شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فَتح مكَّة (1)
في السنة السادسة من الهجرة عقد صلح الحديبية (الشميسي حالياً) بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين قريش على شروط أربعة:
1 ـ إيقاف الحرب عشر سنين.
2 ـ من جاء المسلمين من قريش يرد ومن جاء قريشاً من المسلمين لا يرد.
3 ـ من أراد محالفة النبي من العرب فلا جناح عليه، ومن أراد محالفة قريش فلا جناح عليه.
4 ـ يعود النبي وأصحابه إلى المدينة دون أن يعتمروا في هذا العام ولهم أن يقدموا في العام التالي فيدخلوا مكة لا يحملون معهم من السلاح غير السيوف في القرب، ولا يقيمون بها سوى ثلاثة أيام.
وكان هذا الصلح فتحاً مبيناً كما ذكره القرآن الكريم، وإن ثقل وقعه على المسلمين بادئ ذي بدء ورأوا في هذه الشروط التي ظهرت لهم لأول وهلة أنها في صالح قريش أكثر مما هي في صالحهم، رأوا فيها الدَّنية اللاحقة بالإسلام، كما صرح بذلك عمر رضي الله عنه في ألمه وتحمسه الشديد.
كان هذا الصلح فتحاً مبيناً حيث مهد بنتائجه السليمة الباهرة بعد زمن يسير لفتح مكة الذي يطلق عليه المؤرخون (الفتح الأعظم) تلك النتائج التي دلت على الحكمة السامية والغاية الصائبة البعيدة التي كان يقصدها ويهدف إليها الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام، ولحظها أبو بكر رضي الله عنه في رده على عمر.
فإن النبي وهو يفهم أنه بعث بدين الحق المبشر الغير المنفر، دين السلام والوئام جنح في قول هذه الشروط إلى تغليب جانب السلم على الحرب ما وسعه السبيل إلى ذلك ترضى بها قريش ولا تضير الإسلام ولا تضر المسلمين لتقوم بينه وبين أعدائه قريش هدنة سلمية تمكن لهم ولغيرهم من العرب المناوئين لهذا الدين عنتاً وصلفاً، تمكن لهم جميعاً من حيث لا يشعرون أن يتعرفوا ويتفحصوا خلالها ما احتواه الإسلام من قواعد خلقية واجتماعية رفيعة وأسس إصلاحية متينة لحياتهم المليئة بالشرور والمفاسد وليتجلى لهم في هدوء وروية واطمئنان ما يقرره النبي وأتباعه، ويدعون إليه من رعاية لمصالح البشر العامة، وتوطيد لأركان السلام والاستقرار اللازمة لحياة الأمم واحترام للعهود والمواثيق المبرمة.. وليدركوا ما يتحلى به المسلمون من سماحة وقوة إيمان، وابتعاد عن الهوى والجنف والطغيان، وقد أسفر ذلك فعلاً عن إسلام ثلاثة من رجالات قريش النابهين (خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة) كانوا من أشد الرجال وطأة على المسلمين في الحروب..
كما كان يرمي عليه الصلاة والسلام وهو يعلم أنه مرسل لكافة الخلق بشيراً ونذيراً إلى اغتنام فرصة هذه الهدنة لدعوة الأمم المجاورة للجزيرة العربية إلى الدين الإسلامي القويم، فراسل في غضونها الملوك والأمراء المجاورين يدعوهم بالحسنى إلى دين الله فمنهم من أجاب الدعوة وأسلم، ومنهم من رد رداً حسناً فسلم. ومنهم من رد رداً قبيحاً فأذاقه الله بعد حين وبال أمره.
وهو عليه الصلاة والسلام إلى ذلك كله يعلم أن قريشاً وحلفاءها لا تواتيهم جهالتهم وكبرياؤهم وإمعانهم في السخرية والهزء على أن يستمروا في الحفاظ على العهد الموثق والذمة المحرمة وقد كان ذلك إذ خان سفهاؤها العهد فأعانوا سراً سفهاء حلفائها بني بكر على الغدر بحلفاء النبي: خزاعة، بعد غزوة مؤتة التي رجع فيها المسلمون دون أن ينالوا من الربح شيئاً.
فظن أولئك السفهاء ومن لف لفهم من الأعراب أن بالمسلمين ضعفاً فكان غدرهم ذلك مدعاة لتصميم النبي عليه الصلاة والسلام على فتح مكة.
ثم ماذا يضير الإسلام ويضر المسلمين أن يصبر من قوى إيمانه في قلبه، ورسخت عقيدته في أعماق نفسه على الأذى حتى يأذن الله له بالفرج والفرج للصابر قريب؟ ولقد برهنت الحوادث على أن قوة إيمانهم ومكنة عقيدتهم جعلتهم حينما أبى النبي قبولهم حرمة للعهد المقطوع وليس في إمكانهم الرجوع إلى قريش فيشتد الأذى عليهم أشد نكالاً ووبالاً على قريش.
وهل يضير الإسلام ويضير المسلمين من ضعف إيمانه أو تنكس بعد الهدى إلى الضلال، واختار اللجوء إلى من يميل إليهم هواه؟ ولقد يكون بقاؤه بين المسلمين بمراءاته بلاء ينقض الظهور، وسما في الدسم غير منظور وطابوراً خامساً يفت العضد ويكون أشد وقيعة من العدو السافر.
بغدر قريش الذي أشرنا إليه قبلاً كان للنبي عليه الصلاة والسلام المندوحة العظمى لاستنفار القبائل العربية المسلمة (سليم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة) ودعوتهم للحضور في رمضان من السنة الثانية من الهجرة بالمدينة المنورة دون أن يعلن قصده غزو قريش وفتح مكة. حتى إذا تجمع من المسلمين عشرة آلاف محارب بادر بالتوجه إليهم صوب مكة في سرعة وحذر لا يمكن معهما أن يصل الخبر إلى قريش فتتجهز للقتال وهو لا يريد أن يدخل مكة إلا سلماً، فما إن وصل هذا الجيش الكثيف مَرَّ الظهران (وادي فاطمة حالياً) قرب مكة، حتى أحست قريش بالخطر الداهم، وليس لديها الفرصة الكافية للاستعداد للكفاح فأرسلت ثلاثة من رجالها يستطلعون الخبر ويستجلون حقيقة قدوم النبي إليهم بالمسلمين بغتة.. ولم يتريث النبي بالجيش كثيراً وسار بهم حتى بلغ ذا طوى، وليس أمامه ما يدل على تأهب مكة للمقاومة ففرق الجيش إلى أربع فرق ودخل مكة من شمالها وجنوبها وأعلاها وغربها، وفي أسفل مكة حيث يقود المسلمين خالد بن الوليد، تصدى لهم فريق من قريش أبوا إلا المقاومة والحرب فأصلاهم خالد بأسه ودارت عليهم الدائرة وفرقوا وهم يطلبون السلامة والنجاة، وكانت ملحمة قصيرة اضطر إليها المسلمون اضطراراً، ولم يرد النبي عليه الصلاة والسلام أن تكون وسرعان ما استتب الأمر وأذعنت مكة كلها للنبي وأصحابه، وعاد الإسلام إلى منبعه، موطد الأركان، مرفوع الأعلام، شامخ البنيان، وتم بذلك فتح مكة هذا الفتح الأعظم الذي هدأت بعده الجزيرة العربية وأهلها من حروب طال أمدها واتسع مداها بين الإسلام ومناوئيه وبين المسلمين والعصابة القوية الحامية للشرك وشرعت بقية القبائل العربية الضاربة في مختلف مناطق الجزيرة وأنحائها تفد إلى المدينة المنورة تقدم ولاءها وطاعتها لرسول الله محمد عليه الصلاة والسلام.. ويعلن رجالها إسلامهم بعد أن كانوا طيلة مدة الحرب القائمة بين عاصمة المسلمين وعاصمة المشركين يرتقبون غلبة أحد الفريقين فينضوون تحت لوائه وينضمون إلى فنائه.
وقد كان هذا الفتح حداً حاسماً لتبلبلهم في العقيدة والسلطان عقيدة الشرك بالله وما اكتنفه من المثالب الخلقية الشائنة، والأدواء الاجتماعية الضارية، وسلطان أعوانها وحماتها بمكة المبنى على الإلحاد والإباحة والجبروت والعدوان، وعقيدة الإسلام الداعية للتوحيد ومحاسن الخلق ومجانبة الشرور والفساد، وسلطان معتنقيها بالمدينة المبني على الفضيلة، والرحمة والتقوى والعدل وحسن اليقين والإيمان..
وفي هذا الفتح الأعظم تتجلى صفتان من صفات النبي عليه الصلاة والسلام كقائد حربي محنك، وحاكم إداري حكيم:
1 ـ الأسلوب والتكتيك الحربي البارع في كتمان حركة الجيش، والمباغتة بالهجوم، وفي التهويل على العدو بإيقاد النيران الموهمة لجواسيسه بكثرة العدو عند الإقبال على مكة وفي الإحاطة بمركز تحصنه وأخذه من جميع جهاته، والنداء بالأمن العام لمن ألقى السلاح وأغلق داره عليه، ولمن دخل المسجد، ولمن دخل دار زعيمهم أبي سفيان.
2 ـ العفو عند المقدرة، عندما سأل عليه الصلاة والسلام قومه الذين أخرجوه من وطنه وألحقوا به أشد الأذى حين كان بين ظهرانيهم وكانوا أعنف خصومه حرباً ولدداً وقد امتلك بهذا الفتح ديارهم وسيطر على نفوسهم وأموالهم. وكان سؤاله لهم سؤال الكريم المشفق: يا معشر قريش ما ترون إني فاعل بكم؟ وأجابوه جواب الخاضع المؤمل (( خيراً أخ كريم وابن أخ كريم )) فقال لهم كلمته السامية اذهبوا فأنتم الطلقاء كلمة دوت في ربوع الحرم كان لها في مجال التفاخر العربي بالسماحة والنبل والفضل والكرم مقام يعز على من رامه ويطول، وهذه هي الصفة النبوية الكريمة التي لا تعلق بها شبهة ولا ريب.
وهذا هو فتح مكة الفتح الأعظم وقصته في التاريخ الإسلامي الحافل بأروع المناظر والمشاهد والأمثال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1859  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 133 من 143
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج