شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيهما زرياب؟
سيد درويش أم محمد عبد الوهاب
وهذا العنوان: أيهما (( زرياب )) ؟ يملك القارئ أن يظن به الظنون، يحسب أن وراءه غرضاً مخبأ. ولكي أنتزع الريبة، خطرت على بال قارئ، ينبغي أن أوضح الغرض النظيف من هذا العنوان. إن الأمر ليس مقارنة بين صوت وصوت، وأداء وأداء، أو عن البراعة في الفن، أو عن الروعة في اختيار الكلام.. فالأمر غير ذلك، إنها المقارنة بين التأثير دون أثر سجل في تاريخ (( زرياب )) ، وبين التأثير والأثر، وقد سجلا في صفحات تاريخنا الحديث لسيد درويش ولمحمد عبد الوهاب فكيف كان ذلك؟
الإِجابة نستقرئها من التاريخ، ليكون الفقه هو العطاء.
لقد كانت أمة العرب أهل غناء: يحدون الإِبل، يعرفون الدف والمزمار والربابة و((الدربكة))، تدرجت هذه المعرفة فإذا العرب شعب يغني، والبرهان على ذلك اللغة، فإن لها حرساً ورنيناً إذا ما تكلم ذو بيان أطرب حين يلقي الكلمة، تسمعها أذن، تفهم بيانها وترتاح لتبيانها، لكن العربي منذ كان يغني في الجاهلية.. كان من عطاء لغته ذات الجرس والرنين أن منحته التفوق في الأداء، فهو إن لم يكن غناء فهو الكلمة شعراً على وزن وقافية، فشعر الجاهليين برهان على أن العرب شعب يغني، وليست البراعة من ((الخليل بن أحمد)) أن حصر أوزان الشعر، ولكن الإبداع والروعة التي أعطت العربي أن ينظم شعراً محصوراً في هذه الأوزان، فالخليل لم يقنن وإنما استقرئ وفقه، وإنما اللغة الشاعرة صنعت قانونها في هذه البحور وتعددت أوزانها وتناسقت تفاعيلها.
فقارئ الشعر الحصيفُ، إذا ما أنشد شعراً على غير وزن، ولو في كلمة، فإنه يعرف من الجرس أن ما أنشده فيه خطأ.
هكذا كان وضع الأمة العربية في جزيرتها وما حولها: غناء بلا تقنين ولا قانون، وبعد عصر الخلفاء واتساع الأرض المسلمة، والترف: ثراء وفكراً وانتشار من يسمونهم الموالي، واقتناء القيان، قد أحدث القانون والتقنين للغناء العربي، فنبغ المغنون: عزة الميلاء، معبد، طويس، بن سريج، كان المكان في العقيق، أعني في المدينة المنورة، حتى إذا برزت بغداد ثم التقنين والقانون للغناء العربي أخذاً من السلم الفارسي، على يد المغنين والقيان في بغداد، وكانت الشهرة لإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وبرزت الظاهرة الجديدة حين تم لـ ((زرياب)) أن يفقه القانون والتقنين، فكل هؤلاء الذين ذكرناهم لم يبق لهم أثر، ولم يحفظ التراث لهم تأثيراً، إن هي إلا أسماء سجلها التاريخ، غير أن ((زرياب)) حين أبعدوه عن العراق وحين أبعدوه مرة أخرى عن القيروان.. إذا هو الداخل الثاني إلى الأندلس، فصقر قريش، الداخل الأول، أسس الدولة وأرسى دعائم الحضارة. والداخل الثاني، هذا الإفريقي ((علي بن نافع أبو الحسن))، الرقيق، حين وصل للأندلس، قد أدخل على الأندلس حضارة، ليست في الغناء وحسب، وإنما في أنواع أخرى، فإذا في الأندلس موسيقار الأمة العربية الأولى ((زرياب)) إن لم يبق له أثر حيث لم نسمع صوتاً له، وإنما هو الأول الذي بقي له التأثير، فشطر الأمة العربية في (أفريقيا) أعني شمال أفريقيا، مازال متأثراً به. من هنا قال أستاذنا محمد عبد القادر الكيلاني، التونسي المصري التركي اليوناني المديني: (نحن في تونس ورثنا حضارة الأندلس)، قلت له: (والبرهان على ذلك ((زرياب)))!
* * *
أما سيد درويش فقد بقي له التأثير والأثر وإن انحصر أول الأمر مصريًّا.
ومحمد عبد الوهاب مازال له التأثير والأثر، شرق السويس وغرب السويس، أعني في كل أذن عربية، سواء كان صاحبها ساكن القصر وساكن الكوخ أو بيت الشعر.
إن محمد عبد الوهاب في مراحله الأولى كان هو التأثير والأثر، يوم كان يغني الشعر الجيد لشوقي، وبشار، وأحمد فتحي، وعلي محمود طه، إن أغانيه الجديدة لن تصمد في سجل التاريخ، وإن كان لها بعض الامتداد للتأثير والأثر، أما أغانيه في المراحل الأولى فما تزال ولن تزول، ما تزال ثابتة التأثير راسخة الأثر.
إن شوقي لم يحتكر محمد عبد الوهاب، وإنما هو ولا شك قد ابتكره!
ففي عهد شوقي غنى لغيره ولكن محمد عبد الوهاب وبسلطان السينما كان له طور جديد لا يبلغ تأثيره ولا أثره مبلغ القديم منه، فلئن كان هذا الموسيقار العظيم، فإنه، وقد أراد أن يحتكر حسين السيد، فاحتكره حسين السيد! ولقد تخابث ((أحمد رجب)) فعدَّد الأغنيات التي لا تخلو من لفظ البيع والشراء، لأن الشاعر حسين السيد، يرحمه الله، كان صاحب صنعة هي البيع والشراء.
ولا ننسى أم كلثوم، فهي كما قال أحدهم: ((إن أم كلثوم داعية الجامعة العربية: يختلف الزعماء ولكن الشعوب تأتلف على صوت أم كلثوم)) فهي بعظمة الأداء لها الأثر أكثر من التأثير، وأعني بالتأثير البقاء لسلطان الموسيقى، يحتذى ليكون القانون والتقنين.. فأم كلثوم الطرب، وخير ما فعلت أنها لم تطرد الشعر الجيد.
قلت مرة لرياض السنباطي، يرحمه الله: إن أم كلثوم تصورت أنها تحتكرك ملحناً عظيماً، بينما الواقع أنك أنت احتكرتها، فالجوهرة لا يحتكرها مالكها، من حيث تأثيرها، وإنما هي التي تحتكره.. مستعبداً لها!
ومحمد عبد الوهاب - مرة أخرى - كصاحب تأثير.. كان هو القصيدة العصماء في ديوان شوقي، ما نظمها ((أحمد شوقي)) وإنما هو انتظمها، فإذا صوت هذا الموسيقار حين غنى بشعر شوقي أصبح خط الدفاع الأول عن الشاعر، فانتصر شوقي به، فالخصوم ألقوا أسلحتهم أمام الخط الأول: محمد عبد الوهاب!
فإذا كان ((شوقي)) قد ابتكر، فإن محمد عبد الوهاب هو الذي انتصر!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :617  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 891 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.