شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مع الرئيس جعفر محمد النميري
ـ وادخر لي الصديق الأستاذ عبد الله عبد الرحمن جفري المقال! كتبه الرئيس جعفر محمد النميري ونشره في جريدة (( الأخبار )) المصرية في أواخر شهر رمضان 1403هـ وما أحسب الجفري إلا أنه أراد وبحسن الظن منه أن أكون أهلاً احتفي بالمقال موضوعاً وأسلوباً..
ووجدتني أستقرؤه فإذا الموضوع يستأهل الحفاوة ولكن الأسلوب هو الذي أخذني أصفق له، وليس ذلك جفوة للموضوع وإنما هي الصفوة مع الأسلوب، فقد قالوا الأسلوب هو الرجل، ثم إن الموضوع أي موضوع، تصوير لحدث أو استنارة من فكر، وذلك مشاع، أما الأسلوب فما اقل الذين تطرب لأسلوبهم، وهكذا كنت مع النميري أسلوباً..
فالرئيس قد أعطى اللغة الشاعرة رئاسة السؤدد في السودان، وليس ذلك بالكثير على الأعراق العربية وما أكثرها في السودان، حتى أن نسبة العرق العربي الذي ما زال قبليًّا لم تمح أسماء القبيلة عنه، بل هم الفاخرون بهذا الانتساب، فالعرق العربي قد وصل إلى نسبة كبيرة تتوازى أو تتساوى مع أقاليم عربية لا ينكر أحد عليها أن تكون ذات النسبة الكاثرة في أعراقها العربية.
فالعرب في السودان أعراق، والعروبة لمن التف حولهم استعراق.
إن أسلوب النميري سأتحدث عنه بعد أن أتناول طرفاً من الموضوع، لأني لا أريد أن أستكثر عليه حمده لنعمة من الله عليه بها إذ أنقذ ياسر عرفات مرتين، فذلك موضوع معروف، سوف لا أتعرض لذلك لأني سأستعرض ما أشرح به إنقاذ السودان لمصر مرتين فهكذا تعودنا من السودان أن يكون منقذاً..
ولكن.. كيف أنقذ السودان مصر مرتين..؟
يتضح ذلك فيما يلي..
ـ أولاً: وكانت مصر أحد ميادين الحرب في الحرب العالمية الثانية.. كل خيراتها كل مصيرها، والكثير من عمالها والنمير من مائها وما إلى ذلك كان عوناً للحرب خاضها الحلفاء ضد المحور، ويعني ذلك أنهم كانوا - أعني المصريين - في صف البريطانيين.
لقد كانت مصر ميداناً للحرب وحجزوها أن تكون معلنة للحرب، زعماؤها أطلقوا شعاراً ((تجنيب مصر ويلات الحرب)) لا زعيم واحد، فقد دعا لدخولها الحرب، فعصاه الزعماء وجفاه الإنجليز، فلو أن مصر دخلت الحرب لجندت كتيبة أو كتيبتين بالسلاح كما جندوا كتيبة إسرائيلية، لو أن مصر فعلت ذلك لما كانت هزيمة العرب سنة 1948م.
ـ ثانياً: وبينما الحرب مشتعلة وضعت بريطانيا وزيراً من وزرائها في مصر كضابط اتصال بين السفارة والجيش من ناحية أخرى، ليكون كل الوضع في يده ممثلاً لمجلس الوزراء، واسم هذا الوزير ((لورد موين)).
وخطط اليهود أن يضعوا مصر في مشكلة مع بريطانيا تكون أشد من المشكلة التي أمسكت بها بريطانيا فأصدرت أوامرها على مصر تدفع ضريبة وتسقط سعد زغلول ويجلو الجيش المصري عن السودان.
كان ذلك حين اغتال البريطانيون السردار، فأخذ اليهود هذا الوضع السابق ليضعوا مصر في وضع يماثله، فإذا يهوديان ((إلياهو حكيم)) وآخر يتربصان اللورد موين فاغتالاه.
فلقد ظن اليهود أن اغتيال لورد موين ستقسو بسببه بريطانيا على مصر قسوة شديدة، تتهم رجالاً وتصدر أوامر على صورة أشد مما فعلت يوم قتل السردار، فإن الوضع في الحرب كحياة أو موت يبيح لها ذلك.
ـ ثالثاً: ولكن، وبفضل من الله على مصر، شاهد مجند سوداني اليهوديين المغتالين فأمسك بهما، فإذا مصر تنجو من مؤامرة اليهود، بينما اليهود وقد ظهر القاتلان منهم لم تحرك بريطانيا ساكناً ضد اليهود، وليس في ذلك تناقض وإنما هي سياسة بريطانيا مع اليهود على طول الخط وليست مع العرب إلا في ظاهر التخطيط إذا ما دعت مصالحها لذلك..
ـ رابعاً: أما المرة الثانية التي أنقذ السودان فيها مصر فهو موقف ابن السودان ((ولد النجومي)) الضابط قائد الحرس الملكي لحماية القصر في الإسكندرية ومن هو؟
هو عبد الله النجومي.
فلقد قاد زكريا محي الدين جيش الثورة يحاصر القصر، يطلب من الملك التنازل عن العرش، فوقف النجومي موقف ابن النيل لحماية النيل.
فلم يأمر بإطلاق قنبلة من مدفع أو رصاصة من بندقية، فإنه لو فعل ذلك لرد عليه زكريا محي الدين ولكانت معركة دموية قد ينهدم بها القصر ويهلك الملك وتقتل الثورة في حينها، أو توصم بالثورة الدموية، فقد أعطى النجومي الشعار النظيف للثورة بأنها ثورة بيضاء ولو قامت المعركة فلربما يتحرك جيش الاحتلال لإجهاض الثورة، وتسفك الدماء، فتكون النكسة مثل نكسة عرابي.
فعبد الله النجومي أنقذ مصر والثورة والملك وحال دون جيش الاحتلال.
ـ خامساً: وماذا جرى لعبد الله النجومي؟
كان من حقه أن يحمد له هذا الموقف، ولكن من حقه أن ينشد بيت أبي فراس:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسداد ثغر
فلقد رأيته في مكة يلبس سترة وبنطلوناً من خلق ملوّن كأنه رقع رأيته في أحد مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي، وكنت جالساً والملك فيصل ينتظر افتتاح المؤتمر، فإذا عبد الله عريف، يرحمه الله، يمسك بي، يهزني من الخلف: أنظر: فهذا عبد الله النجومي!
وكان عريف على علم بتقديري لموقف النجومي، فقمت أصافحه وأحييه، ولم أره بعد ذلك، ولعلّ الكبار عندنا قد أكرموا عزيز قوم ذل..
وهكذا السودان أنقذ مصر مرتين..
وقد استعرضت الأسلوب أسمعه، فوجدتني أقول للصديق وهو يقرأ لي.. إن هذا الأسلوب نزع به إلى عرق فدعني أنتزع الوصف من واقع الذي كان من قبل، جرى به بيان على لسان الذين كانوا من صناع البيان.
ويحسن بي أن أجعل ذلك كما يلي، كظلال لخلفيات إن احتفت بالأسلوب فإنها لا تجفو الموضوع.
ـ أولاً: كأنما الرئيس النميري قد نزع إلى كلمة علي باشا شعراوي يوم قابل شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي باشا وسعد باشا السفير البريطاني في يوم 13 نوفمبر في أوائل العشرينات الميلادية، يطالبونه بالاستقلال، وفي خلال الحوار معه قال السفير البريطاني ((سير وينغت)).
((إن مصر كانت تابعة للدولة العثمانية، فماذا يضيرها أن تكون تابعة لبريطانيا؟)).
فانتفض العرق الحميري في علي شعراوي يقول له: ((قد أكون عبداً للسير وينغت، أو عبداً للجعلي، ولكن كل العبودية أرفضها)).
ولقد ظننت يوم كنت أجهل ماذا تعنيه النسبة للجعلى، حسبته يذكر النسبة للجعل، أي الجعران الذي آلهته مصر في جاهليتها الأولى.. غير أني عرفت بعد أنه أراد النسبة إلى ((الجعليين)) قبيلة كبرى في السودان جاء اسمها من قولهم ((قد جعلناكم منا)).
ـ ثانياً: والأسلوب البياني قد يفعل بالكلمة الواحدة أكثر مما تفعله المقالات الطوال افتراه قد أنتزع إلى عبد العزيز فهمي حين أرجف بالسراي بكلمة هي: ((حنانيك يا نشأت)) فاسقط نشأت من سلطانه المتغطرس..
ـ ثالثاً: أم هو قد قال لنا التوضيح حينما اختزن كلمة سعد ((خسرنا المعاهدة وكسبنا صداقة الإنجليز))، ليقول لنا في تحوير عن هذه الكلمة وتدوير لها على الواقع، ((لقد خسرنا فلسطين، وكسبنا صداقة الإمبراطوريات والسوق المشتركة.. لقد خسرنا لبنان لنكسب خسارة أكبر هي في الشقاق والفرقة.. لقد خسرنا التضامن لتكسب إسرائيل كل ما تريد)).
ذلك ما ذقته من مقال النميري، ولا شيء عندي غير أن أذوق حلواً ومراً، والليالي من الزمان حبالى!!
والكلمة الأخيرة عن هذا المقال، قاله المعجبون به، فالذين تواضعوا، أطلقوا عليه ((مقال السنة)) وأما الذين زاد إعجابهم به.. فقد أطلقوا عليه مقال السنوات بعد العبور..
يرون فيه العبرات الجافة، والعبر من خلال التعبير، بالأسلوب البياني.
ـ صورة
الذين يملكون قوتهم الذاتية بالزعامة الصادقة والقاعدة الملتفة حولها، لا يتوقحون، أما الذين يستمدون قوتهم من ساداتهم، فهم الذين يتبجحون بالوقاحة ويتوقعون حتى على شعوبهم..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :639  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 911 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.