شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من غرينادا إلى لبنان
أن أبدأ بهذا الحوار مع العم (( سام )) لا بد أن أطرح مقدمة عن حديث بين فتى عربي سعودي وبين أمريكي من ولاية أوكلاهوما. كان الفتى السعودي طالباً في الجامعة، وما أحلى الجامعات الأمريكية في القرى، في الريف. خرج من درسه يذهب إلى سكنه، حتى إذا وصل إلى السيارة وفتح الباب نظر إلى الخلف قبل أن يدير المحرك فوجد فتى وفتاة يجلسان في المقعد الخلفي لسيارته، يتناجيان، صديق وصديقه، فرجع الفتى السعودي إلى الوراء يعتذر لهما لأنه عكر عليهما صفو المناجاة. فإذا الفتى الأمريكي يكبر ذلك ينزل من السيارة يصافح الفتى السعودي بحرارة وتحية.
فقال الفتى السعودي: أنا آسف، ما كنت أظنكما داخل السيارة.
فقال الفتى الأمريكي: إنها كانت تستعجل الذهاب إلى قريتها ((بانكا)) إذا سمحت تأخذها إلى قريتها.
وأوصلها الفتى السعودي إلى القرية وعاد معه الفتى الأمريكي، فأصبح كل منهما صديقاً للآخر. وكان الفتى الأمريكي قد نشأه أبوه ((أسبرطيا)) علمه كل أنواع الرياضة، حتى أنه في مرة رحل إلى البرازيل ونزل يسبح في ((الأمازون)) لم يشعر إلا وحنش قد طوقه، فإذا الأسبرطية فيه جعلته يحمل خنجراً يحتزم به، لا يتركه وهو في النهر، فسحب الخنجر، وقطع الحنش ينفك منه.
ودعيت لزيارة الولايات المتحدة إبان الأزمتين، الحرب اليمنية والصواريخ في كوبا في عهد الرئيس كينيدي. فلم أشعر، وكان ذلك في أول أكتوبر عام 1962م، إلا والفتى الأمريكي يدعونا إلى العشاء باسم والديه. كان ذلك يوم احتفالهم بذكرى يوم الشكر، وهم يسمونه عيداً. وذهبنا إلى قرية الأسرة الأمريكية على بعد 30 كلم من قرية الجامعة ((تانكا)) وجلسنا على مائدة العشاء وقد كان العشاء ثريداً عليه ديك رومي، فابتسمت وقلت: هذا طعام الحواريين، أعارته لكم فلسطين، فالثريد عربي. وجاء ذكر المسيح عليه السلام فأوضحت عقيدة الإسلام في عيسى بن مريم، فأكبر الأب الأمريكي ذلك الحديث عن المسيح وقال: ما كنا نعرف ذلك.
والأب من المحاربين القدامى، لا زالت عليه سمة رعاة البقر، أولئك الذين بنوا الولايات المتحدة، وإذا هو يتحدث بمرارة عن فلسطين.
قال: إن الشعب الأمريكي لا ينسى أحداثاً ثلاثة.. حريق شيكاغو، وزلزال سان فرانسيسكو وخسارة ترومان في ((المني فاتورة)) أي أنه كان بزازاً.
قلت: لماذا لا تنسون خسارة ترومان؟
ـ قال لو لم يخسر لما اشترته إسرائيل تستقطبه، يطيح بالعلاقات العربية إلى الوراء من أجل اليهود.
وأردنا الرجوع إلى بيتنا، فإذا هو ينتصب رجلاً طوالاً، ولبس مسدسين، وأخذنا إلى السيارة يسوقها.
قلت: لماذا أنت، ألا يكفي ابنك؟
ـ فقال: أريد أن تصلوا بأمان.
وتزى بالقبعة العالية والياقة المنشاة.
إن هذه الصورة في هذا الحدث الصغير قد تجسدت أمامي في صورة العرب جميعاً وفي معاملتهم للولايات المتحدة. وإنهم كالفتى السعودي مارسوا مع الولايات المتحدة خلق الجنتلمان، فتوطدت على هذا الخلق صداقة. لكن الولايات المتحدة في كل ما مارسته من سياسة بعد الحرب العالمية الثانية قد أجحفت بصداقة العرب، فألقت بعضهم في أحضان الاتحاد السوفياتي. والسبب أن الفتاة أمريكا كانت الصديق والعشيق للفتى اليهودي، يصرفها عن الوفاء للأصدقاء. يكلفها الكثير حتى جرعها سقوط الهيبة. لقد كانت الفتاة أمريكا ((ماشوسية)) وكان الفتى اليهودي سادياً يسلط عليها العذاب، يسلب كل شيء منها وهي راضية، بينما هي في الوقت نفسه تنقلب إلى سادية مع العرب، فإن تلك الازدواجية تتعرض بها أمريكا إلى أكثر من خسارة.
ولنضرب مثلاً آخر هو ما يعنيه العنوان ((من غرينادا إلى لبنان)).
إن القفزة الأمريكية على غرينادا ((غرناطة)) قد انتصرت بها، وهزم الاتحاد السوفياتي، ولكن الاتحاد السوفياتي لا يستعجل العقاب، فقد ابتلع الهزيمة، أخليت غرينادا من كل أصدقائه.
ودعا الفتى اليهودي الفتاة أمريكا إلى أن تمارس غزواً جديداً ينتصر به اليهود على صورة تمثلت في حشد من القوة من البوارج ومشاة البحرية، والرديف من حلفاء أمريكا تحت اسم ((القوات متعددة الجنسيات))، فإذا هي ورطة هزت الشعب الأمريكي. فلبنان وقد احتلت إسرائيل جزءاً كبيراً منه أصبح بين احتلالين، احتلال إسرائيل والاحتلال المقنع لهذه القوات.
واتضح القصد، فلم يكن جلاء إسرائيل عن لبنان، وإنما كان القصد والهدف - كما أذاعوا - إعلان الحرب المقنعة على نفوذ الاتحاد السوفياتي في سوريا، ولكن سوريا لم ترضخ، أوضحت لهذه القوات ولأمريكا بالذات أنها تستطيع المقاومة، كما أوضحت طوائف لبنانية ترفض الاحتلال أنها قد استطاعت المقاومة، فأحرجت الولايات المتحدة حتى اضطرت إلى الانسحاب.
ومن هنا يتضح أن الاتحاد السوفياتي قد انتقم لاحتلال غرينادا، فسوريا غير غرينادا.
إن الولايات المتحدة كان في إمكانها أن تحدث الهزيمة للاتحاد السوفياتي، وأن تأخذ من سوريا صداقة جيدة، لو أنها حين دخلت لبنان ضغطت على إسرائيل لتنسحب من كل لبنان، ولكنها لم تفعل. ذلك لأن الفتى اليهودي ما زال سادياً. ولو أن الولايات المتحدة لم تظهر بمظهر المدافع عن فئة واحدة في لبنان لاستطاعت أن ترى الوحدة اللبنانية حين تكون الولايات المتحدة نصيراً للبنانيين جميعاً. ولكن الولايات المتحدة ما زالت تعيد موقفها في أواخر الخمسينات مع بيروت الشرقية ضد الغربية، مع من ينتمون إلى بيروت الشرقية في الجبل ضد الذين ينتمون إلى بيروت الغربية من سكان الجبل.
وبدأت القوات متعددة الجنسيات تنسحب من لبنان، وتركت إسرائيل تحتل لبنان، وتركت الانشقاق في لبنان، فصح اتهام رئيس جمهورية إيطاليا أن كل ما فعلته أمريكا هو العون لإسرائيل.
إن ما جرى لا أقول إنه قلب الموازين، وإنما قد اعتدل به الميزان. ومن المؤسف حقاً أن الولايات المتحدة هي التي تعطي للاتحاد السوفياتي موطئ قدم.
والخشية كل الخشية إذا ما استمر الموقف الأمريكي يرضخ لما يفعله الفتى السادي. فإن بعض العرب قد يغريهم موقف الاتحاد السوفياتي بالإطاحة بكل ما بينهم وبين الولايات المتحدة من علاقات.
إن ما حدث وقتيّ، فلا زال الزمن مع الولايات المتحدة إذا ما اعتدلت وسمعت الصوت الإنساني، ليس في آسيا وإفريقيا، وإنما في أوروبا الغربية أيضاً، يدعو الولايات المتحدة أن لا يفوتها بعوامل الوقت انتصارها في الزمن حين تلزم إسرائيل بالانسحاب من لبنان، وبالخضوع إلى المفاوضات. فالولايات المتحدة ملزمة بنزعة الديمقراطية بتنفيذ قرارات مجلس الأمن.
ولا يفوتني أن أضع هذه الإشارة. فقد قالوا إن فرنسا أرادت أن تمارس دور الأم الحنون كما هو شأنها من قبل. وإيطاليا أرادت أن ترضي الفاتيكان يحن إلى حماية رعاياها. أما بريطانيا فالطاعة لأمريكا. وأما أمريكا فالخضوع لنزعة السادية وطاعة الماشوسية.
مستضعفون لا ضعفاء
والكاتب إذا ما كان صاحب موهبة فلا بد له من أن يكون محترفاً.. يعني أن يغترف من الموهبة ليحترف التصنيع لها أو بها أو منها.. فلا احتراف بدون موهبة ولا نماء للموهبة إلا بالاحتراف.. وليس ذلك ما أحسبه كل الصواب عند غيري وإنما أجدني لا أعدو الصواب فيما قصدت إليه..
وأخذت أحترف.. كأنما كنت أمنح من الموهبة لأكتب.. ثم إن الموهبة والاحتراف تحركهما عصارة الأحلام التي يتجسد بها الخيال.. فلا غنى للكاتب عن الموهبة والاحتراف والأحلام..
وبدأت أجتر خبراً بعد خبر.. رؤية مكان رؤية، فإذا بي أتذكر حكاية ثلاثة من الضعفاء انتقموا من رجال أقوياء كانوا بطاشين.. سلطوا هيبتهم على الضعفاء.. كل واحد منهم بطش برجل وضعه في سرير المرضى من كسور تحت الجبيرة.
ولكل واحد من هؤلاء الذين بطش بهم أخ بلغ من الضعف نهايته.. كل منهم قزم.. واحد أقرع والآخر أعور.. والثالث أعرج.. ولكن الضعف فيهم لم يعجزهم عن الانتقام.. فبطشوا بالبطاشين، فما نجا من بطشهم واحد.. كلهم وسدوهم الفراش.. كلهم رحلوا بهم إلى المقبرة..
إن تفصيل ذلك بعد.. لكني وأنا أجتر أفكر في قوة الضعيف وضعف القوي فإذا بي بين عنوانين.. الأول المشهور هو: ويل للضعفاء من الأقوياء.. والثاني الذي أرجحه هو ويل للأقوياء من الضعفاء..
وتذكرت بلاغة القرآن فإذا بي أترك الضعفاء وآخذ من بيان القرآن البديل فأقول المستضعفون..
تمعنوا في هذا البيان القرآني.. لا يسمى السابقين الأولين من أمثال بلال وعمار وخباب ومن إليهم الضعفاء.. وإنما أطلق عليهم أنهم المستضعفون..
من هذه المقارنة يتضح الفرق بين الضعيف والمستضعف لأن المستضعف قوي.. إن لم يكن قوة المادة وشرف النسب وعلو الحسب.. والبسطة في الجسم فإن هناك قوة أكبر هي قوة الإيمان.. قوة الصبر.. قوة الاحتقار بالحياة والفخار بالموت في سبيل المبادئ.
فلن تجد كلمة في السيرة تطلق على هؤلاء السابقين بأنهم الضعفاء وإنما هم المستضعفون.. وذوقوا معي هذا البيان في الآية الكريمة:
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (القصص: 5).
لو تركت الاجترار إلى النظرة العابرة فلا تجدني أفرق بين الضعيف والمستضعف ولكن إمعان النظر.. وتدقيق الفكر.. فهما أول الأمر وفقها آخر الأمر.. فهناك فرق بين الفهم والفقه: فالفهم معرفة مجردة.. والفقه فهم ومعرفة وعلم..
إن العرب اليوم ليسوا ضعفاء.. ولكنهم استضعفوا أنفسهم بالفرقة فأصبحوا المستضعفين.. من هنا أفقه ما عناه الدكتور العميد طه حسين حين قال - رحمه الله - قد أخطئ نحواً أو صرفاً ولكني لا أبيح لنفسي أن أخطئ في مفهوم اللغة.. لفظاً مكان لفظ.. كلمة مكان كلمة..
ولكي أوضح ما فهمته من الدكتور طه هو ما يتضح بالتعامل مع المترادفات. ولعلّ ((الزجّاج)) الإمام أو ((ابن السراج)) إذا ما خانتني الحافظة وكما ظهر في المزهر للسيوطي هما السابقان أو أحدهما إلى أن المترادفات ليست بمعنى متحد.. فجاء.. وقدم.. وأتى.. وحضر.. وآب.. وأقبل: ليست بمعنى واحد يسطع منه البيان.
قدم: من سفر إلى أي مكان.
آب: من سفر إلى موطنه.
حضر: بعد طلب.
أقبل: بعد نداء.
فلو قلنا مثلاً: زيد قدم إلى جدة من الرياض فذلك بيان.. أما إن قلنا جاء إلى جدة من الرياض فقد تجاوزنا وزن الدقة في التعبير.. وما دام أن موطن زيد هو الرياض فلا نقول قدم إلى الرياض وإنما نقول آب إلى الرياض.. حتى كلمة عاد فلا تدل على أن الرياض موطنه وإنما هي الأوبة.. وحتى رجع فإنها كعاد..
إن هذا كله فيما تقدم قد ذكرني بالحملة الفاسقة التي زعموا أن المترادفات لا تدل على حضارة وإنما هي لهجات قبائل تعاملت الأمة العربية بها حين تحضرت..
إن الحقيقة هي أن هذه المتردافات تدل على سعة اللغة العربية ودقة التعبير البياني وترف الذوق ولن يكون ذلك إلا نزعة من حضارة أو حضارة توطدت أركانها بهذه النزعات..
إن اللغة العربية التي اتسعت بالمترادفات قد اتسعت أيضاً بالاشتقاق والتعريب والمجاز.. فخير للكاتب أن يذوق الكلمة ليضعها في مكانها..
إن المستضعفين غير الضعفاء، فعندما ملك المستضعفون الأقوياء بإيمانهم القوة المادية بالجهاد قتلوا الصناديد وأسروا الأبطال فانتشرت الهادية..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :780  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 959 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.