شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبد الوهاب آشي.. والذكريات
أهم خط جديد اقتحم الخطوة الأولى في إغرائنا به الأستاذ عزيز ضياء لنكتب عن الأحياء. فذلك خير من أن نتأخر ونحن العارفين به أن لا نترجم له. فقد ضاع الكثير من تراجم الأكبرين الذين كانوا هنا وكنا بهم نحن اليوم هنا.
فالأستاذ أبو إبراهيم عبد الوهاب آشي يستأهل أن يكون في عاطفة الذكريات يحيا بها الذكر والتذكير للذين إذا سألوا عنه وعن أمثاله أن يجدوا بعض المعرفة عنه من خلال التعريف به.
ولعلّ ما أعجلني أن أكتب عنه اليوم هو وجوده الآن بين أهله وإخوانه. فقد تلفن إليّ الأستاذ عبد المجيد شبكشي يخبرني عن قدومه إلى جدة ويدعوني لتناول الغذاء معه فسرني الخبر اعتزمت به أن أكتب به عنه وإن حجبني عن اللقاء به ما تعودته من أني لا أتناول الغذاء إلا في بيتي، ويعرف ذلك كل أصدقائي، فحين كنت أقوى على رفض العادة هذه ما كنت إلا أكثر قوة أن تقودني إلى الاعتذار، فكيف بي الآن؟
وكنا في المدينة نتشوق بعد أن قرأنا (أدب الحجاز) و(المعرض) و(خواطر مصرحه) إلى الذين كتبوا النثر ونظموا الشعر. فما زار واحد منهم المدينة المنورة إلا وسبقت إليه بالتحية واستمتعت بالتعارف وليس أولهم محمد سرور الصبان، يرحمه الله؛ وليس آخرهم أحمد السباعي، حفظه الله.
وفي عام 1348 هجرية قدم إلى المدينة الأستاذ عبد الوهاب آشي ونزل كعادته في بيت الشيخ حمزة رجب والد تلميذي وأستاذي الذي علمته ألف باء وعلمني ألف لام ميم الأستاذ ضياء الدين رجب، يرحمه الله.
وكان بيت رجب في مواجهة المدرسة السعودية التي أنا أستاذ فيها فلم يفتني يوم إلا وقد حظيت بالتحدث إلى الأستاذ الآشي، فبيت رجب قريب مرتين. مرة ينعدم فيها البعد من طول مسافة والمرة الثانية قد تأصل فيها القرب من ناحية الصداقة بيني وبين ضياء الدين رجب. فأعجب لأستاذ يصبح صديقاً لتلميذ كان إذا عاد من المدرسة يدخل من سدة الباب ينسرب انسراباً من السبب يتخفى لكي لا نراه.
وقويت أواصر الصداقة بيني وبين عبد الوهاب، ولم يكن العطاء مني. بل كان الأخذ من عطائه. عطاء إنسان نظيف الخلق لا نشعر معه بالتصنع ولا يحترف الزيف ولا يقترف المعابثة على أحد.
الوفاء سجية فيه وأدب السماع عنده شغف إلى المعرفة، لعلّ كل ذلك عرفناه بعض من أخلاق هذا البيت. بيت الآشي. فلا أجدني قد سمعت من واحد منهم ما يوحش فقد كان هذا البيت يمثل الأرستقراطية المتواضعة. كبرياء يزيده التواضع، فبعض الذين يفتقرون إلى شيء من الكبرياء يحترفون التكبر ويقترفون التعالي فإذا هم يعيشون الجفوة في أنفسهم ومن الذين لا يقادون بالتكبر والعجرفة.
وفي يوم من الأيام، زار أستاذنا الشيخ عبد القدوس الأنصاري ضيف المدينة عبد الوهاب آشي فإذا بينهما حوار يمتد عن النص في هذا البيت من شعر بشار بن برد:
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي قوة للقواقي
فأنكر الشيخ عبد القدوس هذا النص: فقال هو هكذا: فريش الخوافي قوة للقوافي فإذا الأستاذ عبد الوهاب آشي يقول: وهناك رواية هذا نصها: ما كان الخوافي فيه قوة للقواقي.
واشتد الجدل فكتب الأستاذ الآشي يؤيد رأيه. وكتب الأستاذ الأنصاري يؤيد رأيه. ولعلّي احتفظت بما كتبا وقد ضاع من مكتبتي الأولى. ولكن الأستاذين ظلا صديقين.
ويقودنا الشوق إلى معرفة أخواننا في مكة وفي جدة إلى أن عرفت أول ما عرفت ومن الأستاذ الآشي من هو حسين سرحان. ومن هو حمزة شحاته. وما كنت قد سمعت عنهم وكان تعريفه ثناءً عاطراً عليهما. وإكباراً منه لهما حتى قال عن تعريف السرحان: لا أعرف أحداً يطيق الخصومة معه، فأكثرنا يتجنب الاحتكاك به فهو وحمزة شحاته في هذه سواء. ما أكثر ما قرأ وقد امتاز بالحضور، ذلك أنهما يستطيعان الهضم والتمثيل والتعليم إلا أن هناك فرقاً بينهما، فحسين سرحان سهل المعايشة صعب الخصومة، أما حمزة شحاته فما أصعب أن تعاشره وما أصعب أن تخاصمه. فهو كما وصفته أنا له بعد حين كنا خليطين في مكة، حمزة شحاته كالوردة شمها ولا تضمها.
وزاملته موظفاً في وزارة المالية. هو رئيس ديوان وأنا موظف في قسم الأوراق وسكرتير للمجلس المالي فلم يكن الكبير علي وكان الأثير عندي.
وإذا أردت أن تعرف قيمة إنسان حضاري فينبغي أن تطمئن إلى سلوكه معك ومع الآخرين. ويزيدك يقيناً أن لا تراه إلا نظيف الثياب. حتى إذا أردت عين اليقين ينبغي أن تنظر إلى مائدته - فإن وجدت القصد والفروق والاحتفال بالضيف والأكل المستطاب فإنك حينذاك تتأصل لديك أن صاحبك هذا عظامي حضاري ولو كان يعيش الكفاف، فالحضارة ليست ثروة جيب وإنما هي ثراء وجدان. ويعيبون على عبد الوهاب أنه لم يوارث صناعة الثراء للجيب حتى عده بعضهم من الخاملين. وما دروا أنهم الآن يعيشون الخمول ويعيش عبد الوهاب الفوق.
وعرفت عن الأستاذ حمزة شحاته القيمة الكبيرة التي لعبد الوهاب لديه. فقد تلسن حمزة على كثيرين نقداً وتجريحاً. ولكنه مع عبد الوهاب آشي لا ينطلق لسانه إلا بالثناء، فلماذا؟
ليس لأنه الأديب الشاعر. وليس لأنه المكي مثله وإنما لأنه كما يقول كان رجلاً لبس كل الرجولة وقلت له وأين. قال كنا في سجن واحد. ونحن كثب، فإذا الذين كنا نشعر بعزامتهم وطول ألسنتهم قد خارت عزائمهم أما عبد الوهاب آشي فكان العزيمة لنفسه. والعزيمة لنا جميعاً، فهذا الرجل القصير كان طويل الباع. فقد كنا في السجن لا نملك شيئاً من المال. وكانت لنا حاجات خارج نطاق ما يقدم لنا في السجن، فإذا عبد الوهاب آشي هو الذي يشتريها من جنيهات ذهباً قد تكون أكثر من ستة صرفها كلها في قضاء حاجاتنا التي تعودنا عليها.
وفي يوم من الأيام مرض بعضنا فكان عبد الوهاب آشي الممرض يغسل ثياب المرضى حتى أنه قد صبر وصابر على بعض ما يغثي النفوس.
تلك قيمة الآشي الأديب مرتين: أدب الاحتراف - وأدب السلوك - والشاعر مرتين: شعر الاحتراف والموهبة. وشعر الوجدان لكرامة الناس بل لعلّ ذلك من شعره نحو نفسه. إنساناً نظيفاً يستأهل كل ثناء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :727  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 899 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.