شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
قبل ما يزيد على النصف قرن، لمّا كان الأستاذ عبد الوهاب إبراهيم الآشي في عنفوان شبابه، وقمة تحمسه وحيويته، كانت البلاد قد ضمدت جراحها الذي سببته الحروب الطويلة نتيجةً للفرقة التي عاشتها مضطربة الأحوال، معزولةً لا تكاد تعرف من وسائل التنوير شيئاً إلا بعد أن تم التوحيد واجتمع الشمل.
هذا الخلل الذي عانته بلادنا في تاريخها الحديث والمعاصر، أفرز سلبيات خطيرةً تمثلت في قلة العطاءات الثقافية، والانحسار بدائرة ضيقةٍ لا تسمح بالتحرك، فظلت المفاهيم محكومة بالمألوف وعدم تقبل الجديد، فتأخر مسار التغيير خوفاً من الانزلاق في منحدراتٍ تسلب القيم وتقضي على المثل المتوارثة.
المهم، أنها عاشت حيرةً في ظل ظروف صعبة بعد ذلك مدةً، والعالم يكتوي بنار حربٍ عظمى، تلاحقت طوال نشوبها أزمات ضاقت بها أكثر دول العالم ثراءً، فما بالك بدولةٍ فتية شحّت مواردها وغابت معطيات أهلها بسبب عوامل تاريخية في غاية السوء شهدتها جزيرتنا العربية منذ انتقال عاصمة الخلافة الإسلامية من المدينة المنورة إلى دمشق، حيث قامت صراعات علوية أُموية، وزبيرية أموية وأموية عباسية أدت في النهاية إلى تمزيق حضارتنا العربية الإسلامية. هذه الصراعات أثرت إلى حدٍ بعيدٍ بحياتنا الثقافية، ولا سيما بعد أن تسلّط الشعوبيون، فانتشرت الأمية، وتفشت العامية، وكان نصيب جزيرتنا من الأمية أوفر من غيرها، ولعلّ عزلتها، وبقاءها على عفويتها ساعد أبناءها على الاحتفاظ بشيءٍ من الفصاحة، ولكنها فصاحة قلقة لم تخلّف إيجابيات فعالة إلا بعد أن فطن مثقفونا بأن مبعث عطائها مصدره استعمالها وسيلة لمعالجة قضايا العصر وإنجازاته إلى جانب مهمتها الأساسية كعنوان لشخصيتنا العربية بعدما تعرفوا إلى المؤامرات التي حيكت ضد لغتنا، ومحاولات طمسها وتغريبها أو النيل من أصالتها التي مكنتها من القلوب والعقول، فتشكّل بها رغم كل سلبيات الناطقين بها، تراث حضاري؛ لأن إيجابية الإنسان العربي حتى في أقصى حالات تخلّفه الكامنة في عدم استسلامه لغيرها، حماية لدينه ودنياه، فتهيأت بذلك الأجواء لقيام حركةٍ كافحت ونشطت بعدما تنوّر أعضاؤها بالمدينة الحديثة، فطعَّموا الفكر العربي بعطاء الفكر العالمي في مصر وبلاد الشام والعراق (1) ، وهؤلاء هم جيل الرواد الذين أضافوا للأدب العرب روحاً عصريةً، ودوافع وطنية دون الخروج به عن أصالته، فعبّروا عن عصرهم من خلال تراثية غير مسرفةٍ، فكانوا خير شاهدٍ على قضايا عصرهم (2) ، فتولدت من ذلك آفاق جديدة في الثقافة العربية، انطبعت في الأذهان، واستهدفت صيتاً عالمياً من خلال معالجات محلّية، تظهر الواقع ليكون سجلاً لشرائح الحياة.
وهكذا نجد أن الأدب من أهم أهدافه إنعاش المجتمعات والنهوض بالأمم، وأنه عند بلوغه مرتبة الامتياز سواءٌ بالشعر أو النثر، حيث تتوافر فيه العناصر الفنية والجمالية التي تلهم القرائح وتنبعث من الذوق الرفيع والعاطفة الصادقة والتعلق بالحقيقة وعدم إتباع أهواء النفوس (3) ، سيساعدنا على حفظ إحساسنا عندما نشعر بقيمته المساعدة على التشكيل والتغيير؛ لكونه تعبيراً عن الحياة، ومرآة صادقة للواقع؛ لأننا بهذا الإِحساس ندرك النبض فيه (4) ، ونفهم ماهيته التي تعطي حياتنا بعداً إيجابياً، فتتكشف بالتالي لنا فعالياته (5) ؛ وذلك حين نتحرر في كتابة الأدب من المذهبية الضيقة متحررين من الإِطارات التي قد تخرجنا من الحكم الصحيح على الواقع، فتتبعثر نتيجةً لذلك اتجاهاتنا بين عددٍ من المفاهيم المتناقضة عند عددٍ من الأنماط المنتجة والقارئة، ومن هنا تنبع الأزمة الحقيقية في حياتنا الأدبية (6) ، ما لم نتخذه وسيلةً للتنوير والاتصال الإنساني، واكتساب خبرات وتجارب الحياة، والتعبير عن الذات بمختلف أنواعه وأشكاله (7) :
هذا ما أدركه روّاد أدبنا السعودي الحديث في شبابهم، بعيداً عن الشعور بالكبر الطفولي الذي استحكم بمعظم أدبائنا الشباب اليوم، حين كان الأدب مدار الأحاديث في مجالسهم ومنتدياتهم مجرَّداً من الأغراض، فأدركوا أن في ازدهاره إنعاشاً للأمة وإصلاحاً لحالهَا، وأنه دعوة لمكارم الأخلاق (8) والعمران (9) رغم اقتصار البلد في زمانهم على مقومات النهضة الفكرية والبناء الحضاري، ولكنهم بالهمم الجبارة، والإصرار المصحوب بالإيمان ذللوا الصعاب واجتازوا العقبات، فتحققت طموحاتهم؛ لأنهم لم يستسلموا ومضوا محققين نصراً ثقافياً فتح أعيننا على معطياتٍ فعالةٍ، عندما التزموا بمنطلقاتٍ أساسيةٍ، مؤكدين أن النهضة الحقيقية لا سبيل لتحقيقها ما لم تتحدد ملامحنا فيها؛ لأن فيها البعث، لفكرٍ أصيلٍ لا يذله التقليد أو يهزه التيار الدخيل، وأن الأخذ من غير وعي سيقلل من شأننا، ويحجم عطاءنا، وأن الإنسان أولاً (ابن بيئته)، فمنها يتشكل دون رضوخ قد يسلبه التكيف، والاستسلام للتحديات.
من هؤلاء كان (عبد الوهاب آشي)، وهو ليس بحاجةٍ إلى تعريفٍ، فقد عرفته المحافل الأدبية ناثراً مشرق الأسلوب، صائب الفكرة، وشاعراً خلاّقاً تحفل قصائده بالخيال الجميل والعاطفة الصادقة، ولطالما صال وجال في بلاط صاحبة الجلالة، والكثيرون عرفوه مسؤولاً إنساناً، ولا يخفي متتبع الحركة الأدبية قبل خمسين عاماً أن الآشي كتب مقدمة أهم وأجرأ كتابٍ لأديب سعودي هو كتاب (خواطر مصرحة) للمرحوم محمد حسن عواد الذي عبَّر بصدقٍ من أعماقه ودفق شعوره، واستمع إلى ما يصيح بداخله في أن يعمل شيئاً لبلده وصالح أمَّته (10) .
كما أنه لا يغيب عن كل أديب دور الآشي الفعّال في عالم الصحافة حين تولى رئاسة تحرير (صوت الحجاز)، جاعلاً منها منبراً حراً تحوَّل للحدَّة في تناول الموضوعات، فشعر بأن ذلك يخالف الأهداف المطلوبة لخدمة الأدب، فما كان منه رغم سني شبابه الدافقة بالعطاء والتصدي إلا أن استمع لصوت العقل والتزم الهدوء حتى لا تضيع الأعمال الأدبية في ضبابية تبعدها عن النفاذ إلى الأغوار، التي استهدفها في افتتاحيته لعددها الأول حين قال (11) : (أُنشئت هذه الجريدة لتكون رابطة أدبية بيننا نحن أبناء هذه البلاد، توحّد بين أفكارنا وميولنا وثقافتنا)، ولكنها عندما تحولت إلى ساحةٍ أدبيةٍ ثار عليها جدل عابث، فأمسك كتّابها بعضهم بخناق بعض، فنشب بينهم صراع بعيد عن الموضوعية والأهداف النبيلة، لم يتوان فقال منبِّهاً ومحذِّراً: (كأنهم يريدون القضاء على تلك الروح الأدبية في مهدها قبل أن تتخطى إلى بعض مناحي التقدم (12) ).
وإذا كان الأستاذ الآشي قد احتد في أحيان قليلة؛ فذلك من منطلق غيرته على وطنه، وحبّه للثقافة؛ ولأنه كان شاباً والشباب لا يخلو من حدّه، فالأحوال قد تغيرت، والمجالات غدت أكثر رحابةً، وصارت الأبواب مشرعة، ولا بد أنه أدرك الفرق بين ماضٍ كانت ظروفه تحتّم اتخاذ إجراءاتٍ بحكم طفولة ثقافتنا، زالت بزوال المعوقات، فكتب ما كتب حرصاً على الأمانة العلمية، وتوضيحاً لمرحلةٍ من مراحل حياته الفكرية، التي أكسبتها السنون نضجاً وعمقاً وبعد نظر. إننا إذ نسجل شكرنا للأستاذ الآشي على تجاوبه، فلا يسعنا إلا أن نعترف بجميله من خلال أسواه للأدب في بلادنا؛ لأن نشاطه الأدبي كان متميزاً، أسهم إلى حدٍ كبيرٍ في ظهور نهضةٍ أدبية، وما زال رائداً من الرواد الذين أنعشوا حياتنا الثقافية المعاصرة، ومهّدوا السبيل لظهور أجيال تأهلت بالاختصاص في فترات لاحقة، فكان نتاجهم مجالاً ثراً لموضوعات استحقت دراساتٍ جادةً، ساهمت إلى حدٍ كبيرٍ في تطوير مفهوم أجيال من الأدباء السعوديين.
عبد اللَّه الشهيل
مدير إدارة الثقافة بجمعية الثقافة والفنون - الرياض
1402هـ - 1982م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1150  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 7 من 143
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.