شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
إمبراطورية شوقي
ونال شوقي من (( الحظوة )) ما جعل أستاذاً آخر يحتفلون بذكراه في إحدى مدرجات الجامعة التي كان أحد أساتذتها وعميداً فيها.. هو الدكتور أحمد أمين.. صاحب ضحى الإسلام وفجر الإسلام.. يحرم من التكريم الذي يستأهله فلم يحضر حفل ذكراه إلا ثمانية.. بينما شوقي - لأنه الحظي طوال حياته - قد كبر الاحتفال به حتى سمعته الآذان العربية في كل مكان...
ذكرى شوقي... ذكرى شوقي
وحتى كان كل شاعر وكل أديب يرجو أن يكون حاضراً هذا الحفل.. يلقي كلمة.. يسمع كلمة.. شعراً أو نثراً..
إن الحظوة لشوقي واتته بها الظروف.. البيت الذي نشأ فيه.. شاعر الأمير.. وليس بالقليل ذا النسب..
والحظوة مرة أخرى أنه شبع من اللغة وأشبعته تربة مصر.. بيئته طبعته طبعة إسلامية ذات نسخ عربية.
إن المعابة لها من شعور العائب.. لا من وضع القصر.. يعيبون أنه شاعر القصر.. ومتى كانت القصور عيباً.
فما كان عائب يستطيع أن ينال بغيته حتى إذا خاض الفتنة وجد نفسه خائباً لم ينل شيئاً..
مصر بكل ما فيها من فرعونها الأول إلى آخر الفراعين.. ومن عزيزها الأول إلى كل عزيز... كانت الإمبراطورية بلا إمبراطور..
الفراعين والأعزاء هم الذين بنوا مفاخر مصر..
إن حظوة شوقي وقد كان يعاصره شعراء في حجمه: بدوي الجبل، شفيق خيري، فؤاد الخطيب، جميل صدقي الزهاوي.. الرصافي.. سمعتهم آذان عربية محدودة.. أما شوقي فسمعته الأذن العربية حتى في صحراء شنقيط.. ذلك أنه شاعر نفسه.. تزاوج مع مشاعره الذاتية.. إنه شاعر الإسلام وشاعر العروبة.. وشاعر الأبطال.. فكم نظم لدمشق؟ وكم نظم عن النيل..
يا نيل أنت بطيب مانعة الهوى
وبمدحه التوراة أحرى أخلق
تسود ديباجاً إذا فارقتها
وإذا حضرت اخضوضر الإستبرق
وعندي أن سبب الحظوة هذه التي نالها شوقي وأخفق غيره.. لم تكن إلا لأن الاستعمار جمع القلب العربي والجهاد العربي والكفاح العربي.. وحين تلاحت سحب الاستقطاب.. تفرق كل شيء حتى أن القلب العربي ذاب في صراعات إقليمية وحتى أن الكفاح العربي تعطل بالمزيدات العربية.
فالحظوة لشوقي عطاء أمة.. من عطاء شاعرها لها.. والعيب على شوقي عطاء المتغيرين.. الذين لم يصبروا على التطور فقذفوا شعوبهم في حومة التغيير… وانحرف معهم نقاد صكت آذانهم بالمذاهب الجديدة.. والآراء المستجدة.. والانفعال المطروح.. والفعل الذي لم يطرح بعد.
شوقي التركي.. صبغته تربة مصر عربياً كعروبة ابن الرومي وأبي نواس.. صبغته تربة مصر كما صبغت التونسي بيرم.. فمصر ليست مقبرة الغزاة كما قالوا.. بل إنها تنمية وتمصير الغزاة والوافدين إليها.. حتى أن بيرم اليوناني أصبح شاعر الحب في مصر.. وهكذا شوقي، إن الذين يعيبون شوقي نسوا.. أنهم يحطمون الماضي في نفوسنا.. ولا مستقبل لأمة لا ماضي لها… مالنا نتبع الزلات؟
إن الذين يفعلون ذلك… يضعون شوقي فوق البشر..
كان عندي في بيتي في مكة.. في الصيف وأهلنا في الطائف.. الأستاذ الشاعر الفحل حمزة شحاتة.
وصحونا من النوم صباحاْ.. وعلى فنجان الشاي بدأ حمزة شحاتة على طريقته يثير المكايدة ليتكلم.. فحمزة شحاته من أبرع المتكلمين، قال:
إن شوقي ليس شاعراً.
قلت: لك رأيك.. فدعنا نشرب الشاي دون إثارة.. فأنشد:
في الموت ما أعيا وفي أسبابه
كل امرئ رهن بطي كتابه
ثم أنشد:
أفضى إلى ختم الزمان ففضه
وحبا إلى التاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقرى حتى أتى
فرعون بين طعامه وشرابه
فقال حمزة:
من يقول أن شوقي غير شاعر؟ من قال مثل هذا؟
قلت: كأنك وإسعاف النشاشيبي على نمط واحد.. فإسعاف قال في ((يوبيل شوقي)) الشعراء ثلاثة: الأحمدون.. أحمد المتنبي.. أحمد المعري… أحمد شوقي..
(قال) رأي عالم.. فكرة فنان..
قلت: ولكنه نسي: أحمد الرابع ابن زيدون… حبيب شوقي..
(قال) ليس هو رابع الأحمدين.
وكنت في مكة.. وفي مكتبي في إدارة الحج فزارني عالم من شنقيط.. وجرى الحديث بيننا..
(فقلت له):
لقد حصرت أنفسكم في شعر الجاهليين والهذليين وما أراكم احتفلتم بالمحدثين؟!
(فقال) إذا قال محدث مثل هذا القول حفظنا له:
لكنْ أخو خيل حمى صهواتها
وأدار من أعرافها الهيجاء
(قلت) هذا الشاعر محدث.. أحمد شوقي..
(قال) أو لا ترانا في شنقيط نحفظ لشوقي؟ كان هذا البيت من قصيدته في رثاء عمر المختار..
ومن حظوة شوقي أنا فقدناه في كل حدث عربي.. لو كان حيًّا لسمعتم عن لبنان ما لم يقله أحد..
فأين هو الذي حل مكان شوقي؟
ومات شوقي.. فإذا بي أقرأ في مجلة الفتح: صاحبها السيد محب الدين الخطيب خال أستاذنا علي الطنطاوي.. القصيدة التائية في رثاء شوقي قرأتها وقرأتها وأريد أن يسمعها من يفهمها فذهبت إلى أستاذي وشيخي عبد القادر التونسي المصري التركي اليوناني المدني.. ذهبت إلى غرفته في رباط مظهر لأنه كان يسكن الرباط كأحد الفقراء قلت له تعال واسمع شكيب أرسلان يرثي شوقي. قال دعني لا أسمع عن تركي ولا عن عربي حارب الثورة العربية.
قلت: أرجوك أن تسمع.. فقرأت عليه ((التائية)) حتى إذا سمع ترنح وقال: أحمد لك أن نزعت ما في صدري من غلٍ على شوقي.. ومن حفوة لشكيب أرسلان وبكى...
أحفظ منها هذا البيت:
كالسيف في إمضائه ووضائه
والليث في وثباته وثباته
وهكذا شوقي... ما زال يتمتع بالحظوة عند الذين يعرفون ماضيهم.. أما الذين يريدون أن يكونوا حاضراً.. لا غيره فذلك شأنهم.
ومرة أخرى أقول إن شوقي قد شع من اللغة العربية ومن التراث العربي، فهو لم يجد الصناعة عن موهبة فحسب، بل أنمى هذه الموهبة بالدراسة.
كنت راجعاً من المعادي وصحبني في الرجوع الأستاذ العلامة كامل الكيلاني، رجعنا من زورة لمحمد سرور الصبان يرحمه الله، وفي الطريق جرى الحديث عن اللغة فقال الكيلاني: اللغة العربية هي الثلاثي، ومن لم يحط علماً بالثلاثي لا يتقن العربية، قلت ومن يتقن الثلاثي في مصر؟ قال ثلاثة. كامل كيلاني وصادق عنبر وشوقي.
(قلت أتعجب) هل يبلغ شوقي مبلغكما في اللغة؟ قال: بل يفوقنا.
وإذا ما نظرنا في شعر شوقي نجد أن قاموسه قاموس.. بحر محيط، لقد تعمد أن ينظم الضادية.
أيها المنتحي بأسوان داراً
كالثريا يريد أن ينقضا
نجد أن الضاد صعبة في النظم، ثم نجد أن لا نَبْوة في القافية، سلاسة ودقة تعبير وارتفاع عن الضحل والغسل، كان شاعراً أعد نفسه، فأعطته الأمة العربية قيمة الصيرورة كأنه ثاني المتنبي، الدهر من رواة قصائده.
وأبت الحظوة أي حسن الحظ أن يطوي حافظ معه في احتفال واحد، بينما حافظ شاعر النيل كان أقرب في أول الأمر إلى الوجدان المصري من شوقي، ولكن طغيان الشهرة لشوقي أحال القربى إلى الوجدان إلى فخار بالشاعر فجاء الفخار تتطوى به القرى حتى أصبح حافظ يعد بعده، واقترحت على بعض أن يجمع ما نشر في مجلة ((السياسة)) عن يوبيل شوقي في كتاب يقتنيه العربي يقرأه الشباب، ولعله لم يفت المحتفلين به أن يفعلوا ذلك، ولعل الذين اقترحت عليهم ذلك أن يفعلوه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :933  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 992 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الرابع - النثر - مقالات منوعة في الفكر والمجتمع: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج