مشروعاتنا في السنوات الخمس
(1)
|
- 1 - |
حضرة الأستاذ الفاضل السيد عبد القدوس الأنصاري المحترم: |
تحية مباركة: تسألني أيها الأستاذ عن أملي فيما تصل إليه بلادنا بعد خمس سنوات في الاقتصاد والثقافة والعمران والأدب، وأجيبك بأني وإن كنت في حياتي متفائلاً أو متشائماً على الدوام إلا أني لا أحب أن أنساق مع الأمل على غير هدى من الواقع الماثل أمامي. ولهذا سيكون جوابي عن سؤالك مقتضباً وإليك ما يبدو لي في الموضوع: |
1 ـ المستوى الاقتصادي: |
أما الأمل في اقتصادنا فأمل مبهم غامض فبلادنا ما زالت تحبو في حقلي الإنتاج والاستثمار. وليس لنا مرفق نستطيع أن نركز بلادنا عليه في حياتها الاقتصادية غير الذهب الأسود ((البترول)) وهذا الذهب الأسود إذا لم يستغل في مرافق صناعية استثمارية أخرى، وبقي بضاعة معروضة للبيع على الدوام فإنه كما يقرر الجيولوجيون يفتقد كميته المختزنة في أرضنا بعد مدة من الزمن ما دام المتح من آباره مستمراً ينتفع به الغير من البلاد والأمم الحية في بناء اقتصادياته ونعود نحن بثمنه نصرفه في مصالحنا الخاصة والعامة دون أن نرسم أو نحاول أن نرسم برنامجاً ننظم به الصرف في مدد محدودة وعلى أوجه من المنافع المستقرة المستمرة لحياة شعبنا وبلادنا الحالية والمستقبلة. إنتاجاً واستثماراً: صناعياً وزراعياً. وهذه الحياة الاقتصادية التي تسير بطبيعتها وإلى هدف غير محدود ولا معين لا يمكن أن يركن إليها في بناء مستقبل سليم لرقي الشعب وازدهار البلاد ورفع مستواهما في المجالات الحيوية، وإلى الآن لم يظهر لي أن هناك برنامجاً اقتصادياً وطنياً وضع لينفذ في مدى خمس سنوات أو أكثر على خطوات ثابتة حتى يحقق ما تحتاجه البلاد وتتطلبه لحياتها الضرورية فضلاً عن الهناء والرفاه. فالزراعة التي هي قوت الشعب وغذاؤه في حياته لم تصل وقد مضت على العناية بها في الجملة سنوات غير قليلة إلى حد الاكتفاء الذاتي. والصناعة لا تزال تتعثر في محيطها الضيق الباهت الضعيف دون سند ولا توجيه. فإلى أن يكون هدف محدد وخطة مرسومة ومشروعات مصممة للنهوض الاقتصادي في جميع أو بعض مرافق البلاد الإنتاجية والاستثمارية وإلى أن نرى في ميزانية الدولة أرقاماً صاعدة مرموقة ترصد للدراسات والمشروعات الاقتصادية، حينئذ نستطيع أن نوضح أملنا على ضوء سيرها وخطاها في النتائج التي ستلمس أو تتحقق في مدى سنوات أو أكثر أو أقل. وإلا فإن الأمل سيبقى غامضاً مبهماً يترنح مع أشعة الفجر البعيد. |
2 ـ المستوى الثقافي: |
وأما الأمل في مدى ما تصل إليه الثقافة في بلادنا بعد خمس سنوات. فأستطيع أن أقول إنه أمل باسم. ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن الخطوط المرسومة لاتجاهات وزارة المعارف وخطواتها الواسعة تبعاً لما لديها من إمكانيات مادية وأدبية وفكرية - هي أوضح الخطوط في مرافق البلاد ومصالحها الحيوية العامة. وإنا لنأمل أن نرى الجامعة العربية السعودية - وقد كمل كل فروعها - تخرج لنا أفواجاً من الشباب المثقف الذي يحمل الأمانة العلمية والأدبية في مختلف مجالاتها، ويرفع مشاعل الثقافة والعرفان ليقود الأمة والبلاد إلى مباءة الأمجاد العالمية. كما نرى فرق مكافحة الأمية الإجبارية في المدن والقرى الصغيرة تنشل هذه الكتل البشرية المنتشرة فيها من حضيض الجهالة والغباء وتفتح عيونها وعقولها بنور العلم والمعرفة، لتصبح أداة نافعة للوطن في سبيل التقدم والرقي. ولا نكتفي بما جاء في نشرة وزارة المعارف لشهر رجب 1378، والتي قصرت نشر الثقافة بشتى أنواعها بين أفراد الشعب على أساس الرغبة الذاتية فقط. على أن قفز ميزانية المعارف من ((20)) مليون ريال في عام 73 إلى ((87)) مليون ريال في عام 77 ليدل دلالة واضحة على أن الدولة جادة كل الجد في إنهاض المعارف وتحقيق رغبات الشعب في النهضة العلمية والثقافية التي تضمن له البقاء والصمود في المعترك العالمي الذي ما زالت ولا تزال الأمم تتسابق فيه إلى كشف أسرار الكون واكتناه خفايا الحياة لتوطيد أركان الحياة. |
ثم على الرغم من هذه الخطوط العريضة التي نراها واضحة في تقدم المعارف وإطراد نموها، فإنه لا ينبغي أن نسرف في الأمل والتفاؤل دون أن نرى اتجاهاً قوياً من الدولة إلى تحقيق كفاية البلاد والأمة من الرجال الاختصاصيين في كل فروع العلم والمعرفة.. فإنه إلى الآن وقد مرت سنون ليست بالضئيلة لم نر من الاختصاصيين في العلوم والمعارف الحيوية من نستطيع أن نعول عليهم في دراسات وأبحاث عالية غير نفر لا يتجاوز عدهم أصابع اليدين. وهذا النفر على قلته قد انطوت جهودهم في المصالح الحكومية في حدود ضيقة نعتقد أنها ستحد معارفهم وعقولهم وأفكارهم. وسوف لا نرى من بحوثهم ودراساتهم ما يزيح الستار عن منافع وكنوز وثروات تزيد في حضارة البلاد ورفاه الأمة. وهنا أيضاً لا نكتم أسفنا على مصير بعض من حملوا شهادات الجامعات فقد رجعوا فلم يجدوا أمامهم ميادين للعمل في حقولهم، وتركوا يتسكعون مدة من الزمن في طلب ما يثبت وجودهم، ويمكنهم من بذل نفعهم ونشاطهم فضلاً عن أن يجدوا ما يدفعهم إلى الاستزادة في التخصص، والتبحر في الدرس والتثقيف. في حين أننا ما زلنا نستقدم الأساتذة من الأقطار العربية لمدارسنا كما أننا مقدمون إلى مزيد من الاحتياج لمن يدعم جامعتنا في جميع الحقول العلمية والأدبية من العلماء الأكفاء والباحثين النبغاء، ومن أجدر بأن يقوم بهذه المهمة ويسد هذا الفراغ من شبابنا المثقف توجهه الدولة وتعينه مادياً وأدبياً وتدفعه إلى إكمال ما شق طريقه فيه من فروع المعرفة تحصيلاً وطيداً، وتخصيصاً دقيقاً فريداً؟ |
إلا أن الأمل ليزداد إشراقاً وقوة. إذا رأينا المزيد في هذا الاتجاه من الدولة فنجني الثمار المتوخاة في ثقافة أمتنا ونموها بعد خمس سنوات أو أكثر. والأعمال بنتائجها وخواتيمها. |
3 ـ المستوى العمراني: |
والأمل في استبحار العمران، أمل صدمه الواقع بما لم يكن في حسبانه، وذلك أن العمران الذي قام في أكثر مدننا لم يكن على أساس صحيح ولا على تصميم مدروس يتفق وواقعنا الاقتصادي والاحتياجي. لا شكلاً ولا موضوعاً باستثناء مدينة ((الرياض)) التي أخذت في مظهرها البديع وشكلها الأنيق تقتعد الذروة في شبه الجزيرة العربية روعة وجمالاً. حيث عني بتخطيطها ودرس أوضاعها ورسم خرائط تنظيمها قبل البدء في إعمارها. ثم تولت التنفيذ بعد ذلك أيدٍ قوية مخلصة. مؤيدة بالإشراف الدقيق والبذل السخي. ونرجو أن تتبع هذه الخطة في المدن التي لم تصل إليها بعد يد العمران. أو أخذ العمران يمد عنقه إليها((كجازان)) لئلا تشوه كما تشوهت المدن التي قصد عمرانها وتجميلها ولكنها مع الأسف ضاع فيها الجهد والمال، وضاع معهما أوسع الآمال. |
هذا من ناحية الشكل. أما من ناحية الموضوع، فقد كانت مطامع رؤوس الأموال في هذا الاستبحار من العمران على غير دراسة اقتصادية دقيقة. فكان أخيراً بعض النكسة وبعض البوار. ولعلّ فيما نرتجيه من قيام المشروعات الاقتصادية في المستقبل القريب - صناعة وزراعة - ما يعيد للعقار المنتشر في ضواحي المدائن يطلب السكان ولا سكان - الأمل الذي استهدفه رؤوس الأموال المدخرة وبالأصح المجمدة فيه. وعسى أن لا تقع المدن المقبلة على الإعمار فيما وقعت فيه سابقاتها. وخير لنا الآن أن نوجه عزائمنا إلى تنسيق مناظر مدننا وتحسينها بالميادين الفاخرة والشوارع المتسعة، والمعارض المغرية، والإضاءة الآخاذة لنبعث في نفوس قاطنيها البهجة والانشراح، ونجذب إليها أنظار الزائرين والسواح. فنزيد بذلك إلى اقتصادياتنا وثرواتنا وتجارتنا ربحاً على أرباح. كما أن من الخير الآن أن نقتصد في العمارات السكنية الاستغلالية التي أثبت الواقع أن الحاجة إليها لم تعد ماسة ما أمكننا. اللَّهم إلا ما كان سكناً خاصاً لذوي اليسار والاقتدار. وأن نوجه ما نملكه من رؤوس أموال إلى وجهات استثمارية أخرى ذات وضع استقراري واستمراري. |
4 ـ المستوى الأدبي: |
وأما الأمل فيما يصل إليه مستوى أدبنا بعد خمس سنوات فيعود إلى ما سيكون لدينا من تطور في الشعور الوطني والقومي، وما سيصل إليه مستوى الاستقلال والتحرر في تفكيرنا وتصورنا. فإن أغلب ما نشر وقرأناه من أدبنا العصري لا يحمل بعد طابع مجتمعنا ومشاعره. ولا يصور بيئتنا تصويراً دقيقاً. كما لا يبدو مستقلاً في تصويره وأسلوبه ولا يتميز بكيانه الطبعي والاجتماعي والفكري. فأكثره يجري في أعقاب آداب الأقطار العربية الأخرى. ويدور في فلك الأديب الشخصي الذاتي غير متفاعل بأحداث محيطه الوطني العام. ولعلّ ذلك راجع إلى رواسب في أعماق نفوسنا من الملق والحذر والتهيب وعدم الصراحة. أو لما يعوزنا من قصور في استيعاب أحداثنا وشؤوننا، وعدم تمكننا من تلوين وتكييف أساليب الأداء. تبعاً لضعف ثقافتنا ودراساتنا اللغوية والأدبية عربية وأجنبية، وما زال التخصص والتبحر في ذلك مفقوداً في أوساطنا الأدبية. والأدب لا يزدهر دون أن يستند إلى عقل قوى الثقافة والهضم وفكر واسع الأفق والابتكار، ولغة فياضة بمفرداتها وأساليبها، تستجيب لكل مقام بما يناسبه، وتصور يستوعب المواقف والمناظر فيبرزها واضحة فاتنة، ونفس تتفاعل مع الأحداث والوقائع في أعماقها تفاعلاً يحيلها إلى مباهج أو لوعات. فينطقها بأفانين الأوصاف والعبر والعظات. فهل نعتقد ومستوانا الثقافي والاجتماعي والفكري والنفسي - كما هو ماثل في حالنا الحاضر - أن يتبدل موقفنا الأدبي بعد خمس سنوات. فيثبت أدبنا وجوده في الأدب العربي وبين الآداب العالمية بلونه الخاص الممتاز؟! قد تكون معجزة غير أن عصور المعجزات قد انتهت. |
* * * |
وختاماً أرجو من الأستاذ الفاضل عدم المؤاخذة على هذه ((الدردشة)) المشوشة في موضوعات تحتاج إلى بحث مركز، وشرح مفصل، وشكراً على ما أولاني من ثقة وحسن ظن، وحقق الله ما نتطلع إليه من أمانٍ وآمال. |
- 2 - |
قبل الإجابة الحاسمة عن هذا السؤال. نريد أن نوجه سؤالاً آخر نراه كمقدمة له. وإن الإجابة عنه تؤدي حتماً إلى ما يجب أن يكون جواباً وشرحاً للموضوع المطلوب. هذا السؤال هو: (هل الحروب ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية للبشرية)؟ |
إذا رجعنا قليلاً إلى النظر في الغرائز البشرية نرى أن غريزة حب الذات في لغة العلم، أو الأنانية والأثرة في لغة الأدب والعرف، هي التي تصدر عنها كثير من الفضائل والمساوئ والخير والشر في النفس الإنسانية، وإنه لغريزة عارمة تدعو دواماً إلى الاستحواذ على كل شيء، والتغلب على كل ما يقف دوماً دون تحقيق الغاية التي يصبو إليها صاحبها. متى أنس في ذاته القوة والاعتماد وأنَّي لمن استحصدت قوته، وتكاملت عدته أن يقف عند غاية. ويقنع بما أوتيه؟!. |
وهي أيضاً تدعو إلى الكفاح ومناضلة القوى المتغلبة العادية ولو إلى مدى محدود في سبيل المحافظة على الحقوق التي حصلها صاحبها في حياته. متى أحس في نفسه ضعفاً يقعده عن الطموح والعدوان. وإنها كما تتمثل في الأفراد فتشعل بينهم خصومة محتدمة تسيل من أجلها الدماء. ندعوها نزاعاً فردياً. كذلك تتمثل في جماعات الأمة الواحدة التي تجمع بين بعض أفرادها وحدة المصلحة. ويفرق بين هؤلاء وبين سواهم عدم اتحادهم فيها. والكل منهم يريد استخلاصها لنفسه فتثير بينهم لجاجاً وعراكاً ندعوهما حرباً أهلية أو ثورة محلية. وتتمثل أيضاً في الأمم والشعوب المختلفة العناصر والمبادئ والسكن. فتنفث فيهم سموم العداء والبغضاء. لا يعالجها إلا السلاح يقتل ويهدم ويدمر. وندعو ذلك حرباً دولية إذا حصرت بين شعوب ودول متعددة. وحرباً عامة إذا شملت أغلب الأمم. |
فما هذا التناحر الدائب الذي لا ينقطع مع الزمن في مختلف أشكاله وصوره فردياً أو جمعياً أو أممياً ألا فورة وانتباه تلك الغريزة في النفس الإنسانية. تطغى على روح الجماعات والأمم. كما تطغى على نفوس الأفراد. |
وقد جهد الإنسان المتمدن وبالتالي الأمم المتمدنة - بعد أن حدت قوانين الفضائل ومحامد الأخلاق نزعة العدوان. واصطلح المجتمع الإنساني في تطوراته الحيوية عن أنظمة الحقوق وتقريرها - في ستر دوافع تلك الغريزة. ولبسها بمختلف المعاذير الملتمسة. والمبررات المنتحلة. عند حدوث النزاع. وإذكاء نار الحرب. كدعوى استرداد الحق المسلوب. أو نجدة الحرية والكرامة المذالة لدى الهجوم. وكدعوى مناهضة المعتدي. أو نصرة الضعيف عند الدفاع. ولكن ما هي تلك الحقوق التي كانت ذريعة لإقامة شريعة القتل والتدمير. مقام شريعة المحبة والإخاء. وما حقيقتها؟! وهل كانت الطبيعة ومحاسنها. والأرض وكنوزها. حينما هبط إليها الإنسان الأول. ملكاً مسجلاً له ولبنيه؟ أفلم تكن مستباحة له وللحيوانات والدواب؟ حتى غالبها بذكاء عقله. وسعة حيلته. وقوة مداركه. فذلل ما كان منها في مصلحته تذليلها. وطارد ما كان منها عتياً جباراً عن ما اختاره من الأرض ملجأ له ومأوى. إلى النواحي التي يأمن فيه من غوائلها! فاقتنى الدور والمزارع. وابتنى المدن والحصون والمصانع. وأصبح هو ونوعه من بعده السيد المطاع في الكائنات الحية! أفلا كان من دواعي النصفة والقسط. أن يكون هذا الميراث الإنساني المكتسب بسلاح القوة حقاً مشاعاً للبشرية. يتساوى فيه ضعيفهم وقويهم وحقيرهم ورفيعهم! أفما كانت شرعة التسامح والتعاطف فيما بينهم أولى من شرعة المماحكة والعنت في حق كان في أصله مباحاً ومشاعاً! ولعلّ أبا الطيب المتنبي نزع إلى ذلك حينما قال بيته الخالد. |
ومراد النفوس أهون من أن |
نتعادى فيه وأن نتفانى |
|
ولكن هيهات! فإن لمراد النفوس سورة لا يهدئها إلاَّ عزة الظفر أو خذلان الفشل. وإن للقوة حكماً صارماً تعنو له الجباه! وإذا كان الإنسان الأول احتكر ما أراده من الأرض والطبيعة بقوة جثمانه وعقله. فما أحرى أن يكوي ميراثه من بعده حقاً مشروعاً للقوي من بنيه. ونظام التطور والنشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي. يحتم تلاشي الضعيف وفنائه. ورسوخ قدم القوي وبقائه. |
وقد كانت ولا تزال الشرائع والقوانين مؤيدة لهذا الحكم غير أنها أحاطته بحدود وكيفيات يرجع إليها في الفصل عند الاحتكام، وتكبت إلى حد ما ما يعتلج في النفوس من نوازع الطمع والشره. فاستطاعت بعد جهاد عنيف أن ترسم للإنسانية طرق اكتساب الحق ومشروعيته. ولا نقول جزافاً حين نقول: إن تلك الطرق إنما رسمت في أساسها على اعتبار القوة أيضاً. أليست النظم والقوانين تبعث الحق لصاحبه. إما بقوة الغلبة والاستيلاء في الحرب. وإما بقوة وضع اليد. أو بقوة الحجة والاستناد، أو بقوة المال، في تبادل المنافع والمصالح والعروض السلم! ثم أليست الشرائع قد أباحت غنائم العدو وأسلابه عند اندحاره. أباحت فرض الجزيات والإتاوة على المخالف المسالم ثم أليست تدعو إلى أخذ الحذر وإعداد القوى للكفاح وإرهاب الأعداء! |
فما أضل إذن الفلاسفة والحكماء الخياليين. دعاة المحبة والإخاء والمساواة والسلام في الإنسانية! ويا خيبة مساعي الساسة في نزع السلاح وإلقاء العتاد بين البشر. تلك أحلام تتراءى في ظلمات الإغراق في إحسان الظن والنية بالناس في الحياة الدنيا. يبددها إشراق الحقائق الواقعية التي تمليها ضرورات هذه الحياة. من تجهم الناس ونكرهم لبعض. ومن تصافحهم اليوم ثم تباغضهم في الغد. وبعد. فالحرب شر لا بد منه. وويل لا معدى للإنسانية عنه. ولا تستطيع أن تنجو منه إلا إذا استطاعت أن تتخلى النفوس عن غريزة حب الذات أو الأنانية. والأثرة. فهل يتسنى ذلك؟ إذن لركد العمران. وانكمشت الحضارة وتعطلت حركة تطور النفوس والأفكار والأخلاق. في الفرد والجماعات والأمم ولبقي الإنسان الآن هو هذا الإنسان الأول حينما هبط إلى الأرض. فلم يضرب في آفاقها. ولم يجد في استعمارها. بل لتلاشى أمام قوى الطبيعة القاهرة. واندحر تجاه وحشية الحيوانات الكاسرة. ولقد كانت حروبه الأولى دفعاً عن نفسه وعن نوعه إزاء تلك الظواهر والمؤثرات. ثم أصبحت نضالاً بينه وبين بني جنسه، طمعاً فيما قد نالوه ولم ينله. وحسداً لهم على نعمة أنعمها الله عليهم وحرم منها. |
ولقد حدثنا القرآن الكريم. كما حدثنا التاريخ عن أول خصومة استحرت في عهد الإنسان الأول. وسفك فيها الإنسان دم أخيه الإنسان الطاهر. وهي خصومة قابيل وهابيل التي انتهت بمقتل هابيل. وبعد ذلك انفتح باب الفتنة على مصراعيه. فكان نزاع. وكانت ثورات. وكانت حروب. لا يعلم إلا الله وحده كم التهمت من نفوس. وقوضت من عمران! واجتاحت من حضارات وجرفت من عقائد ومبادئ. وأذلت من أمم. وأدالت شعوباً من شعوب. |
أما وأن الحرب ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية للبشرية. فما هي أثرها ووظيفتها في هذه الحياة؟ لا نكران في أن من استقرأ التاريخ يجد أن الحرب كما أنها هدمت ودمرت. كذلك أقامت على أنقاض ما هدمته ودمرته معالم أخرى من نتاج العقل والعمل الإنساني. وجددت صوراً وألواناً من مباهج الحياة الإنسانية ومآسيه. والحرب في نتائجها الإيجابية من أقوى المؤثرات وأسرعها في تطور مرافق حياة الفرد والجماعات والأمم. وانتقالها إلى مختلف الأشكال والأوضاع التي يفرضها سلطان الغالب على المغلوب. وبعبارة أدق سلطان القوي على الضعيف. |
وإذا كان لحياة الفرد النفسية والخلقية والفكرية انحلال لا يعيد جماع قوته ولا يوثق عروتها معه إلا الأيقاظ والتنبيه الشديد إلى درجة الزجر والتعنيف والصفح. فإن للجماعات والأمم والشعوب انحلالاً في حياتها الاجتماعية لا يعالجه إلا الصراع والكفاح. واسترخاء وجموداً لا يزيلهما إلا الحرب تصهر النفوس فتنهضها. وتعصف بالعقول فتنفلت من عقالها. وترج البلاد فتغلي غليان المرجل لتصمد للكارثة إذا أنست في حماتها القوة والاستبسال. أو ترجو الخلاص والانتقال إذا سئمت حياتها الأولى لتستقبل حياة أخرى. |
وكم كانت الحروب سبباً في اتساع الحضارات وإطراد نموها وتقدمها. بما تدفع الإنسان إلى ابتكار مختلف الصناعات والمخترعات التي تسهل له سحق أخيه الإنسان عند مهاجمته. أو تقيه عاديته عند الدفاع عن نفسه. ويصبح كثير منها في أوان السلم والاستقرار أداة رفاه له ولبني جنسه. |
ويقول الدكتور غوستاف لوبون في كتابه سر تطور الأمم الذي نقله إلى العربية المرحوم فتحي باشا زغلول: إن أحد الساسة الإنكليز زار المدارس الإنكليزية. فقال له أحد كبار المعلمين (إني أحاول أن أصب شيئاً من الحديد في روح التلاميذ). ويرمي بذلك إلى وجوب أن يربي الأبناء الإنكليز في مدارسهم تربية عسكرية جبارة. فإن استعدادهم للحرب يكون أدرأ إلى عدم الخوف من الحرب. وإن بث الروح الحربية في نفوسهم يكون منهم رجالاً أقوياء أولي بأس شديد. |
والآن نستطيع أن نحكم حكماً قد يكون صارماً وقد يكون جائراً. إلا أنه حكم يؤيده التاريخ في ماضيه وحاضره. ولا يعدو عنه منطق الحياة والواقع. ألا وهو أن الحرب لا تطوي حضارة إلا لتنشر أخرى. ولا تبيد أمة إلا لتبعث أخرى. ولا تأتي على بلاد أو مدن لتنشئ مكانها أو بدلها بلاداً أو مدناً أخرى فتلك حروب الإسكندر في قديم الزمان. وهاتيك الفتوح الإسلامية في عصورها الذهبية. وهذه الحرب العامة المنصرمة. كانت نتائجها تدميراً واجتياحاً لنواحي الضعف والانحلال في الحياة البشرية إذ ذاك. وبناء وتجديداً في الأخلاق والأفكار والمبادئ والسياسة والاجتماع والحضارة والعمران. وما لنا نذهب بعيداً. وهذه الحرب السعودية التي انتهت باستيلاء عاهل العرب جلالة الملك عبد العزيز آل السعود على الحجاز وعسير ومعظم مقاطعات شبه الجزيرة العربية الشمالية والجنوبية. فإنها كما قضت على جملة حكومات وولايات كانت كالأعضاء الشل في جسم الجزيرة. وكما اجتثت أوضاعاً سياسية بالية. وبدعاً في الدين ابتدعتها التقاليد الواهية: فقد أقامت حكومة متماسكة الأطراف. وكوّنت من مجموعها أمة واحدة تخضع لملك واحد. وتظللها راية واحدة. وبعثت في النفوس مشاعر وأحاسيس كانت مطوية في خفاياها. ووجهت العقول والأفكار والمبادئ والعقائد إلى وجهات عملية حيوية صحيحة. لم يكن الناس في هذا البلد يألفونها ويسيرون في حياتهم نحوها. واقتبست البلاد من مظاهر الحضارة والمدنية الحديثة في أمد قصير ما لم تره طوال السنين والعصور الخالية. وما كانت تحاربه الحكومات السابقة ويمانعه أعوان الجمود والرجعية. ثم من ذا الذي ينكر أن العالم الآن في فوضى اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وسياسية. تحتاج إلى هدم وتقويض. لتبدل إذا شاء الله باستقرار وارتكاز. ومن ذا الذي يدري لعلّ هذه الحرب الراهنة هي أداة التطهير والتصفية والغربلة! وأحر رجائنا من الله هو أن يقصر من أمدها. ويزيح عن صدر العالم كابوسها. فإنها حرب إن عمت - لا سمح الله ولا قدر - ستكون مشهداً من مشاهد القيامة إن لم تكن القيامة وقى الله العرب والمسلمين شرها. وأبعد عنهم لظى أوارها. |
|