مضى من العمر، قبل أن أراها |
وما أشد فقر الألوان والظلال والصور والمرائي، بل وحتى |
الأضواء من الشفق الملتهب، كم هو باهت، ضئيل خامد |
القدرة على الإيحاء، بعد أن رأيتها.. |
وكيف أستطيع أن أصفها بكلمات تنتحر مع كل نظرة إليها.. |
إلى محياها العبقري، وما أروع ما في النظرة إليها من معاني الطهر |
والنبل والجلال.. |
إنها الحب طفلاً، يمرح في خمائل الزهر عند صفحة الغدير.. |
فرحتنا بلقائه تمنعنا من الدنو منه |
سعادتنا في أن نراه يمرح، يطفر، يرنو إلينا بتلك |
العينين، تأسرنا، تجمد حركتنا كلما لاح منها بريق البراءة |
والدلال.. |
إنها هنا.. بين عيني |
لا أستطيع أن أرى غيرها |
مهما طال بي العمر.. في طريقي إلى الشواطئ البعيدة |
تلك التي لم أرها إلا بعد طول التسيار.. على غير |
انتظار.. |
* * * |
في قريتنا.. عند سفح ذلك الجبل الذاهب في قلب السماء |
ليس أحلى ولا أجمل من ليالي الشتاء.. |
ليالي الشتاء حين يشتد زفيف الرياح، والسماء ترعد، والبرق |
يتلامح من شقوق النافذة من خشب السدر.. |
نسمع مع الرياح حكايات من زمان.. |
يقصها علينا الشيخ العجوز.. |
جالساً هناك، في الصدر، مزملاً في عباءته البيضاء |
وفي يده غليونه الطويل.. |
والنار تشتعل في أحد الأركان.. والشاي تدور به ربة الدار.. |
حكايات من زمان، عن الفتى الذي هبط مكة، مع الفجر.. وعاد |
والليل لم وحيداً، يطارد الأشباح |
رأى عيون الذئب، ويسمع عواءه من بعيد.. |
فيردد أبيات لأمرئ القيس.. |
وواد كجوف العير قفر قطعته |
به الذئب يعوي كالخليع المعيل |
فقلت له لما عوى إن شأننا |
قليل الغنى إن كنت لما تموّل |
حكايات من زمان، عن قيس وليلى.. عن عبلة وعنتر.. |
عن شهرزاد وشهريار.. |
ويغفو الأطفال، وينفض السمر، ويذهب الشيخ في عباءته البيضاء |
وفي يده غليونه الطويل.. |
ونستقبل في بيتنا.. على سفح الجبل، زفيف الرياح، وصوت |
الرعد ونرى البرق يتلامح من شقوق النافذة.. فتغفو، في |
انتظار الغيث.. في الصباح.. |
وراء أنوار المدينة ظلام.. وفي الغرفة التي يرقد فيها أخوتها |
ظلام.. وفي طريق الحياة منذ يفيق الأخوة مع الفجر |
ظلام.. |
وامتلأ وجهها بالدموع.. وبكى أصغر أخوته، وهبت الريح |
تخترق شقوق السقف من الصفيح والنافذة من الخشب المهترئ، |
وأحسست الصقيع في عظامها ينخرها يهشمها.. يسحقها.. |
* * * |
وفي الظلام مشت إلى الرضيع.. أخذته في حضنها وهي تمسح |
الدموع عن وجهها، وحين توقف عن صراخه.. رفعت وجهها |
إلى شقوق السقف من الصفيح، وعبر الدموع لم تر شيئاً |
سوى الشقوق.. ولم تسمع سوى صوتها وهي تهتف.. (يا رب).. |
* * * |
مع الليل.. |
وفي شباكها من خشب أكل الدهر عليه وشرب.. كانت ترنو إلى |
الأفق البعيد.. |
لم تكن ترى شيئاً، سوى هذه الأنوار تتلامح في المدينة |
وكأنها ضحكات ساخرة في وجه عجوز.. |
وراء الأنوار.. ظلام.. ظلام.. ابتلع حتى النجوم، وقمم |
الجبال الشاهقة التي كانت تشرئب شامخة تحت ضوء الغسق. |
ظلام هناك في الأفق البعيد.. وظلام هنا في الغرفة التي يرقد |
فيها أخوتها الصغار.. |
أخوتها الصغار هم كل ما بقي لها من أسرة غادرت الأرض واحداً |
إثر الآخر في معركة ضارية مع الجوع، والسل، والتشرد |
والضياع.. |
* * * |
أخوتها الصغار.. نيام هناك على الأسمال.. تحت سقف من |
الصفيح.. |
سيفيقون مع الفجر.. يطلبون الغذاء.. مطلب الحياة |
لأنهم ما يزالون أحياء.. |
في الصندوق، الذي ظل ينتقل معهم في رحلة الضياع |
بقية من طحين وسمن ولبن مجفف وفي صدرها حفنة من |
نقود، وجدتها تحت وسادة أبيها الذي رحل منذ أسبوع، مع |
الراحلين إلى جوف الأرض.. |
* * * |
هذه الصحراء من حولي.. |
ما أشد ما تصر على الصمت |
وعلى امتداد رمالها، ألف سر مصون.. |
يسافر فيها البصر إلى ما لانهاية |
كأنها الأبد، جاثماً يتربص بالحياة.. |
* * * |
ما أقدرها على البسمة الحلوة عندما يطل الفجر من بعيد |
يبدو لك وكأنها على موعد مع الشعاع |
فلا تكاد تباشير النور تسطع، حتى تتألق فيها حبات الرمل، |
ويهتز العشب اليابس، وتمتد له الظلال.. |
ولكن حذار.. حذار.. |
فتلك ابتسامة الأبد، جاثماً يتربص بالحياة.. |
* * * |
ما قل أن الغضون في ملامح الصحراء.. |
شباب دائم، نسيه الزمن على كر العصور.. |
وهذه الروابي التي تنهد هنا وهناك |
ما أكثر ما تخفيه من أخبار الدهر.. |
لست أدري لم أشعر أحياناً، إنها تهمس |
أصغيت طويلاً، ولم أفهم.. |
ولكنها لا تبالي.. |
لأنها الأبد، جاثماً يتربص بالحياة.. |
* * * |
وفي الظهيرة، والشمس في عنفوانها الساحق |
كل شيء يتلظى |
حتى النسمة الحنون تلتهب، |
ولكنها.. هذه الصحراء |
تظل تبتسم.. وروابيها الناعمة الملساء.. تظل تهمس.. |
لأنها الأبد.. جاثماً يتربص بالحياة.. |
* * * |
آهة من الأبعاد السحيقة.. في القلب المصفد بالأغلال.. |
أواه.. |
إني لأستيقظ مرتعداً.. |
الأمواج تهدر من حولي |
والرياح تزأر.. تعول.. ترفع صوتها حتى السماء |
وأنا في رحلة إلى الأبد |
لست أدري إلى أين.. |
لست أدري.. |
* * * |
الأمواج تتواثب حولي.. تتقاذفني إلى أين؟ |
يتمزق الشراع.. تأكله الرياح الثائرة.. |
ولكني في رحلة الأبد |
مع العاصفة التي لم تهدأ قط |
مع الآهة من الأبعاد السحيقة في القلب المصفد بالأغلال |
إلى أين؟ |
لست أدري.. |
* * * |
ولكن الأمواج تتقاذفني.. والشراع يتمزق.. تأكله الرياح الثائرة |
والعاصفة لا تهدأ أبداً.. |
والشاطئ بعيد.. لا أراه |
والآفاق يلفها الظلام |
وأنا في رحلة الأبد |
لست أدري إلى أين؟ |
* * * |
ها أنذا، مرة أخرى، فوق أمواج البحر.. والشراع المهترئ |
تمزقه ريح غضوب.. |
ومع زبد الأمواج الثائرة ألف ضحكة ساخرة.. |
وفي الزرقة العميقة، أسرار أبد طويل |
ومع الهدير المتواصل الرهيب.. |
قصة الضياع السرمدي |
أصغي إليها منذ كنت هناك.. على الشاطئ في ذات يوم بعيد.. |
على الشاطئ المجهول بدأت حكايا البحر.. |
أصغيت إليها مع القواقع النخرة والأصداف |
ما أروع ما كانت تقول، وما أعذب موسيقاها تتهادى مترامية |
على الرمال والأعشاب.. |
قالت وما أكثر ما قالت.. من أخبار وأسرار.. |
وعزفت، وما أروع ما عزفت من ألحان وأنغام.. |
وارتفقت زورقي العتيق.. والشراع من خيوط الإمساء الذهبة |
وانطلقت وراء الأخبار والأسرار.. |
وراء الألحان تعزفها قيثارة في الأعماق البعيدة.. |
وها أنذا، فوق أمواج البحر.. والشراع المهترئ من خيوط |
المساء الذاهبة تمزقه ريح غضوب.. |
ولا سبيل إلى العودة.. |
وزبد الأمواج من حولي ألف ضحكة ساخرة.. |
فسأظل، إذن، من الزورق العتيق.. |
وراء الأسرار.. مع الأنغام.. تعزفها قيثارة في الأمواج.. |
أحلام.. رنحها اليأس وطول الانتظار.. |
من دمائها، لوَّنَ قزح قوسه الرائع في يوم مطير |
ترامت هناك، على الصخور، يأكل منها الموج الصاخب في جنون.. |
ومع أنغام الليل.. ترنم بها مسحور بالحب.. |
أفاقت.. استيقظت الأحلام.. |
* * * |
هذه الجبهة العالية.. ما أروع ما تشرق به من المعاني والأفكار |
والألحان.. |
أي شعلة من ضوء، تشعها في هذا الظلام الذي يعيشه الإنسان.. |
ما أروعها، وهي لا تخبو ولا تنطفئ.. |
بل أي شجرة مباركة هذه التي تمد فروعها، فتمتد لها أشد |
الظلال حنواً وما أكثر من يستظلون بها، دون أن يلقوا إليها |
أكثر من نظرة عابرة.. |
هذه الجبهة العالية.. كم من ليال سهرتها مع الألم.. |
مع الأحزان والأتراح.. مع أنين الثكالى، وبكاء الأطفال الجياع |
مع الشعراء.. في أحلامهم وشقائهم.. |
مع العشاق.. في دنيا الحب.. |
دائماً تشرق بالمعاني والأفكار والألحان.. |
دائماً شعلة في ضوء في ظلام الحياة.. |
دائماً.. دائماً.. هذه الجبهة العالية.. جبهة الساهر على خير الإنسان.. |
* * * |
لم تعد، والباب مغلق، غامض وراء أحداث الزمان |
من يدري أين أنت، في هذه الساعة من الليل؟ |
حتى وقع الخطوات على الرصيف، لم يعد له وجود.. |
طفلنا الحبيب، يتقلب في فراشه، أحياناً يهمس، بابا |
أنت دنياه، دنياه.. ولكنك لم تعد.. والباب |
مغلق صامت رهيب.. |
* * * |
ما أكثر ما يضطرب قلبي حين تخرج في الصباح سعياً وراء |
لقمة العيش.. |
أين هي هذه اللقمة في المدينة الصاخبة بالصراع؟ |
من فك أي أسد تنتزعها يا ترى.. |
تأتينا بها حين تعود، لها طعم الدم ورائحة الحريق |
دمك هو الذي عجن به الرغيف.. وروحك هي التي أنضجته |
يا دنيانا.. يا زوجي الحبيب.. |
* * * |
هذا وقع أقدامك.. خطواتك الخفيفة المسرعة على الرصيف |
ولكن.. ما بالها تتلاشى في الصمت الرهيب.. |
عجباً كيف أخطئ السماع.. كيف تتلاشى خطواتك.. كيف |
يظل الباب مغلقاً وهذا الليل غبي لا يجيب.. |
طفلنا الحبيب يفرك عينيه بكفيه الصغيرتين.. يهمس بابا |
وأنت، من يدري أين أنت في هذه الساعة من الليل؟ |
* * * |
وقد جئت أخيراً.. لا أدري كيف رأيتك أمامي.. دنياي |
أمام عيني، تضحك لدموعي، لفرحتي باللقاء.. |
ولقمة العيش، الخبز والجبن، وحفنة من نقود |
ما ألذها لقمة يا حبيبي.. فيها طعم الدم ورائحة الحريق |
دمك هو الذي عجن به الرغيف، وروحك هي التي أنضجته، |
يا دنياي يا زوجي الحبيب.. |
في ربيع شبابي كنت أحيا كالزنبقة على ضفاف الحياة.. |
وعلى صفحة النهر، كانت تمر زوارق الصيد، تتدلى وراءها |
الشباك، |
لطالما هتف الرجال.. أين أنت من اللجة الصاخبة؟ |
هنا، القلب، ينبض بالحركة، والأعماق ملأى بالأسرار. |
ومن لا يحسن السباحة والغوص، يستطيع أن يستقر في الأعماق |
حيث الحنان يحتضن الطموح، ولكن.. في ربيع شبابي |
كنت أحيا كالزئبقة.. على ضفاف الحياة.. |
* * * |
وعلى الضفة المقابلة - ما أبعدها على الزنابق البيضاء - كانت |
حقول القمح مثقلة بالسنبل تتألق عند الغروب، نهراً آخر |
من ذهب.. |
أسراب الطير، تتلاحق هناك، وتغريدها الحلو، يترامى من بعيد.. |
لطالما قال لي عصفور شقي.. أين أنت من حبات القمح.. أين |
أنت من كنه الحياة.. |
هنا، الحقل، يموج بالرزق، وفي أحشاء الأرض ألف سر عجيب |
ومن لا يحسن التحليق، يستطيع أن يمشي.. أو حتى يزحف، |
فالحقل مليء بالديدان.. |
ولكني.. في ربيع شبابي كنت أحيا كالزئبقة، على ضفاف الحياة.. |
* * * |
ومرت الأيام.. |
كان لي زورق وشراع.. طفوت بهما على سطح النهر.. |
وفي حقول القمح، مشيت.. ورأيت الديدان تزحف |
على الأرض السمراء |
واليوم ألقى عصا التسيار |
مرة أخرى على ضفاف الحياة.. |
دودة.. دودة حقيرة تزحف، ولا ترى غير الطين.. |
وزنبقة بضة هناك تقول: أنا الربيع |
وأسمع نفسي أقول: أنا الشتاء.. |
* * * |
هدير الأمواج والصخرة على حافة الهاوية.. والليل الطويل.. |
ومجلسي هنا منذ الغروب.. |
وحيداً، كشبح شردته العاصفة |
لفظه البحر.. وتجاهلته الرمال |
حتى النجوم اختبأت وراء الغمام |
والقمر ما يزال يتسكع وراء الجبال |
كأنه يعلم أني هنا وحيد.. |
ولا شيء سوى هدير الأمواج، والصخرة على حافة الهاوية.. |
والليل الطويل |
والقلب، وحده يبكي، يرتعش كالعصفور في ليالي الشتاء.. |
يغني الذكريات البعيدة |
ذكريات الدفء الحنون |
ذكريات الفرحة الهامسة بأسرار صغيرة |
والضحكات الخافتة، مع لهفة اللقاء |
والصخرة على حافة الهاوية.. فردوس حب وآمال |
وهدير الأمواج، حكايا الدهور |
والليل، هذا الليل الطويل.. ينساه الزمن، في دنيا |
الأشواق.. |
* * * |
مجلسي هنا منذ الغروب |
في انتظار ليس وراءه لقاء |
والقلب وحده يبكي.. |
يغني الذكريات.. |
مع هدير الأمواج |
والصخرة على حافة الهاوية |
والليل.. الليل الطويل.. |
على الشاطئ.. والرمال بساط من حرير، غسلتها أشواق الموجة |
الطافرة.. |
كانا هناك.. حلماً، رسمته ألوان شفق صاخب بالذهب واللهب |
واللازورد.. |
كانا هناك.. على الشاطئ الأزرق، وعلى الرمال الدافئة |
والشمس الغاربة ترمقهما.. ترنو إليهما سعيدين كطفلين، مرحين |
كزبد الموج.. |
كانا هناك.. في ذات يوم ذهب مع الأيام.. |
ومرت أعوام وأعوام.. |
وعاد هو.. إلى الشاطئ، والرمال بساط من حرير، غسلتها |
أشواق الموجة الطافرة.. |
عاد وعلى ظهره عبء ثقيل.. أعوام العمر الذي مضى، وبين عينيه |
ذكراها وفي سمعه رنين ضحكاتها.. وهذه القواقع التي تسرع كلما |
لاحقها الموج، كم كانت تخيفها.. تضحكها.. كم كانت تهرب |
منها.. |
أين هي اليوم؟ |
ومشى يذرع الشاطئ الأزرق، وعلى ظهره عبء ثقيل.. أعوام العمر |
الذي مضى.. والذكريات.. كل ما بقي له منها.. رنين ضحكاتها |
.. والقواقع يلاحقها الموج.. والشمس الغاربة ترمقه.. ترنو إليه |
حزينة وراء الغيوم.. |
وقضيت الصيف.. وأطل الخريف.. وبقيت وحدي في الجبل.. |
وحدي في الجبل.. |
أستصلح روحي |
أطالع الفجر إذا تنفس |
وأمضي مع الشمس الغاربة |
إلى بعيد وراء الآفاق |
أسامر الغيوم.. وأسامر النجوم.. |
آنس بالأشجار الشامخة الوقور.. |
يرفرف حولها الفراش |
مثنى.. مثنى |
وتتناغى العصافير.. في طمأنينة الواثق أن لا صياد |
والصرصار الثرثار.. يملأ الفضاء بنشيده المكرر الرتيب |
وحدي.. وحدي |
في فراغ سحيق عميق |
خصب بالجمال.. والجلال.. والخيال.. |
وحدي.. أجل وحدي |
ولكن مع الله.. |