المقدمة |
|
عندما استقرتْ فوق مكتبي هذه الأجزاء الأربعة من أعمال أديبنا الكبير الأستاذ عزيز ضياء التي لم تُنشر من قبل.. تمهيداً لكتابة ((مقدمة)) لها أو عنها.. أخذت أطيل النظر إليها، وأتأمل عناوينها، وأقلب صفحاتها التي نافت عن ألف وثمانمائة صفحة، تماماً كعدد صفحات الأعمال الكاملة للشاعر الشيلي المحبوب والممقوت من قبل اليمين: ((بابلونيرودا)) الذي حاول الأستاذ عزيز في بروكسل أن يترجم له قصيدته الشهيرة ((أغنية اليأس))، والذي استضافته ((لندن)) حين أقامت مهرجاناً لـ ((الشعر)) ليقرأ فيه بعض من قصائده ثم منحته ((جامعة أكسفورد)) درجة الدكتوراه الفخرية لتقوم إحدى دور النشر البريطانية بطباعة أعماله الكاملة التي تتشابه ((حجماً)) وتختلف ((نوعاً)) عن أعمال أديبنا.. الذي كان يسميه مجايلوه بـ ((الأب عزيز)) وكنت أسميّه بـ ((اللورد عزيز ضياء))، فهو ((الأب)) بـ ((تسامحه)) و ((عاطفته الكونية)) المتوازية و ((نظرته الإنسانية)) الشاملة.. وهو ((اللورد)) بـ ((غليونه)) وبدلته الداكنة الكاملة - في السفر - و ((إنجليزيته)) التي تفرد بها بين من سبقوه وجايلوه وجاءوا بعده من روّاد نهضة الأدب والفكر والكلمة الشاعرة والمنثورة في بلادنا.. والتي جعلت منه في نهاية رحلته مع الحياة واحداً من أكبر أدباء العربية الذين اشتغلوا بـ ((الترجمة)) على مستوى الوطن العربي كله.. دون أدنى مجاملة، فقد ترجم ما يقارب الثلاثين عملاً أدبياً لكبار كتّاب العالم وأساطينه وأكثرهم بريقاً ولمعاناً: من ((رابندرانات طاغور)) إلى ((موليير)) و ((ديستوفسكي)).. ومن ((ليو تولستوي)) إلى ((شو)) و ((موم)).. ومن ((أوسكار وايلد)) إلى ((اونسكو)) و ((ارويل)) و ((جينيت)). |
أخذتني إطالة النظر في تلك المجلدت بعيداً.. بعيداً، إلى حالة بين اليقظة والمنام.. بين الواقع والحلم، وهي ترجع بي إلى الوراء.. إلى ذلك اليوم الذي دعاني فيه لزيارته على عجل قبيل عامين أو ثلاثة أعوام من وفاته.. فدلفت إلى مكتبه بالدور الأرضي من منزله، وقد كان في استقبالي سائقه وسكرتيره الشخصي أو مساعده ((العم إدريس)).. فلم يفت كلبيه في الحديقة أن يطلقا بعض صرخاتهما المرحبة فهما يعرفانني بقدر ما أعرفهما.. لأجد ((الأستاذ)) جالساً إلى مكتبه على الصورة التي يحبها لنفسه وأحبها له: شَعْرُهُ الرمادي مصفف في تمامه.. و ((غليونه)) مشتعل بين شفتيه.. وعصافيره الصفراء تُحْدِثُ أصواتاً بتنقلها من جهة لأخرى في قفصها.. وأمامه بقية من كأس بها شيء من ((السفن)).. الذي يفضله، والذي يغافل زوجته (السيدة الكريمة: ماما أسما) بـ ((التآمر)) مع ((العم إدريس)) لإحضاره إليه دون علمها، فقد كان ممنوعاً من الإكثار من شرب السوائل حتى لا يزداد انتفاخ بطنه مما يضطره إلى عملية ((بزل مرهقة في المستشفى)).. |
سألته متلهفاً: بعد أن استقررتُ
(1)
في مواجهته: خيراً.. ما الخبر..؟ |
قال وهو ينفث دخان ((غليونه)).. ويشير إلى بضعة أظرف صفراء منتفخة وقد رُصّت بعناية على الطرف الأيسر من مكتبه: هذا ((الحصاد)) الذي تجمع لديَّ عبر مشواري الأدبي الطويل (كان ساعتذاك.. قد شارف على الثمانين أو اقترب منها). لقد فرغت إليه أخيراً.. فقمت بـ ((إعداده)) و ((تبويبه)) بعد أن استبعدت ما لم يعد صالحاً منه، ليكون جاهزاً للنشر في مجموعة من الكتب.. بـ ((عناوين)) أرجو أن أكون قد وفقت في اختيارها: ((مع الفكر والمجتمع))، ((حصاد الأيام))، ((بنات شفاه من التراث))، ((بنات شفاه من هنا وهناك))، ((نثار))، ((طرائف الأخبار))، ((آراء في الفن والحب والجمال))، ((كان القلب يقول)).. إلى جانب قصة ((عناقيد الحقد)) التي تعرفها والتي رأيتَ عدم استكمال نشر بقية حلقاتها في ((إقرأ)) (على أيامك.. فيها) بعد أن علمت أن أحد قرائها (وكان كاتباً كبيراً ذا طبع حاد وسلوك أكثر حدة) يتهيأ لرفع قضية تعويض - أدبي ومادي - عليَّ وعليك بحجة أن القصة تتناول جانباً من حياته بصورة تنال من اسمه ومكانته، فكان أن توقفت عن كتابة بقيتها.. فظلت قصة ناقصة.. قصة لم تكتمل. |
ثم رفع الأستاذ عزيز عينيْه عن تلك الأظرف التي أخذت تضطرب فوق سطح المكتب بغير نظام بعد استعراض محتوياتها، وأخذ نفساً من ((غليونه)) مع استداراته إلى الجانب الأيمن قائلاً: أما هذه الظروف الأخرى التي تراها فوق بعضها البعض.. فهي عشرة، وهي لأعمال أدبية.. قمت بترجمتها خلال تلك السنين الماضيات.. ولم تنشر بعد (كان قسم النشر والمكتبات في تهامة.. قد احتفى بـ ((الأستاذ)) وأعماله ((أديباً)) و ((مترجماً)).. فنشر له - قبل توقفه - ستة أعمال من ترجمته، كان أولها ((عهد الصبا في البادية)) لإسحاق الدقس، وكان آخرها ((العالم عام 1984م)) لجورج أورويل). فماذا أفعل بكل هذا ((الحصاد))؟ وما ((العمل)) فيه؟. |
قلت وقد هالتني كثرة هذا الحصاد ((أدباً)) و ((ترجمة)): لقد كان يصح أن تفرغ لهذا الحصاد و ((تبويبه)) مبكراً.. ليطبع تباعاً حتى لا يتكدس على هذا النحو الذي أراه، أما طباعته الآن دفعة واحدة.. حتى ولو وُجد الناشر الشجاع الذي يقوم بطباعة هذا الكم الهائل.. فإن ((جماجم)) القراء كـ ((أمعائهم)) لا تحتمل كل هذا الفكر.. كل هذا الأدب.. كل هذا الطعام..!! |
سحب ((الأستاذ)) نَفَساً عميقاً من ((غليونه)) ليبدد به سحابة اكتئاب لاحت في أفقه.. وهو يقول: ربما غداً؟. |
قلت مخففاً عنه ومبتهجاً لنسمة الأمل التي أقبلت عليه: أكيد يا أستاذ.. سيطبع هذا ((الحصاد)) ذات يوم، وسيجد قارئه.. فما به ليس صريراً ولا عواءً، ولكنه رؤى عقل.. ونبض فكر.. وعاطفة فنان، ولم أشأ.. وقد أخذت ألملم أطرافي لوداعه أن أثقل عليه بـ ((إكمال
)) قصة ((العناقيد)) الناقصة، فقد كان يتصابر على بعض متاعبه الصحية التي بدأت تتزايد.. وهو يجاهد في استكمال كتابة الجزء ((الثالث)) والأخير من قصة حياته: ((حياتي مع الجوع والحب والحرب)). |
* * * |
بعد سويعة أو ما حولها كأني أفقت من غيبوبة السفر مع الأحلام أو الذكريات.. وأخذت أسترد حواسي، فاتحاً عينيّ.. فلم أر ((الأستاذ)) وغليونه وأظرفه الصفراء التي اضطربت فوق مكتبه بعد استعراضها.. ولم أر سائقه وعصافيره وكلبيه اللذين ودعاني بمثل ما استقبلاني.. ولكنني رأيت الأجزاء الأربعة التي تنتظر مقدمتي عنها أو تقديمي لها. إنها هي.. التي تحتوي ذلك ((الحصاد)) الذي أقلق الأستاذ عزيز مصيره، وما يمكن أن يؤول إليه بعد أن فرغ من ((تبويبه)) وإعداده.. فـ ((استزارني)) للتشاور فيما يجب فعله؟.. |
ابتسمت لهذه الخواطر التي ومضت كلمح البرق في مخيلتي، وأنا أقول: رحمك الله يا أستاذنا.. فلم يطل الانتظار بـ ((حصاد)) أيامك طويلاً؟! فها هي قد جاءت ساعته.. وسيطبع بعد أيام.. وسيكون بعد أسابيع قليلة في قلب هذه الاحتفالية بـ ((مكة المكرمة)) عاصمة للثقافة الإسلامية (لعام 1426هـ 2005م) التي لم تكن تخطر لك على بال.. وها هو ناشرها: صديقك، وابن صديقك.. الشيخ عبد المقصود بن محمد سعيد عبد المقصود خوجه.. يعبر عن حبه لـ ((مكة المكرمة)) و ((لك)) بـ ((نشرها)) على نفقته. ليتك معنا.. لترى هذه الأجزاء الأربعة وهي تضم ثمانية من أعمالك.. من ذلك ((الحصاد)) الذي كان يقلقك أمره، وهو يأخذ طريقه إلى النشر.. ليظهر إلى الناس.. إلى القراء.. في أحلى صورة كنت ترجوها له..!؟ |
مددت يدي إلى ((الجزء الأول)) فوجدت أنه يضم خمسة كتب لـ ((خمسة)) أعمال من تأليفه.. هي: ((قمة عرفت ولم تكتشف))، و ((عناقيد الحقد))، ومسرحية ((الأغلال))، و ((وقفات مع الفن والجمال والحب))، و ((كان القلب يقول))… ولأنني كنت - فيما سبق - قد قرأت معظمها.. وعايشت نشر بعضها خطوة بخطوة، كما هي الحال في قصة ((عناقيد الحقد)) التي لم تكتمل كتابتها.. وتوقفت بـ ((القارئ)) كما توقفت بـ ((المؤلف)) عند انتقال بطلها ((أبو دحماني)): الطالب المبتعث إلى مصر - الذي كان يسر ((فساده)) ويجهر بـ ((تقواه)) عبر سلوك ذي وجهين مخادعين - من سجن ((الكركون)) إلى سجن ((الفرن)).. وهما سجنان من سجون مكة المكرمة في الثلاثينات من القرن الميلادي الماضي.. بـ ((تهمة)) أنه كتب شيئاً في الصحف المصرية أو أنه وشى ببعض من زملائه مما أغضب عليه بعض ذوي الشأن.. فجيء به من مصر، واقتيد على الفور إلى ((السجنين)) تباعاً، وبصرف النظر عن ((التهمة)) وطبيعتها والتي لم نتعرف عليها يقيناً من ((قصة)) لم تكتمل كتابتها.. فإن الحلقات الثلاث عشرة التي نُشرت منها، والتي يضمها الجزء الأول من الأعمال الكاملة.. يقدم لنا لمحة عريضة مشبعة عن مكة المكرمة وحياتها وأحيائها في تلك المرحلة الزمنية الغابرة.. كنا أحوج ما نكون للتعرف على بقية تفاصيلها، التي ربما كانت ستجعل من هذه القصة.. واحدة من أجمل أعمال أديبنا أو ((اللؤلؤة)) في عقد أعماله. |
أقول.. لأني قرأت معظم ما تضمنه هذا الجزء الأول من أعماله الكاملة.. فقد وضعته جانباً. وأخذت أستعرض عناوين ومحتويات بقية الأجزاء الثلاثة.. الأخرى فكان الجزء الثاني.. عن ((حصاد الأيام))، وكان الثالث عن ((الحياة ومنها))، وكان الرابع عن ((الفكر والمجتمع.. لأتوقف بقراءتي وطويلاً عند ((حصاد الأيام))، الذي يمثل بـ ((فصوله)) و ((وقفاته)) الكثيرة المتنوعة.. جانباً من رحلة ماتعة إلى عقل وقلب وفكر الأستاذ عزيز ضياء.. وإلى رؤاه وأحلامه ولقاءاته، ومشاهداته واختلافاته وشراسته مع ((ما)) و ((من)) كره، ووداعته مع ((ما)) و ((من)) أحب.. لا تتكامل إلا بمتابعتها في الجزأين ((الثالث)) و ((الرابع)) من هذه الأعمال الكاملة. |
ورغم أن ((حصاد الأيام)).. كان عنواناً - إن لم تخني الذاكرة - لصفحة ((اليوميات)) أو ((الرأي)) في جريدة ((الرياض)) الغراء، كتب تحته الأستاذ عزيز كما كتب آخرون غيره.. إلا أنه كان بينه وبين ((حصاد العمر)) ونتاج السنين الذي يقلقه ولا يدري ما يفعل به - كما أسلفت - أكثر من قاسم مشترك.. ولذلك فقد كان أمراً طبيعياً أن لا ينساه أو يسقطه من ذاكرته في استهلاله الطويل والجميل لهذا الجزء والذي جاء بعنوان: ((بسم الله الرحمن الرحيم)).. ولكن بصورة ساخرة رائعة هذه المرة.. عندما قال: ((بدا لي أن أتقدم بسؤال إلى مدير صوامع الغلال.. عن الطريقة التي يعالجون بها ما يزيد من الإنتاج عن طاقة هذه الصوامع؟ أتراهم يشرعون في بناء صوامع جديدة؟.. أم أن لهم طريقة في التخلص من المخزون القديم))..! ثم يتساءل بأعلى درجات السخرية: ((أتراهم يحرقونه.. أم يقدمونه علفاً للماشية..))؟.. |
ويبدو أنَّ المصادفة وحدها.. قد رحمت ((مدير الصوامع)) من سماع ذلك السؤال الملغوم.. ومن التورط في الإجابة عليه بـ ((البراءة)) المفترضة في مدير للصوامع.. يُسأل عن ((غلال)) وهو لا يدري أنها ليست قمحاً أو ذرة أو شعيراً..؟! |
على أية حال، يبدو أن مشكلة ((الحصاد)) لم تكن مشكلة الأستاذ عزيز وحده.. بل هي مشكلة رصفائه كما قال في موضع آخر من استهلاله: ((رصفائي من الشيوخ عاشوا يحصدون الكثير، وفي أذهانهم أو هي جماجمهم (صوامع غلال)، تكدست فيها أصناف مما حصدوا طول العمر.. وهم يعيشون مشكلة شديدة التعقيد، وهي أنهم لا يكفون عن الحصاد، ولا يشبعون من التخزين في الصوامع)).. |
ولكن.. وكما فعلت في استشارتي التي قدمتها للأستاذ عزيز.. أقترح أحدهم وكما قال في موضع ثالث من استهلاله: ((أن نفرغ الصوامع، وأن نتخلص من المخزون.. ولا خلاص إلا بكتابته، وطرحه كتباً، لا تعدم من يتورط في قراءتها، إن لم يكن اليوم ففي مقبل الأيام)).. |
وقبل أن أطوي هذا الجزء من الأعمال الكاملة.. لا بد وأن أشير إلى حديث الأستاذ عزيز في استهلاله الطويل - والذي لا أتعب من ترديد القول عنه بأنه جميل بحق - عن الشاعر والمسرحي المصري المظلوم ((نجيب سرور)) وديوانه ((لزوم ما يلزم)).. الذي تقول إحدى قصائده (العودة): |
((المرفأ المنشود لاح |
أفرغ شراعك يا غريب، من الرياح |
لملمه.. كم ودَّ الشراع لو استراح |
لو استراح |
ودع طيور البحر: صعب يا رفاق.. صعب على القلب الفراق |
ودع طيور البحر.. كم راحت إلى الأفق البعيد |
تشتمّ ريح اليابسة |
لتعود لاهثة.. ترفرف يائسة |
لا شيء بعد الأفق، يا ملاحُ، غير الأفق.. كلُ الكون بحر.. |
وتنام مجهدة على الصاري - طيور البحر - إن هجم المساء |
وتظل أنت بلا رجاء |
ومتى فقدت برحلة الهول الرجاء؟)).. |
|
.. بل وعن مسرحيته ((قولوا لعين لشمس)) التي لم أكن أعرف عنها شيئاً.. ودون أن ينسى ذكر أنها اسم لأغنية شائعة للفنانة ((شادية))، وأن للأغنية قصة: ((فقد حكوا أن شاعراً مجهولاً كتب أبيات قصيدة باللغة الدارجة، لحنها ملحن في التو واللحظة، يرثيان بها الشاب الذي قَتَل (السردار الإنجليزي) وقد حُكم عليه بالإعدام.. وتقرر تنفيذ الحكم في صبيحة يوم من الأيام، وتقول الحكاية.. إن الجماهير في مصر نساء ورجالاً وصبية أصبحوا يغنون هذه الأغنية. فكأن الشعب المصري كله عاش أحزانه على رحيل ذلك الشاب الذي نفذ فيه الاستعمار الإنجليزي.. حكم الإعدام..!! |
وأجدني أتوقف بعد هذا في ((الجزء الثالث)) من أعماله، والذي حمل عنوان ((مع الحياة ومنها)).. وقد تضمن - فيما أعتقد - آخر كتاباته الصحفية.. عند حديثه عن شاعر أفريقيا وأحزانها الأستاذ محمد الفيتوري وحياته و ((شعلة الثورة في شعره)) التي قال إنه ((كان وقودها من هناك.. من العُش، ولهب النار أمامها، وحولها الصبية والرجال والنساء يواصلون رقصاتهم على قرع الطبول بينما تغمر الساحة رائحة شواء الوعل، ومعها رائحة عرق الراقصين)).. وهو يسترجع قصيدته الرائعة التي كتبها ذات يوم و ((الحجاج)) يصعدون إلى عرفات بعنوان: ((يوميات حاج إلى بيت الله الحرام)).. متغنياً ببعض أبياتها: |
((يا سيدي منذ ردمنا البحر بالسدود |
وانتصبت ما بيننا وبينك الحدود |
متنا وداست فوقنا ((ماشية)) اليهود |
* * * |
يا سيدي، تعلم أن كان لنا مجدٌ وضيعناه |
بنيته أنت.. وهدمناه. |
واليوم ها نحن |
أجل يا سيدي.. نرفُل في سقطتنا العظيمة |
كأننا شواهد قديمة |
تعيش عمرها لكي تؤرخ الهزيمة |
* * * |
لا جمر في عظامنا.. ولا رماد |
لا ثلج.. لا سواد |
لا الكفر كله ولا العبادة |
الضعف والذل عادة))
|
|
وأخيراً.. وجدتني أمام ((الجزء الرابع)) والأخير من هذه الأعمال الكاملة، وهو الأضخم في تعداد صفحاته التي نافت عن سبعمائة صفحة.. وهو الأشمل في تناوله وتعدد وتنوع موضوعاته: فهو سياسي بقدر ما هو ثقافي.. وهو اجتماعي بقدر ما هو ثقافي.. وهو تاريخي قديم بقدر ما هو آني حديث.. وهو عام في طروحاته بقدر ما هو خاص في بعضها بتلك التفاصيل والجزئيات من المعلومات التي إن غُيبت عن القارئ فقد لا يستشعر فقدها، ولكنها إذا جاءت في موقعها من الموضوع - أو العمل - وأياً كان نوعه.. فإن فهمه يتكامل ويتجسد وتقرأ فيه تلك السطور التي تحاشى الكاتب أن يكتبها خشية وحذراً، وقد اختار أستاذنا لهذا الجزء عنواناً هو ((مقالات منوّعة في الفكر والمجتمع)).. ليكون ترجمة دقيقة لمحتواه.. وتأكيداً لفهمه لـ ((الحياة)) وطبيعتها الذي عبر عنه في ((حصاد الأيام)) عندما قال: ((إني واحد من الذين يشعرون أن الحياة من حولي فيها الكثير الذي يجب على الكاتب أن لا يغفله أو يتناساه أو يتجاهله.. على حساب الأدب)).. وهو ما اتفق معه فيه، فـ ((الحياة)) ليست ((رواية)) أو ((قصة)) نقرؤها.. وليست قصيدة ننشدها.. وليست ((أغنية)) نترنم بها في ساعات الفرح والأسى.. وليست ((لوحة)) نبحر معها إلى فضائها وشطآنها، ولكنها إلى جانب ذلك، هي في البدء: صراع القوة.. ونضال البشر من أجل حياة حرة كريمة.. وكفاح الإنسانية من أجل العدل والمساواة. |
لقد شدني من بين الكثير الذي شدني في هذا الجزء مقاله الجميل عن ((ونستون تشرشل.. والأشجار التي لا تشكو))، فقد كان ((تشرشل)).. يشغل أوقاته كلما طوّحت به عواصف السياسة بعيداً عن العمل بـ ((الرسم))، وهو الأمر الذي أخذ يفعله في سنوات تقاعده، وبصورة منتظمة، ولكنه وكما يقول الأستاذ عزيز ((كان يرسم الأشجار والمناظر الطبيعية))، ولا يحاول أبداً أن يرسم (البورتريه).. أو وجه الإنسان. وعندما سئل: لماذا؟ كان جوابه اللاذع وعلى الفور (لأن الشجرة لا تشكو من أني لم أتقن رسمها)))، ثم يقول: ((وقياساً على منطق ونستون تشرشل مع أشجاره، فإن إنسان العالم الثالث لو وجد الجرأة ليسأل أحد قادته: (لماذا يفضل دائماً أن يتصرف على هواه في مقدرات شعبه؟). فإن أفضل رد يمكن أن يتلقاه السائل الجريء هو (لأن هذا الشعب لا يشكو من أني تصرفت في مقدراته على هواي وكما أريد). |
((أشجار ونستون تشرشل، وشعوب العالم الثالث يجتمعان في خصيصة.. الصمت، مع فارق هام وحاسم، هو أن الأشجار محكومة بالصمت. لا تملك أن تناقش أو تعترض أو ترفض الأخطاء التي تنزلق إليها ريشة الرسام.. بينما إنسان العالم الثالث محكوم بالقدرة التي تستطيع أن تخرسه في ظلام الزنزانات وتحت أثقال الأصفاد والقيود))..؟! |
إن هذه الأجزاء الثلاثة التي نُشر بعضها متناثراً في الصحافة المحلية.. وبقي معظمها حبيس الأرفف والأدراج أو تلك الأظرف الصفراء التي رأيتها.. تمثل بمجموعها مزيجاً ثقافياً فريداً.. إن لم يكن نادراً، يجمع: بين الأحداث والذكريات والمواقف التي عاشها.. وبين الأحاديث التي كتبها عن العشرات من الشخصيات المؤثرة والفاعلة والأسماء التي لمعت سياسياً وثقافياً على المستويين الداخلي والخارجي.. اتفاقاً أو اختلافاً معها. مدحاً أو قدحاً لها.. لتقدم في النهاية: ((بانوراما)).. مكانية وزمانية وحدثية نابضة.. لا يستغني عنها حتى عارفوها، أما أولئك الذين لا يجدون الوقت - أو يتعلّلون بعدم وجوده - لـ ((الغوص)) بحثاً عن المعرفة في مصادرها المختلفة.. فأحسب أنهم سيكونون أشد شوقاً إليها. |
* * * |
ولكن.. هل قال الأستاذ عزيز في هذه الألف والثمانمائة صفحة من أعماله الكاملة التي لم تنشر.. وفي قصة حياته مع الجوع والحب والحرب التي تشكل الجزء الخامس منها.. وفي أعماله وترجماته التي سبق وأن صدرت له منفردة والتي تزيد عن عشرين عملاً.. كل ما يريد أن يقوله؟.. |
إن الإجابة والتي لم أجتهد في استنباطها أو البحث عنها.. بل جاءتني تسعى على قدميها وبصريح الألفاظ والعبارات هي أن: ((لا)).. فها هو أستاذنا - وفي أكثر من موضع من ((حصاد الأيام)) - يقول: ((إني لا آمل أن أكرر أن كل ما ينزفه هذا القلم ليس هو الذي أريد أن أقوله فعلاً، أو هو الذي ينبغي أن يقال.. وذلك لا يعني أقل من أني عجزت عن أن أكون صادقاً مع نفسي. وصدق الكاتب مع نفسه بطولة.. حلمنا بها.. ولكن لم يبق في العمر أو في الأحلام ما يتسع لتحقيقها))!!.. |
ليمُتْ، ويَمُتْ معه ذلك الذي لم يجرؤ على قوله طوال سني حياته.. تماماً، كمَا مات من قبل ((الزيدان)) و ((التوفيق)) و ((الجاسر)) و ((بالخير))، ومات معهم ما لم يقولوه.. على التفاوت فيما بينهم وبينه جرأة وشجاعة وإقداماً. |
* * * |
وبعد.. فلم أكن في هذه المقدمة ((وسيطاً)) بين هذه الأعمال و ((قارئها))، ولا ((قارع أجراس)) أو ((سمساراً يروج السلعة بالباطل)) كما قال صديقه وعزيزه المفتون به شاعر الشعراء ((حمزة شحاته)) وهو يكتب مقدمته الرائعة لـ ((شعراء الحجاز)).. ولكنني كنت فيها ((القارئ)) قبل ((الكاتب))، و ((التلميذ)) قبل ((المعلم)).. المعجب بأستاذية الأستاذ عزيز ضياء وكفاحه وطموحه وقلقه وملله ووفرة إنتاجه المتميز بتلك المعمارية الفريدة في أسلوبها.. والتي جمع فيها بين دقة السياسي وروح الأديب وإلهام الفنان. |
ربما صح القول بأنها ليست ((مقدمة)).. ولكنها دمعة على فقده. |
|
|
|