بين انفراد الزعامة وانشطارها |
هل في استطاعتي أن أرزأ التاريخ، ونحن نعيش اليوم أرزاءه؟ |
نعم.. سأستطيع، لأن الصدق مع التاريخ، والصداقة للأمة العربية يبيحان لي أن لا أخسر الصداقة والصدق، فالأمة العربية لا أستطيع أن أقول إنها تعيش الآن بين الشهوة من زعيم يريد الانفراد بالزعامة، وفي الوقت نفسه يحارب انشطار الزعامة، فالانفرادية معناها السلطان المفروض منه، وانشطار الزعامة عامل يحول دون أن يكون إمبراطوراً. |
فالأمة العربية تعيش هذه الأزمة الآن، ومن الغفلة أو التغافل أن نضع تبعة هذه الأرزاء على أجنبي مستعمر أو استقطب أو مارس الطغيان، فالأرزاء.. العربي صانعها لنفسه.. أليس هذا بالجديد، فمن فجر التاريخ إلى عصر هذا التاريخ عاشت الأمة العربية، شعوباً تارة تحت سلطان الزعامات، وقبائل تارة تحت الرضوخ إلى التزعم. |
فهل أجد مؤرخاً يعطيني أن الشعوب العربية عادية وثمودية وكنعانية وفينيقية وآرامية وكلدانية قد عاشت أمة واحدة تحت ظل وحدة واحدة.. تسير مسيرة واحدة متحدة المطامع والمشاعر والأهداف؟ |
إني أستطيع أن أقول: ذلك لم يتحقق إلا في حالة واحدة لم تدم إلا أربعين عاماً في ظل الإسلام، فالإسلام بقيادة النبي محمد صلَّى الله عليه وسلم ثم الخليفتين أبي بكر وعمر قد وحدا الأمة العربية على مبدأ واحد، وعقيدة واحدة، وتحت سلطان واحد.. حتى إذا.. كسر الباب وظهرت الفتنة انشطرت الأمة العربية تقودها الفتن.. لم تكن باسم القبيلة أو الأمر وإنما كانت باسم المذهبية. |
وحتى في عهد إمبراطورية (أمية) لم يذق سلطانها الراحة من الخوارج كمذهب. ومن الصراع بين النزارية والقحطانية، وكذلك العباسيين، فقد انشطرت الأمة.. شطر في بغداد وشطر في قرطبة. |
وهكذا نام التاريخ، ليصحو على وضعنا الآن. ولأضرب أمثلة: فحين استطاع جمال عبد الناصر أن يقود الزعامة العربية في مصر.. صفق - أول ما صفق - لعبد الكريم قاسم، ولكن انفراديته بالزعامة حاربت انشطار الزعامة، فقد بلغ عبد الكريم قاسم إلى مكانة الزعيم، فإذا دمشق تخشاه أعني عبد الكريم قاسم - وبصراحة دمشق وبغداد ما زالتا تحملان أثقال الخصومة، فالوحدة بين دمشق والقاهرة.. زعموا أن ظاهرة الأمر منها هو إعداد القوة - قوة مصر والشام -.. لمواجهة إسرائيل، بينما إن الخفية في يقيني هي خشية دمشق من بغداد. حين ضعف أمر عبد الكريم قاسم انحلت الوحدة بين دمشق والقاهرة، وقد قلت كلمة في مجمع من المصريين في القاهرة: إن الوحدة العربية غاية وهدف وضرورة، ولكن الخطأ في الوحدة بين دمشق والقاهرة هو السباق مع الزمن، فالوقت كان ضدها، أما الانفصال فقد كان جريمة.. لعلّ السبب فيه هو انفراد الزعامة، ولعلّ الحافز إليه السعي بإلحاح لإقصاء الانفرادية ولقتل أي زعامة تنشطر عن الزعامة الكبرى. |
وهكذا.. فالوحدة لم تعد ذات موضوع بعد الانفصال، وكل محاولة للوحدة كانت تسخيراً من الراغبين في انفراد الزعامة، ثم صارت سخرية من الذين رغبوا فيها أول الأمر، ثم رهبوا منها تالي الأمر. |
والاتحاد.. ظن الراغبون فيه أنه سيكون بديلاً عن الوحدة على صورة من التراضي.. يسقطون به إعلان الانفرادية. |
فالاتحاد بين أنور السادات والقذافي وحافظ الأسد لم يدم إلا وقتاً محدوداً حين استنفد أنور السادات أغراضه منه، وحين تباعد الآخران بعض الوقت عن توطيد الاتحاد. فكيف استغله الرئيس أنور السادات؟ |
كان ذلك حين أصر عليه مستغلاً أن خصومه داخل الاتحاد الاشتراكي واللجنة المركزية ضد هذا الاتحاد، فقد كان انفصال الوحدة درساً قاسياً لمصر، فأصر أنور السادات، وبقوة هذا الاتحاد استطاع أن ينتصر على خصومه لأن الرأي العام في شعوب الاتحاد وفي غيره كان قوة لأنور السادات. |
ومن ناحية أخرى، فإن خصومه - كعلي صبري مثلاً - كان صديقاً للاتحاد السوفيتي، ولعلّه كان يعتمد على دفاع الاتحاد السوفيتي عنه لينصره على أنور السادات، ولكن المصادفة أو التخطيط جعل الاتحاد السوفيتي لا ينصر علي صبري، لأن الفائدة المرجوة له من هذا التكامل في صورة الاتحاد بين القاهرة ودمشق وطرابلس، وعلى أساس من معاهدة الصداقة بين موسكو والقاهرة.. كل ذلك أعطى الاتحاد السوفيتي بعض الظن بأن مناصرة علي صبري لا تفيد بقدر ما يستفيد من مصر الصديقة له. أي من أنور السادات، ومن حافظ الأسد وهو يخطو خطوات إلى هذه الصداقة ومن معمر القذافي الذي سيسير إليها. من هنا استطاع أنور السادات أن ينتصر باسم الاتحاد، وبتلكؤ الاتحاد السوفيتي عن.. مناصرة علي صبري رغم وجود الخبراء والعسكريين، فكانت هذه المصادفة، أو كان هذا التخطيط مفيداً لأنور السادات، وجالباً للأرزاء على الأمة العربية.. سواء كان بأسلوب الاستقطاب أو بأسلوب التسهيلات، أو بأسلوب الصداقات. |
أفليس رزءاً كبيراً أن يكون انفصال الوحدة العربية جريمة جرَّت أثقالها على العرب إلى الآن، وأن يكون الاتحاد أداة لأرزاء ما زالت تعيش في أثقالها الأمة العربية؟ |
إن التاريخ يجب أن يُكْتَب بصدق.. عاطفة يحرسها عقل يحجر انسيابها، وعقل تواكبه العاطفة، فالإسراف بالتعامي عن الأرزاء، ولا تطرف يذكر المحاسن، دون أن نذكر الأخطاء جالبة الأرزاء.. |
ـ صورة: |
كان شعار الاتحاد بين دمشق والقاهرة وطرابلس (صقر قريش) يوضع على العلم.. مع أن الصقر لم يكن شعاراً عربياً من فجر التاريخ إلى دهر التاريخ، فالشعار العربي هو النسر تجدون صورته على قصر البنت في حجر ثمود، ولعلّ الكنعانيين والفينيقيين قد أعاروه إلى قبائل الجرمن في الحرب البونية التي انبهم تاريخ أسبابها وكيف سميت فاتضح الآن أنها كانت الحرب بين العرب الكنعانيين والفينيقيين، وقبائل الجرمن ومن إليهم حتى مدينة (بون) اسماً عربياً سميت به بون الألمانية باسم (بون) العربية اليمانية بين صنعاء والحديدة. |
أما الصقر فقد حرصت عليه دمشق تفرضه على الاتحاد لأنها تلبس في تاريخها الفخر بصقر قريش عبد الرحمن الداخل، كأنما دمشق وقد نشأ فيها عبد الرحمن الداخل هي التي فتحت الأندلس أو عمرت الأندلس.. إن لها بعض ذلك كقيادة، ولكن مسيرة الجيش الفاتح لشمال إفريقيا والأندلس كانت من الفسطاط، فقبائل الأندلس لم تكن شامية وإنما كانت شامية - إفريقية - من الجزيرة كلها حتى حضرموت. |
|