على ملعب الحوادث
(1)
|
- 1 - |
على شفير ذلك المزدان بصفحات الرمال، ونواتئ التلال، وقفت وفي يدي ((عصا وسبحة))، وعلى رأسي ((عمامة وجبة)). |
هي كل ما اخترته من ميراث أبي وأمي. وخالي وعمي. |
تلفت يمنة ويسرة، فلم أر إلا ظلال أرواح مختلفة وآثار أقدام حيوانات شتى. |
والجدول ينساب بمائه الرقراق يشير إلى جلال السعي والأعمال وعظمة شأن التسيار لنوال المرام! والنسيم يتلاعب بمختلف الأغصان يرمز إلى تقلب الأيام ورواغ الأزمان! |
على مد البصر وعند خط الأفق المستدير. بين زرقة السماء واكفهرار وجه الغبراء. رأيت شبحاً لم أتبينه، وأسودة يخفيها السراب ويبديها. |
فحدثتني النفس باكتشاف ما لمحه البصر. هي ساعة التردد بين الإقدام والإحجام. ما لبثت أن زالت وإن هو إلا قلبي الجسور المقحام يدفعني إلى الأمام. |
وصلت المنتهى فرأيت شيخاً عربياً كهلاً وضيء المحيا مهيب الطلعة وقبالته فتاة كطلعة الشمس نوراً وبهاء وخمائل الربيع نضرة وجمالاً. تنظر إلى ذلك الشيخ باكية مرتاعة ناحبة ملتاعة. وفي يدها ((مصباح الهدى)) وعلى رأسها ((الكتاب المشرف)). |
وهو محملق بعينيه فيها. لا يشك رائيه في أن نظرته نظرة غضب مشوبة بأسف يخامره أمل عتيد. |
بين بكاء الفتاة ونحيبها، سمعت كلمات متهدجة تخاطب بها شيخها الوقور، مؤداها: |
يا أبتاه هرمت فهرمت جيوش نصرتي، ووهت قوى أبطالي ورجالي. تهدم عزمك فتهدمت هياكل تقديسي، وانقضت معابد آثاري وانهارت مساجد تتلى فيها أبلغ الآيات. |
يا أبتاه! تقضي عهد حياتك فانقضى به ربيع حياتي، ودفنت أثره حسناتي، وغمط فضلي، وضاع أملي. وعدت كاليتيم في مأدبة لئيم. |
يا أبتاه! كنت في كفالتك ناعمة البال، رخية العيش، هنيئة قريرة. تقسو عليّ لأزدجر، وتنهرني لأنتهر، وتبسم لي عند الرضا. فتملأ جوانحي سروراً، وتفعم قلبي أملاً نضيراً. |
يا أبتاه! كنتُ - حينما تندفع بجسدي قوى العضلات، وتجري بسوق كأنها قطع الفولاذ. نحو العمل المبرور، والسعي المشكور. نحو رضى الرب، وإشادة صروح الديانة الحنيفية، ومعاهد المدنية الحقيقية - أطير جذلاً، ويتهلل وجهي بشراً، وأعلم أن الإله سوف يجزيك خيراً. |
يا أبتاه! رددت عني في غضارة حياتك، وعنفوان شبابك كيد الخائنين، وقمعت أيدي العابثين ونابذت خصومي، وقهرت أعدائي. وما هي إلا جولة جللت ناصيتك بخيوط الكفن، ورمت عزمك بالوهن وأصبحت والدهر على طرفي نقيض، وشاءت الأقدار بأن تغيب عني، وتنسل مني، وتلحد في جوفي، فما فتحت عيني في صباحي إلا تبدلت الوجوه علي، وعدت وليس لي من حقي شيء. |
يا أبتاه! انعزلت في هذه الناحية النائية، وقبعت في كسر دارك الأخيرة المنزوية، وبقيت وحيداً بين من تركتني بينهم، فازورّ جانبهم عني رويداً رويداً، وعدل الكلل عن سبيل إصلاحي، وتنكبوا جادة شرائعي وحصبوني وشتموني، وألحقوا بذاتي كل نقص وشين. وأنا أنا مقر ((مصباح الهدى)) وقلبي مثوى ((الكتاب المشرف))! أنا ((الحجاز))! |
وهنا حدقت الفتاة ببصرها إلى الأفق حيث الشمس منحدرة إلى ((الغرب)) تريد توديعها، وقد رسمت على قمم الجبال طرائق ذهبية، ومدت على الأرض أسلاكاً فضية، وصاحت بصوت أجش جهوري: |
((أين رجالي.. وأين أبطالي))؟! |
فنهض الشيخ بعزم الشاب الملبي. وما عزم ذلك الشيخ إلا مآثره ومفاخره التي لا تزال على رغم الحدثان. دائمة الريعان. |
فأطرقت إطراق التقدير والتبجيل ونادت بصوت يمازجه الحنان: ((سلام عليكم أيها الشهداء الأبرار، سلام على عهدكم الزاهر عهد المجد والملك الغابر)). |
ثم وجمت برهة، وألوت بوجهها نحو الوادي الفسيح، وكأني أراه امتلأ أشباحاً وأشخاصاً بعد أن كان خاوياً لا جن ولا إنس. وصرخت قائلة وملؤها الغيظ والحماسة: وعليكم الخزي والعار أيها الأخلاف الأشرار! |
- 2 - |
كلمة في اللغة العربية |
اللغة العربية هي إحدى اللغات الساميّة السامية الفسيحة المجال التي لا تضيق على الكاتب أو الشاعر في أداء مكنونات ضميره، ولا تتعصى في وصف كل ما يراه وما يحسه من مشاهدة الحياة. |
اللغة العربية هي لغة قوم نشأوا على الحرية، وطبعوا على الشهامة وجبلوا على مناغاة الطبيعة في كل أدوارها. |
إذ إنهم تربوا في سهولهم الواسعة، وصحاريهم الشاسعة، ووديانهم المخصبة الحصينة، وجبالهم المجدبة المنيعة، وما أقلته تلك البقع من المناظر الحسنة والمشاهد الرائعة. زروع وأثمار، وطيور وأشجار، ونجوم وأقمار، وعيون وأنهار، وسواق وآبار، ووحوش وآرام، ووهاد وآكام. وغيرها من الصور التي تغرس في نفس المرء حب الجمال، وتنشئه على عدم الخنوع للقيود والغلال. ترتادها نفوسهم وتتلهى بها أبصارهم، وتشخصها أفكارهم. مغتبطين بعيشتهم الهادئة، وحريتهم الغالية. ينافسون من جاورهم ويفاخرون من حواليهم من الأمم الحية ذوات الصروح والقصور، وهم في ثنايا الأكواخ والخدور. |
كذلك كان العرب وعلى صفاتهم وضعت لغاتهم فهي تأبى الانحطاط وتناوئ الأوغاد، ولا تنقاد لمن يريد بها الفساد، وتنادي رجالها إلى شد أزرها، والأخذ بيدها إلى مستوى العُلا والسؤدد. |
نشأ العرب أحراراً في جزيرتهم يأبون الانقياد لمن يريد استعبادهم فتراهم يحمون حماهم، ويصدون العادي عليهم بما استطاعوا من جهد وما أوتوا من قوة ومن ذلك نشأت الحماسة وغرست في قلوبهم الشهامة. فتغنوا بالشعر الحماسي يتأجج ناراً، ويستعر استعاراً. |
وإذا خلوا من الغزوات، واستراحوا من درء الغارات، رجعوا إلى نفوسهم وهواها، واستعادوا ما طبع فيها من الحب الطاهر والعشق الصادق. فاستنزلوا وحي إلهامهم، وأفكارهم، وجرى لسانهم بالشعر الغرامي يقطر عذوبة ورقة. وتسيل جمله انسجاماً وظرفاً. |
وإذا ما اجتمع الحبيبان أظهر كل شجوه. وأبدى التيه. وجعلا يساجلان الطبيعة. ويناجيان الكون المعمور. فينطقون بالشعر الوصفي والقصصي الغرامي تنطق كلماته بما يوقظ المشاعر ويهز القلب. وتعرب آياته عن إجادة في الفن وبراعة هي جبلة وغريزة لا تكلف فيها ولا إعنات. |
وإن ما شادوه من الملك وأقاموه من المدنية الفطرية، وما تحلت به سجاياهم وأنفسهم من الشرف والمحامد والمكارم أقوى داعٍ إلى قولهم الشعر الفخري والتاريخي سائغاً بديعاً يحمل السامع على الإقرار بالفضل لهم ولا يسعه إلا الإعجاب بمقدرتهم والاندهاش أمام عظمتهم وتفوقهم وهم سكان أرض موصوفة بالجدب والقحول. |
فالعرب أمة متمرنة على الحياة بشقيها حلوها ومرها. وكذلك كانت لغتهم. فهي تتمشى مع الحياة ولن تتأخر إلا إذا تقاعس رحالها، وتلكأ أدباؤها وأبناؤها. وقد تخرص من قال إنها لغة أمة سلفت بمدنيتها وحضارتها. فلا تصلح لعصر عمه النور، وتقدم فيه العقل، وارتقى فيه البشر. |
اللغة العربية لغة تسير مع المتقدمين وتكره المتباطئين اللغة العربية لغة تريد رجالاً قادرين مبتدعين، وتبغض المقلدين الجامدين. اللغة العربية لغة تود النور وتتجافى عن الظلمة. فمن هضمها وظلمها حقها، فهو جاهل بها. ولم يدرك سرها وحقيقة أمرها. |
في عهد امرئ القيس وأضرابه كانت المشار إليها بالبنان، وفي عصر حسان ولبيد والفرزدق وأندادهم كانت مضرب الأمثال، وفي زمن بشار وأبي نواس وأشباههما كانت المرموقة بالأعيان. وفي أيام المتنبي وأبي العلاء وابن هانئ وابن حمديس ومن على شاكلتهم كانت الفذة التي تشد لها الرحال. وتقصد من أقاصي البلدان. |
عشرة قرون متواليات هي الشمس نوراً، والبرق مسيراً، شامخة ثابتة بقوة حامليها وإباء أهاليها. تزدري ما يعاصرها من لغة مختلفة، وألسنة متفرقة. لم تقف في وجه تمدن، ولم تعارض حضارة. ثم في هذه القرون الأخيرة نسمها بالجمود والافتقار؟! وتتذمر من قيودها التي لم يغال فيها إلا نحن ألاف التقليد وتبَّاع من سلف. |
أفكانت اللغة العربية فيما مضى غيرها الآن؟! أم كنا أقل اقتدار من أولئك الأبطال الذين طوروها وأداروها مع الزمان؟ |
تالله ما تذمرنا ذلك إلا علينا لا عليها؟! وما وسمنا لها بما وسمناها به لا دليل عجزنا وبلادتنا وضعف إرادتنا. فأحر بنا أن نعدل أنفسنا، ونلوم أدباءنا. فما ارتقاؤها وتأخرها إلا صفة رجالها والقائمين بأمرها، وهل اللغة إلا بأبنائها؟! |
|