شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أوروبا وعقدة الذنب
حين أسقطت اليابان قنابلها تضرب الأسطول الأميركي في (بيرل هاربر) كنت في مجلس أزور شخصية لها وزن، وكان في المجلس شيخ من أشياخنا له وزن أيضاً، فإذا هو يقول:
ـ اليوم.. أنا سعيد بأن تضرب دول شرقية أسطول دولة غربية.
قال ذلك شماتة أو تشفياً أمام سلوك الغرب كله في هذا الشرق استعماراً، وإذلالاً وتفريقاً وتشريداً، إلى آخر ما هنالك كأنه جسد الماضي والحاضر في مشاعره حين قال كلمته. ولكني أزحت الماضي والحاضر من مشاعري، فاستيقظ المستقبل كأنما مشاعري تسأل: وكيف يكون الحال إذا ما انتصر المحور، وهزمت دول الحلفاء، وكيف يكون الحال حين تبسط اليابان سلطانها على الشرق؟
فحركت في أن أجيب.. فقلت: في واقع الأمر ليس هناك مشرق محدد، وليس هنالك مغرب كذلك، فهي المشارق والمغارب، فكل خط من خطوط الطول هو مشرق لمدة أربع دقائق بالنسبة لخط طول إلى المغرب، ثم.. إن العلاقة بيننا وبين أوروبا علاقة ثقافية، ونسبة من العقيدة الدينية، فالأوروبي تؤاكله، تتزوج من نسائه، أما اليابان ومن إليه فمجوسية بعيدة عن ثقافتنا وعن عقيدتنا.
ـ وأخذ يدير الحوار.. إذ قال: أنا معك فيما قلت، وإن كانت مثالية وأن تتعاطف مع.. الغرب على هذه الصورة. إن واقع الغرب مع آسيا وإفريقيا يوجب علي وعليك أن لا تكون معه فهزيمة بانتصار المحور على بريطانيا وفرنسا تزيح الاستعمار وتسقط الإمبراطوريات، ولئن أصبحت ألمانيا وإيطاليا دولتين تستأنفان استعماراً جديداً لهما، في ذلك الموقف الصعب ضد آسيا وإفريقيا، ولكنهما - أعني آسيا وإفريقيا - لربما تجد أن المخرج بنوع جديد من التعامل مع ألمانيا وإيطاليا واليابان.. لعلّه نوع جديد من الاستعمار.
ـ فقلت له: أنا لا أريد أن أكون كأحد عجائز الرباط (نحس دائر ولا نحس مستعمر).
ـ فلعلّ بريطانيا وفرنسا حين تخرجان من الحرب بالسلامة تصابان بالضعف.. تهتز الإمبراطوريتان ويزول الاستعمار.
ـ قال: إنك معي الآن مائة في المائة، فسواء انتصر المحور أو لم ينتصر، فعلى حد أمانيك فإن هذا الانتصار للمحور قد أسقط الإمبراطوريتين وأزال الاستعمار. قلت: كأنك بهذا كله تسبغ على هتلر مزايا، وهو أنه قد هزم كألماني، وانتصر كإنسان فهتلر عظيم إلى درجة أنه قد أسبغ على التاريخ تطوراً جديداً. هدم إمبراطوريات وأقام إمبراطوريات.
ـ قال: دعنا من هذا الحوار، وحتى لو ضعفت الإمبراطوريتان، فإنهما - ومع الأسف - تملكان من القوة ما تستطيعان به فرض الاستعمار الجديد على آسيا وإفريقيا.
هذا الحوار قد جرى في تلك اللحظة، فما هو الواقع الآن؟ الواقع.. إنه بعد الحرب العالمية الثانية، مارست بريطانيا وفرنسا. ومن إليها.. حتى ألمانيا المغلوبة، الأسلوب الجديد في ممارسة الاستعمار الجديد، فإن الاستعمار القديم لم تكن غايته التوسع في احتلال الأرض أو الطغيان على الإنسان فحسب، فالغاية الأولى هي عملية النزح من خيرات آسيا وإفريقيا وثرواتهما وعرق إنسانهما. وجاء الاستعمار الجديد تحقق به هذه الغاية.
الاستعمار القديم: إمساك السلاح بيد المستعمر. يحتل به الأرض ويستعبد الإنسان وينزح الثروات.
والاستعمار الجديد: هو في خلق المشاكل في كل من آسيا وإفريقيا لتكون الحروب المحلية لتتفوق أوروبا، ولتكون عملية النزح ببيع السلاح.
فالغاية واحدة، ولكن.. جاءت الأزمات المتلاحقة، فإسرائيل التي صنعتها بريطانيا واحتضنتها فرنسا.. ورضخت ألمانيا تعينها بملايين الماركات تحت ضغط عقدة الذنب، ولا زالت الولايات المتحدة في خط متوازن تحفظ من إسرائيل. بل وتنتصر لطغيانها.
إسرائيل هذه أصبحت هي التي تعرض عملية النزح مما يسمى المصالح إلى الجفاف، إلى العدم، فأصبحت أوروبا تعيش الآن عقدة الذنب، فقد اتضحت لها الحقيقة حين انقلبت إسرائيل كعامل لضمان مصالح الغرب.. إلى عامل تضيع به مصالح الغرب، وتتحقق به مصالح الاتحاد السوفيتي.
فإسرائيل لا تصادق الزمن، وإنما صديقها الوقت.. سنوات مع أوروبا، سنوات مع أمريكا وبدأت السنوات للاتحاد السوفيتي.
إن الزمن قد ضاع من دول الغرب، فهي تعيش الوقت الصعب.. بكل الكرب بين إذلال التبعية للولايات المتحدة، وإذلال الخوف من الاتحاد السوفيتي. كل هذا قد أيقظ عقدة الذنب في دول السوق المشتركة كلها، فما من دولة منها إلا ولها نصيب وافر من إشعال الحروب، واقتراف الذنوب.. لا تسأل عن إنسان آسيوي ولا إنسان إفريقي، كلهم مادة لنهب السلاح.. سواء كان سلاح حرب ضدهم، أو سلاح حرب يشترونه. عقدة الذنب.. ضغط اليهود بها على ألمانيا، فأعانت.. حتى أن إسرائيل اليوم تطلب المزيد من العون.. تريد أكثر من 250 مليون مارك. كأنها الجزية فرضها انتصار الحلفاء على ألمانيا.
عقدة الذنب.. تضخمت، فلم تعد قاصرة على الشعور بما أذنبوا على القارتين، وإنما هم أضافوا إلى ذلك ذنباً آخر حين وافقوا على شطر أوروبا شطرين: شطر يستعمله الاتحاد السوفيتي.. وشطر في فلك الولايات المتحدة. حتى ألمانيا شطروها شطرين.
والصورة واضحة.. هذا الموقف مع بولندا، فحين احتل الاتحاد السوفيتي الأفغان زعمتم أنكم تحاربونه اقتصادياً، واليوم قد افتضحت الكذبة، فصرحتم بأنكم ستحاربونه حرباً اقتصادياً على صورة قوية.. كأنما الأفغان وقد ملأتم الدنيا صراخاً معها لم تكن كبولندا.. ذلك أن بولندا غصة في الحلق إن دانزج أشعلت الحرب العالمية الثانية، فهل تجازفون ضد الاتحاد السوفياتي.. لا لتكون الحرب العالمية الثالثة، وإنما ليتحرك حلف وارسو فتطلبون من الاتحاد السوفيتي المعذرة والمغفرة.
إن كل ذلك.. تتحمل به دول أوروبا الغربية الرزايا والإذلال، كأنما هو العقاب لما صنعوا من قبل، فهل بقي أمل في أن تكفر أوروبا الغربية عن ما أذنبت نحو العرب؟ فلولا العرب في الحرب العالمية الأولى لتأخر انتصار الحلفاء إن لم اقل بهزيمة الحلفاء، ولكن الغطرسة والجبروت، وفي بريطانيا بالذات قد سمحا لها بأن تخون العهد، فتمزق العالم العربي، وتمنع إسرائيل وعد بلفور.
هل بقي أمل مرة أخرى أن تقف دول أوروبا الغربية موقفاً صلباً لا تضغط به على إسرائيل وحدها، وإنما تضغط على الولايات المتحدة.. ليس بعامل إنقاذ العرب، أو الوفاء لهم وإنما بإنقاذ أنفسهم من الدمار.
حين تضيع منطقة الشرق الأوسط، فعلى صناعة الدول الغربية السلام.. فإن إسرائيل والاتحاد السوفيتي أشد نكاية على بريطانيا وفرنسا ومن إليهما من النازية والفاشية.
كانت بريطانيا وفرنسا في مواجهة النازية والفاشية تملكان من القوة ما تحملنا به الضربات وما حقق الانتصار بعد. أما اليوم، فالقوة ليست كما هي بالضبط. إن القوة تكمن في قول الدول الغربية للولايات المتحدة. لقد كنا في الحربين - الأولى والثانية - في حاجة إلى الولايات المتحدة. أما اليوم - وتجاه حلف وارسو - فإن الولايات المتحدة في حاجة لنا نحن دول الغرب، فحين نتخلى أو نغلب تتحقق المأساة، إن لم تكن الكارثة بشعب الولايات المتحدة.
فبيد الولايات المتحدة الآن، كما هو في أيديكم، إن تمتصوا عقدة الذنب لتريحوا أنفسكم من الدمار حين يسقط غرب آسيا.. كشرق افريقيا في يد الاتحاد السوفيتي.
ـ صورة:
لكي تكون نظيفاً في أعين الناس.. ينبغي أن تكون لابساً القذارة من قمة رأسك إلى أخمص قدميك. فكثير من ناس اليوم يتمرغون في الأوحال، ويكرمون لابس الأقذار.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :679  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 847 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج