من فقه التاريخ بشائر الفتح |
والله رب العزة والجلال هو الذي أعز دينه ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده. وبينما كان خاتم الرسل ولد آدم محمد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وهو في القلة التي انتصرت أخذ عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بالفتح العظيم يطمئنهم بأن نصر الله قريب لئلا يفزعوا من ردة ومن خلاف.
|
ولدينا الآن بشرتان عن فتح الحيرة زال به سلطان الفرس عن الحيرة وكاظمة حولها وشط العرب على الأدنى من حدود العرب.. كما هو عليه الصلاة والسلام بشر أصحابه بأن مصر ستفتح يطرد منها سلطان الرومان لتصبح نافذة الفتح لسلطان الإسلام. |
فالحيرة قرأنا عنها في كتب السيرة أن النبي صلَّى الله عليه وسلم بشر أصحابه أخبرهم بفتح الحيرة.. فإذا صحابي جليل يطلب من الرسول في قوله يخاطب النبي (ولي كرامة بنت عبد المسيح) يطلب بنت الملك أن تكون ملك يمين الله حين يأسرونها. |
واشتد حصار سيف الله خالد بن الوليد ومعه المثنى بن حارثة الشيباني على الحيرة لأن ابن عبد المسيح لم يجد مدداً من الفرس، فمن نصر الله لدينه أن الفرس كانوا إقليمين يختلفون وليس عليهم إمبراطور في ذلك الوقت بوحدة كلمتهم. فالشقاق بين الفرس أصبحت المشقة على الحيرة.. فإذا هم يفاوضون للصلح. وكادت تتم المصالحة حتى إذا علم الصحابي واسمه ((شويل)) بعقد الصلح أقبل على ابن الوليد أبي سليمان سيف الله خالد يقول له: لقد منحني رسول الله كرامة بنت عبد المسيح. وشهد الصحابة على ما قال: فإذا هو أحد المطالب من شروط الصلح. ولم يتم عقده وعلمت ((كرامة)) بالتأخير فسألت أباها عن تأخير الصلح فأخبرها عن هذا الشرط أيتسلمك مسلم مسترقة إليه. فقالت بنت الملوك التي تشمخ بعروبتها لخمية قحطانية: لقد رآني شابة فأعجبته ويحسبني الآن أنني على ما كنت عليه حين رآني. سلموني إليه وامضوا عقد الصلح فأنا كفيلة بالتخلص منه بما يرضيه. وتم الصلح وأمسك شويل رضي الله عنه بكرامة ((الكرامة)) فإذا هي تقول له: ماذا تريد مني؟ سأفتدي نفسي منك بما تطلب من مال. فاسترضته أبعده الله عنها وقد طلب مالاً. فاسألوا المعجزة ماذا طلب؟ وكم طلب؟ |
أنطقته المعجزة أن يقول: أفتدي نفسك بألف. فقالت كرامة: ((هذا كثير)) مع أنه ورب الكعبة ما كان كثيراً على ابنة الملك، ولكنها الحصيفة التي تعرف العدد تقول: كثير. كثير. ليثبت على طلبه. فأبى إلا الألف. فتظاهرت بالرضا مع أنها كانت الفرحة. ولكنها بنت الملك. |
وتسلم الألف وأطلق سراحها. حتى إذا وصل إلى أصحابه وعلموا بما كان قالوا له: أتطلب ألفاً بس؟ لماذا لم تزد. قالت المعجزة على لسان شويل: كنت أحسبه نهاية العدد. أنظروا إلى هذا الفاتح. صحابي جليل لا يعرف إلا أن الألف نهاية العدد. |
حصرته المعجزة أن لا يقول ألفين أو أكثر. لم يزد يرفع العدد أو يثنيه. |
إنها المعجزة، تفتح الحيرة لا يتعثر الصلح. تسترق((كرامة)) لحظة يعتقها الله فإذا هو الإسلام يرحم عزة الملك فلا تهان ابنته كأنما ((غوستاف لوبون)) المفكر الفرنسي عرف هذا وما هو أكثر فقال: (لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب). |
لقد فتح العرب في ثمانين عاماً أكثر من فتح الرومان في ثمانمائة عاماً فصحيح أنه الإيمان وليست الفلسفة وليس التطاول. وإنما هو طول الذين لم يتطاولوا. وإنما كان طولهم الهدى والرحمة. ولو لم يعرف واحد منهم أن الألف نهاية العدد. |
وعن فتح مصر. قرأت في حسن المحاضرة لجلال الدين السيوطي آثاراً ثلاثة تبشر بفتح مصر وتوصي بأهل مصر. وكان تعليقي عليها إذا كان السن ضعيفاً والمتن ضعيفاً فإن الفتح قد تم والوصاية مطلوبة بأهل مصر وبغيرهم، فهذا الضعف قوي بما كان من مصر. فالفسطاط قاعدة الفتح والتعريب للغرب كله حتى الأندلس. |
قرأت هذه الآثار كما أسلفت وما وجدت غيرها مما هو أصح منها، ولكني في ليلة من هذا الأسبوع سمعت شيخاً يتحدث عن البشرى بفتح مصر ويأتي بالخبر عن صحيح مسلم، حفظت النص بمعناه. وإذ عزمت أن أكتب فلا بد أن يكون النص في مبناه فتلفتت أستجدي منجدي شيخنا أبا تراب، فإذا هو يمليني النص حين رجع إلى المصدر ألا وهو صحيح مسلم. وفيه العجيبة عن خير المعجزة عن موضع اللبنة يختصم فيه اثنان ليخرج أبو ذر حين صدقت المعجزة، وإليكم النص وهو في باب: وصية النبي صلَّى الله عليه وسلم بأهل مصر من كتاب: (فضائل الصحابة) عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً فإن لهم ذمة وصهراً. وفي رواية استوصوا بأهلها خيراً فإن رأيت رجلين يتخاصمان أو يتقاتلان على موضع لبنة فأخرج منها. قال أبو ذر: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها. |
وفتحت مصر وكان ذلك النصر، وتحققت المعجزة يختلف الفاتحون على موضع لبنة يخرج أبو ذر لتصدق معجزة أخرى كما قال صلَّى الله عليه وسلم: أبو ذر أمة وحده. يعيش وحده. ويموت وحده. ويحشر وحده. |
إن هذه البشائر خبر عن عزة الإسلام، وفيها الخبر عن الشحناء تنتشر بين المسلمين حتى إنهم يختلفون على موضع لبنة، وما اللبنة: بضع قراريط ليست من قيراط الأفدنة وإنما هي من قراريط الدفين من الشحناء التي هي اليوم لن تنال من الإسلام فالإسلام عزيز، ولكنها نالت من المسلمين. |
والخاطرة تسأل عما جاء من السيوطي: كيف لم يستند إلى حديث مسلم: هل هو جهل الكاتبين أن أملى عليهم أو أن تمايلوا عليه أو هم انصرفوا عن هذا الصحيح كأنما هم يتجنبون خبر الشحناء. |
أما عبد الرحمن بن شرحبيل وأخوه فأبوهما أحد القادة للجيوش الأربعة الذين أمسكوا بنصر اليرموك حين تماسكوا في وحدة القيادة ينتصرون على الرومان ليخلصوا الشام كلها من سلطان الرومان في روما الشرقية عاصمتها القسطنطينية. |
شرحبيل بن حسنة قحطاني من ألوية أبي بكر الصديق في حرب الردة ومن قادة جيش أبي بكر في فتح الشام. أما الثلاثة فعدنانيون قرشيون: أبو عبيدة، يزيد الخير ابن أبي سفيان، وعمرو بن العاص. |
أما الذي قاد الوحدة إذ وحد الجيوش الأربعة فهو سيف الله أبو سليمان خالد بن الوليد. رضي الله عن أصحاب رسول الله. |
وهكذا فما ترك الأول للآخر من عظة وعبرة لما يتداركها المتأخرون فإذا هي الشحناء على موضع اللبنة. فالفرق واسع بين من لم يعرف نهاية العدد وبين الذين تشاحنوا على لبنة من المدد. |
|